الإسلام والليبرالية.. وبُعد المشرقين (1)
إحسان الفقيه
سارَتْ مُشرِّقَةً وسِرْتُ مُغَرِّبًا
شَتَّانَ بينَ مُشَرِّقٍ ومُغَرِّبِ
بينما يرى الشاعر أن المشرق والمغرب لا يجتمعان، فإن هناك من أمتي من توهم وأوهم، أن الإسلام قد يجتمع ويتفق ويتآلف مع المناهج البشرية.
دوافع الجمع بين الإسلام والمناهج الأخرى:
الجمع بين الإسلام وما يناقضه من المناهج الأخرى رغبة محمومة تعتري أولئك الذين أرادوا تمرير الأفكار المستوردة الدخيلة، بإلباسها ثوبا مقبولا لدى المجتمعات الإسلامية والعربية، بعد أن فشلوا في تعميمها هكذا مجردة صريحة.
وبعضهم مدفوع بسوء فهم للإسلام ونظرة تشككية في منهجه السامي، حيث يرى أن الإسلام مكانه بين الخيام في الصحراء بالقرون البائدة، ولا يصلح منهاجه لهذا العصر الذي ارتاد فيه الإنسان الفضاء الخارجي، وشهد ثورة تكنولوجية عارمة، وصار العالم كقرية واحدة كما عبر الفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهان، وهي العبارة المتداولة في أوساط العولمة.
وبعضهم قد أتت الهزيمة النفسية أمام الغرب على روح الصمود لديه أمام تلك الغارة المستمرة الشرسة على الإسلام، فسعى للتقارب مع المناهج الغربية، بل وأسلمتها وشرعنتها، بما يحقق له وهم التعايش السلمي، غير عابئ بتفريغ الإسلام من محتواه من أجل ذلك الوهم.
اشتراكية الإسلام…
اليسار الإسلامي…
أسلمة العلمانية…
هذه بعض الشعارات التي رفعت للجمع المتعسف اللامنطقي بين الإسلام وبين تلك المناهج التي تخالفه، إلا أن أكثرها تغريرا ورواجا هو الإسلام الليبرالي أو الليبرالية الإسلامية، التي تسعى لتوليفة عصرية بين الإسلام وبين الليبرالية.
وقبل أن أطرق القضية، أجدني كالعادة مضطرة للتعريج على شأني الخاص، فطالما أنني أتحدث عن الإسلام، فحتما سوف تشرئبّ أعناقٌ لأن تسدي لي النصيحة أو تلفحني بها لأنني متبرجة ولا يليق بي أن أتكلم باسم الإسلام.
وأكرر: الحجاب فريضة أقرّ بها، وأحبها، وأنافح عنها، ولستُ متمردة على تلك الشعيرة، ولست علمانية ولا ليبرالية ولا ملحدة، ولست ملزمة بأن أبدّد حيرتك، ولستَ ملزما بأن تقبل حديثي عن الإسلام، لكن قبلها أعيد على مسامعك أن كلمة الحق والذبّ عن الإسلام ليس حكرا على أحد، ولا يمنع أي مسلم من القيام به لمجرد أنه يحمل في عبادته أو سلوكه نقصا، وفي النهاية أسدي النصح لعاذلي على قاعدة (اعمل بعلمي وإن قصّرت في عملي ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري).
أعود إلى الشأن العام، والحديث عن سراب الجمع بين الإسلام والليبرالية.
ماهية الليبرالية والأسس التي تقوم عليها:
تعددت تعريفات الليبرالية، وهي رغم تعددها يشوبها الغموض الذي ينسحب على كل التيارات الليبرالية، فكما ورد في الموسوعة البريطانية: “نادرا ما توجد حركة ليبرالية لم يصبها الغموض، بل إن بعضها ينهار بسببه”.
عرفها المفكر الفيلسوف جان جاك روسو بأنها: الحرية المطلقة في أن نطبق القوانين التي اشترعناها نحن لأنفسنا.
وعرفها الفيلسوف توماس هوبز بأنها: غياب العوائق الخارجية التي تحد من قدرة الإنسان على أن يفعل ما يشاء.
وهي عند المفكر هالفي: الاستقلالية عن العلل الخارجية.
عرفها د. سيار الجميل بقول:
“مذهب فكري وسياسي ينادي بالحرية المطلقة في الميدان الاقتصادي والسياسي والاجتماعي”.
وهي في المعجم الفلسفي: “نظرية سياسية ترقى إلى مستوى الأيدولوجية، إذ تزعم أن الحرية أساس التقدم فتعارض الفلسفة المغلقة سواءًأكانت دنيوية أو دينية”.
فالأسس الفكرية التي تقوم عليها الليبرالية هي “الحرية” و”الفردية”، وهو ما يميزها عن المذاهب الفكرية الغربية الأخرى، فيما تتفق معها في أساس ثالث وهو “العقلانية”، فهي إذن حقيقة مركبة من الحرية الفردية العقلانية.
وبناء على هذه التعريفات يمكن استنتاج ما يلي:
الليبرالية تجعل الفرد محورها وتقدسه وتجعله مصدرا للقيم.
الليبرالية ترفض الخضوع لأي مؤثر أو قيد خارجي ولو كان الدين.
الليبرالية منظومة شاملة لنواحي الحياة (سياسية اقتصادية فكرية اجتماعية…).
أسس متناقضة:
الليبرالية ليس فيها حق مطلق، والحرية تقتضي عدم القطع واليقين، فمن ثم تكفل للفرد أن يعتقد ما يشاء وترعى الدولة ما يعتقد وعدم تكفيره ولو كان ملحدا، وهذا ينسف أساس المعتقد الإسلامي، الذي يجمع الناس على عبادة إله واحد وفق شريعة سماوية ناسخة، نعم هو لا يكره الفرد على اعتناقه ابتداء، لكنه يحظر عليه الخروج منه حتى لا تكون فتنة بالمجتمع المسلم، بالإضافة إلى أنه لا يرعى العقائد الباطلة، بل يوجه إلى إصلاحها.
وكما قيل: الليبرالية كصانع صنم العجوة، تنسف مبدأ الحريات إذا مالت الدفة لصالح الدين، فقل لي بربك، هل رأيت الليبراليين المترنمين بالحريات يوافقون رأي الأغلبية إذا كانت لصالح الفكرة الإسلامية، تراهم يلتفون ويحذرون من الأصولية الإسلامية والدولة الدينية وهو واقع مشاهد؟
والليبرالية كذلك تجعل الفرد أساس القيم، ومن ثم كانت الأخلاق والقيم في ظل الليبرالية نسبية، تختلف باختلاف الزمان والمكان، فما تعارف عليه الناس من أنه قيمة إيجابية فهو كذلك، لذلك كانت نظرية العقد الاجتماعي لـ “روسو” هي أبرز النظريات المعبرة عن الليبرالية، حيث يصاغ هذا العقد باتفاق المجتمع وفقا لما يراه محققا لمصالحه بمعزل عن أي مؤثر خارجي ولو كان الدين.
وهذا قطعا يتعارض مع الإطار القيمي والأخلاقي في الإسلام، والذي يتسم بالربانية، فالقيم والأخلاق تدخل ضمن إطار الأوامر والنواهي الشرعية التي نزلت من عند الله تعالى، وكل القيم الإيجابية من موروثات الأمم والشعوب التي لا تشذّ عن الفطرة السليمة، أكد عليها الإسلام وزاد حسنها عبقا.
يا دعاة الإسلام الليبرالي:
إذا قلتم بأن الزنا مباح فلستم بمسلمين، وإن قلتم أنه غير ذلك فقد ناقضتم ليبراليتكم.
إذا قلتم بإباحة الربا في أصله فلستم بمسلمين، وإن قلتم غير ذلك فقد ناقضتم ليبراليتكم.
إذا قلتم بإباحة زواج المحارم فلستم بمسلمين، وإن قلتم غير ذلك فقد ناقضتم ليبراليتكم.
فعلى أي أساس يتم الجمع بين الإسلام والليبرالية، كونكم تخضعون لتأثير الدين وإطاره القيمي والأخلاقي فقد فرغتم الليبرالية من محتواها، فما الذي يجبركم على رفع لوائها؟
وكونكم تقرنون الإسلام بالليبرالية وتمرقون من تعاليمه فلا حاجة بكم إلى هذا الاقتران بعد أن رضيتم من الإسلام اسمه، فانزعوا عن ليبرايتكم ثوب الإسلام.
حدثونا عن الليبرالية الاجتماعية كيفما تشاؤون وقولوا إنها لا تتعارض والإسلام، لكن لا علاقة لنا بالمسميات، ننظر في ترجمة تلك الشعارات، فإن وافقت تعاليمه قلنا بها، وإن خالفته فلا تلزمنا.
الليبرالية كما تقولون منهج شامل، فليس هناك فرع منها إسلامي وفرع منه علماني، لذا محاولة الترويج للإسلام الليبرالي خدعة واهية تنسف من أساسها.
وللحديث بقية…
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق