خطبة الجمعة: التلبيس..في رفض «التسييس»!
نسبت جريدة عكاظ السعودية (7 فبراير 2016) إلى فهد الخليفة، مدير معهد الأئمة والخطباء بوزارة الشؤون الإسلامية في المملكة، قوله إنه جرى «ضبط عدد من الخطباء والدعاة استغلوا المنابر الدعوية للترويج للسياسة».
لم تضع الجريدة التصريح بين مزدوجين، ما يعني أنها أعادت صياغته بطريقتها. يبدو هذا الكلام مليئاً بالألغام التي سنحاول تفكيكها.
تعبير «ضبط» يشير إلى مجهود «أمني» لا فكري وتثقيفي، كما هو الدور الجدير بمعهد للخطباء.
والتعبير يوحي أيضاً أن المنبر يحمل «خطراً كامناً»، ولذا، لا بد من «ضبطه».
الفعل «استغلوا» يحمل هو الآخر دلالة سلبية، فالمستغل شخص انتهازي ذو أجندة خفية، يمارس عملاً غير مشروع.
كلمة «الترويج» لم تخترها الجريدة عبثاً، فقد اقترنت في الخطاب المحلي بالمخدرات رغم أنها شائعة في مجال تسويق المنتجات والمعلومات.
أما مفردة «السياسة»، فيدل سياقها على أن تناول الشأن السياسي في خطبة الجمعة أمر مرفوض.
هذا الكلام يفتح الباب على مصراعيه لتساؤلات مشروعةعدّة:
هل حديث خطيب الجمعة في شأن سياسي ممنوع بالمطلق؟ إذا كانت الإجابة «نعم»، وهو ما يدلّ عليه تصريح المسؤول، فهل هذا يتسق مع «شمولية» الشريعة، ومع السيرة النبوية ومنهج السلف؟
الدولة السعودية ليست كياناً علمانياً يفصل الدين عن الدولة، وهي تحتضن الحرمين الشريفين اللذَيْن يتناول خطباؤهما باستمرار قضايا شأن عام (القدس، غزة، سوريا»، الإرهاب»، الوحدة، الفتنة).
ومن المعلوم أن السياسة لا يمكن فصلها عن المجالات الحياتية الأخرى كالاقتصاد والصحافة والتعليم والرياضة وحتى الفن. وبهذا، يصبح الحديث عن منع الخطباء من تناول السياسة أمراً شائكاً ومعقّداً، فضلاً عن كونه غير منسجم مع روح الدين الإسلامي وطبيعته.
تنقل «عكاظ » عن مدير معهد الأئمة والخطباء قوله: «...من المعيب أن ينحى (تقصد «ينأى») الخطيب عن المنهج الشرعي إلى منهج سياسي وحزبي لا يمكن قبوله».
مرة أخرى، هل من طبيعة المنهج الشرعي خلوّه من السياسة؟ أليست الشريعة نظام حياة يتناول جميع شؤون الفرد والمجتمع؟
أليست حتى المناهج التعليمية السعودية تؤكد أن الإسلام منهج شامل ينتظم الحياة الإنسانية من الطهارة حتى بناء الأمة؟
ثم ما المقصود بالمنهج «الحزبي»؟ وكيف يمكن تصنيف قضية يتناولها الخطيب بالحزبية؟هل كل شأن سياسي حزبي بالضرورة؟ هل الدعاء لأهل غزة المحاصَرين، مثلاً، سياسة أم «حزبية»، أم الاثنان معاً؟ أليس الدعاء لولي الأمر سياسة، وهي الفقرة المهمة من خطبة الجمعة التي طالما عدّها خلفاء المسلمين وولاتُهم عبر القرون رمزاً لشرعية حكمهم؟
استنكر خطباء الحرمين وغيرهم من خطباء المملكة مراراً جرائم العنف التي ارتكبها متطرفون داخل البلاد وخارجها، مشدّدين على براءة الإسلام منها ومن فاعليها، فهل كانوا في خطبهم تلك «يسيّسون» المنابر؟ ألم تتهم أطياف مجتمعية شتى الخطباء بالسكوت عن إدانة التكفير والتفجي، فكيف يطالبونهم بمناقشة قضايا سياسية، ثم إذا ناقشوها لاموهم على «التسييس»، أم أن هناك جزءاً من السياسة حراماً، وجزءاً لا بدّ منه؟
لا ريب أن خطبة الجمعة بحاجة إلى إصلاح وتقويم (الحديث عن إصلاح الميديا/الإعلام أهم بالطبع).غيرأن تعبيرات مثل «تسييس المنبر»، أو «خلط الدين بالسياسة» ليست تعبيرات «شرعية»، ولا يجوزاعتقادها والتلفظ بها؛ لأنها ببساطة تعني نقصان الشريعة، ومساواتها بالمسيحية الغربية التي عُزلت عن الشأن العام لعجزها عن إدارته.
انتقاد بعض كتّاب الأعمدة لتناول بعض الخطباء قضايا سياسية ليس إلا تعبيراً عن الضيق بتأثير خطبة الجمعة ومحاولة تحجيمه تحت شعار»رفض التسييس»، وهو تعبير هلامي، فضفاض، غير قابل للتحقيق، فضلاً عن كونه «غير إسلامي».
إن أعظم شيء في الخطابة هواهتمامها بقضايا الجمهور، واستجابتها لتطلعاته.والإصرارعلى عزل خطبة الجمعة عن السياسة يعني عزلها عن هموم الناس، وهو ما يشلّ أداء هذه الوسيلة الإعلامية الأبرز في الحضارة الإسلامية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق