الأحد، 1 نوفمبر 2015

طارق البشري


طارق البشري


حين اعترض الخديوي عباس حلمي الثاني على تعيين أحد العلماء شيخا لواحد من أروقة الأزهر، فإن شيخ الأزهر رفض الاعتراض وقال له: "إذا كان الأمر لكم في الأزهر فاعزلوه ــ يقصد شيخ الرواق ــ وإن كان الأمر لي دونكم فهذا الذى اخترته ولن أحيد عنه"، ثم قدم استقالته.

الحوار جرى في الجامع الأزهر عقب صلاة الجمعة في أحد أيام عام 1904. كان على رأس الأزهر آنذاك الشيخ سليم البشري، فقيه زمانه الذى ضرب به المثل في العلم والزهد.

الشيخ سليم أنجب ابنه عبد الفتاح الذي انتمى إلى زمن القضاء الشامخ ورأس محكمة الاستئناف. وظل يذهب إلى عمله كل يوم مستقلا القطار والتاكسي. وهو من رفض سيارة الحكومة وحراستها أثناء محاكمته لقتلة المستشار أحمد الخازندار، قائلا إن ذلك يقلل من هيبته حين يبدو أمام المتهمين خائفا وبحاجة إلى حراسة. كما أنه يجرّح استقلاله حين يركب سيارة الحكومة وهو ينظر قضية المجني عليه فيها موظف بالحكومة.

طارق الابن الرابع للمستشار عبدالفتاح البشري خرج من عباءة الشيخ والشامخ ولم يذهب بعيدا. إذ حين أحال الرئيس حسني مبارك إحدى القضايا إلى القضاء العسكري الذي أصدر فيها حكمه بالإعدام، فإنه أصدر حكما بإلغاء قرار رئيس الجمهورية حين عرض الأمر على محكمة القضاء الإداري التي كان يرأسها. وكانت حجته في ذلك أن القانون أجاز إحالة نوع معين من القضايا إلى القضاء العسكري في حالة الطوارئ. 

ولكن قرار رئيس الجمهورية أحال قضية بذاتها إلى قاض ومحكمة بذاتها. وهو ما يخل بالعدالة ويعد مخالفة تجعل القرار مشوبا بالبطلان.
صدم القرار الكهنة الذين لم يتوقعوا أن يصدر قاض حكما ببطلان قرار أصدره فرعون فتعرض للهجوم من بعض الكتاب وأوعز الكهنة إلى وزير العدل آنذاك أن يعالج الأمر من خلال صنف آخر من القضاة ذاع أمرهم وارتفعت أسهمهم فيما بعد. فحققوا لهم ما أرادوا بإلغاء الحكم وتنفيذ الإعدام استجابة للتوجيهات العليا.

لم يبال طارق البشري بالترهيب الذى تعرض له. الذى تمثل في عربة الشرطة التي رابطت أمام بيته ولا بمن ظل يتابعه حينما ذهب. إذ لم يتزحزح عن موقفه.
حين عرض عليه بصورة عاجلة أمر قانونية التمديد لرئيس مجلس إدارة الأهرام بعدما صدر قرار رئيس الجمهورية بمد سن الإحالة إلى التقاعد من 60 إلى 65 سنة فقد ارتأى بطلان قرار التمديد للرجل لأنه صدر بعد بلوغه سن الستين. وفرصة الاستفادة منه كانت متاحة قبل بلوغه تلك السن. وحين تسرب موقفه إلى المراجع العليا في محيط الكهنة فإنه تلقى رسالة دعته إلى تأجيل قراره لبعض الوقت حتى تمر الأزمة. وهو ما استراب منه لأن استفتاء مجلس الدولة في الأمر كان عاجلا في البداية. 

لذلك فإنه لم يبال بالتوجيهات وسارع إلى إعلان القرار الذى رفض التمديد واعتبره غير قانوني. وقال إنه طلب منه الرأي في الموضوع من الناحية القانونية وقد فعل أما حكاية التأجيل فلا شأن له بها لأن الحسابات فيها سياسية.

في هذا الصدد يروى الدكتور مصطفى الفقي الذى كان أحد معاوني الرئيس مبارك، أن طبيب الأسنان المعالج للرئيس طلب مساعدته في تحويل ابنه من كلية إلى أخرى في جامعة القاهرة، فطلب مبارك من الفقي أن ينقل هذه الرغبة مصحوبة بتزكية منه إلى المستشار طارق البشري، الذى كان آنذاك مستشارا قانونيا لرئيس الجامعة. وحين فعلها فإن البشري وجد الطلب غير قانوني فطلب منه أن يبلغ الرئيس اعتذاره عن الاستجابة لرغبته وهو ما حدث.

ظل طارق البشري ثابتا على موقفه طوال 44 سنة قضاها في عمله بمجلس الدولة. ورغم أنه حرم من مزايا وفرص كثيرة تمتع بها أقرانه إلا أنه رفض كل إغراءات الإعارة للعمل خارج مصر. وبعضها كان مما يتعذر الصمود أمامه. وحين حل عليه الدور في رئاسة مجلس الدولة جاءت لحظة تصفية الحساب معه. كان ذلك في عام 1992 حين خلا المنصب. 

وطبقا للأعراف المتبعة فقد استحق أن يشغله أقدم النواب الأول لرئيس المجلس. وكان الأقدم ـالمستشار على الخادم ـ الذي كان معارا آنذاك إلى سلطنة عمان. وكان التالي له مباشرة طارق البشرى بفارق أشهر قليلة في الأقدمية. ولكن المستشار الخادم كان راغبا في الاستمرار بمسقط وعازفا عن شغل المنصب. فأبلغ طارق بذلك وأرسل ثلاثة خطابات أعلن فيها قراره، وجهها آنذاك إلى رئاسة الجمهورية ووزير العدل ورئيس مجلس الدولة المنتهية ولايته. إلا أن الإصرار على استبعاد البشري جعل الرئيس مبارك يبعث برسالة إلى السلطان قابوس حملها إليه وزير الأوقاف في ذلك الحين يطلب فيها إنهاء خدمة المستشار الخادم إذا لم يوافق على العودة إلى مصر وتولي المنصب. وتحت الضغط عاد الرجل أو أعيد، وحرم طارق البشري من تولي رئاسة مجلس الدولة.

المدهش أن الرجل الزاهد استقبل كل ذلك بهدوء بالغ ونفس راضية.
ذلك أن المناصب والطموحات الوظيفية لم تشغله يوما ما. فقد تجاوزت اهتماماته ساحة القضاء وأطلق أشرعته في فضاءات التاريخ والفكر السياسي، وكما أثرى الفقه القانوني بأحكامه المرجعية، فإن عطاءه جاء وفيرا ومميزا في نظراته التاريخية ودفاعه عن الجماعة الوطنية والإصلاح السياسي وتأصيل التمييز بين الوافد والموروث. إلى غير ذلك من الفضاءات الرحبة التي استعرضها زملاؤه وتلاميذه في الندوة التي أقاموها بعد انتهاء ولايته القضائية عام 1998 (صدرت بعد ذلك في كتاب أصدرته دار الشروق بعنوان "طارق البشري قاضيا ومفكرا").

رغم أنه ظل منارة مضيئة طول الوقت. فإن الدولة المصرية لم تكرمه يوما، وإنما حاصرته وحاربته، لكنه حفر لنفسه مكانة رفيعة في تاريخ مصر والعالم العربي. وحين يختم اليوم (الأول من نوفمبر) عامه الواحد والثمانين فمن حقه علينا أن نشد على يديه معبرين عن المحبة والتقدير والامتنان. سائلين الله له العفو والعافية وطول العمر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق