قبل الحرمان من رغيف العيش
عامر عبد المنعم
كل الشواهد تؤكد أن مصر مقبلة على مجاعة، وكل المؤشرات الاقتصادية تدل على أن المسكنات التي تقوم بها الحكومة لن تصمد أمام الانهيار الذي يشعر به المصريون ووصل إلى درجة تقترب من الانفجار؛ فلا توجد خطة ولا توجد ملامح لأي مشروع لمواجهة الجوع الذي بدأ يفتك بقطاعات واسعة من الشعب، فالزراعة تم إفسادها، والإنتاج الصناعي متوقف، بل والغريب أن الحكومة بدلا من إعلان التقشف فتحت باب الاقتراض وبيع أصول الدولة.
عندما رأى ملك مصر في المنام السبع بقرات العجاف يأكلن السبع السمان لم يهدأ له بال ولم يشعر بالراحة، ورغم أنها رؤيا منامية وليست حقيقة يقينية انزعج منها أشد الانزعاج، وظل يبحث عن تأويل الرؤيا، حتى توصل إلى سيدنا يوسف الذي فسر له ما رآه.
ماذا كنا سنقول لو أن ملك مصر قرر مواجهة المجاعة - كما يحدث الآن- ببيع الأراضي الصالحة للزراعة للأجانب، والتخلص من المصانع والشركات، وطرح ممتلكات الشعب من المرافق العامة في البورصة، وبيع المستشفيات وخصخصة التعليم؟
لم يدَع ملك مصر أنه يفهم في كل شيء، ولم يجتهد في تبديد الأرصدة في مشروعات وهمية بزعم رفع المعنويات، ولم يحرض الشعب بعضه على بعض حتى ينسوا المجاعة القادمة، ولكن على الفور قرر الملك الحريص على شعبه تسليم الوزارة ليوسف الحفيظ العليم، ليدير خطة مواجهة المجاعة والاستعداد بزراعة القمح لتأمين رغيف الخبز، خط الدفاع الأول للتصدي للجوع، ووضع الملك كل سلطات الدولة تحت إمرة قائد خطة الإنقاذ.
لقد سجل القرآن الكريم أحسن القصص، وهي تجربة سيدنا يوسف عليه السلام، التي تعد أعظم التجارب في التخطيط الاستراتيجي، والتي تحتاجها مصر هذه الأيام.
يوسف ومواجهة المجاعة
وضع سيدنا يوسف خطة مدروسة محكمة، لمدة 15 عاما، وانخرط الجميع في التنفيذ بحماس، رغم أن التهديد غيبي مستقبلي، وليس بناء على معلومات مؤكدة ومقدمات مادية كما نراها اليوم.
جاءت هذه الاستجابة السريعة من السلطة والشعب لأن المشروع واضح، وزراعة الأرض لا تحتاج إلى إقناع، والطاقات البشرية تحتاج فقط إلى من يوظفها بشكل صحيح، ويشركها في صناعة الأمل الحقيقي بالأفعال وليس بالحملات الإعلامية المضللة والزائفة.
تكونت خطة سيدنا يوسف من 3 محاور كالآتي:
1- التوسع في زراعة القمح وتخزينه لمدة 7 سنوات، فانخرط المجتمع بكل قواه في زراعة المحصول الاستراتيجي، وعندما يأتي موسم الحصاد يجعلوا القمح في السنابل ليتحمل التخزين لمدة طويلة ولا يفسد.
2- التوزيع من المحصول لإطعام الشعب في سنوات الرخاء بشكل مدروس لمدة 7 سنوات دون التعدي على المخزون الاستراتيجي، وعندما جاءت سنوات القحط بدأ الناس في تناول ما ادخروه بنظام حسابي دقيق وعدالة في التوزيع، وهنا نجد أن الخطة التي وضعها سيدنا يوسف حققت وفرة وفائض كفى الشعب المصري والشعوب المجاورة، أي الاكتفاء الذاتي والتصدير.
3- لم ينس سيدنا يوسف في العام الأخير الإبقاء على جزء من المخزون لاستخدامها كبذور للزراعة بعد انتهاء القحط.
مزرعة الرومان
ما فعله سيدنا يوسف تكرر في عهد الرومان، فمصر كانت هي مزرعة القمح التي تطعم الإمبراطورية الرومانية المترامية الأطراف، فكانوا يزرعون الصحراء الغربية، ومازالت الآبار الرومانية التي كانت تروي أراضي القمح موجودة حتى الآن في مطروح وغرب مصر.
ويوجد بالصحراء الغربية ملايين المساحات الصالحة للزراعة، سواء التي زرعها الرومان أو التي زرعها سيدنا يوسف، ولكن يبدو أن هناك فيتو غربي ضد زراعة القمح وضد فتح الباب أمام التمدد السكاني غربا لأهداف مرتبطة بمخططات التقسيم التي أعدتها دوائر أمريكية وصهيونية تهدف إلى فصل غرب مصر.
وكان طبيعيا بعد تفاقم الانهيار الاقتصادي والغلاء ونقص الإنتاج الزراعي أن تتجه الأنظار إلى استغلال الأراضي الصالحة للزراعة في الصحراء الغربية، وهنا قطعت الدوائر الخارجية علينا الطريق من خلال دوائر محلية وقرروا مصادرة الحلم باختراع مشروع المليون ونصف المليون فدان لبيع 90% منه للمستثمرين والشركات الأجنبية.
الرغيف والأمن القومي
لكي تنجو مصر من المجاعة ليس أمامها إلا العودة إلى زراعة القمح، فتوفير رغيف العيش هو أساس الأمن القومي لأي دولة، فالمواطن المصري قد يصبر على اختفاء السلع، وقد يستغني عن بعض مطالبه طمعا في الأمل، ولكن لا صبر على اختفاء الرغيف أياما، لأن الجوع بعده الموت، ولذلك فإن الذين يطالبون المواطن بأن يعيش على الماء لمدة 10 سنوات إنما يستهزءون ويستخفون بالشعب في زمن المحنة.
لم يعد من المقبول أن تستمر مصر كأكبر مستورد للقمح في العالم، فهي تستورد 10 ملايين من أطنان القمح سنويا، من إجمالي الاستهلاك (15 مليون طن) وإذا كانت تشتري اليوم القمح بالدولار فإنها غدا لن تستطيع بسبب أزمة الدولار الناتجة عن توقف مصادر العملة الصعبة.
روشتة الإنقاذ ليست صعبة، والإمكانات في مصر والسودان كفيلة بحل سريع لمشكلة القمح، ولكن هذا يحتاج إلى إرادة وإدارة مخلصة، محبة لوطنها، قادرة على تحمل مسئولياتها تجاه شعبها.
***
في ظل تركيبة للسلطة الحالية لا تبدو أي حلول؛ فلا يمكن إنقاذ مصر بقيادة تنفذ أجندات الخارج، تتكون من موظفين تابعين للمؤسسات الدولية التي أوصلت مصر إلى حالة التردي التي نشاهدها اليوم، فهؤلاء الموظفون يعملون لصالح من أتوا بهم، وكل ممارساتهم تؤكد على أنهم سبب الانهيار.في ضوء الحقائق والمعلومات المشاهدة بالعين فإن مصر تندفع نحو المجاعة، ومن يمسكون بالدفة يدفعون في هذا الاتجاه، بوعي وبدون، ولم يعد واضحا أمامنا من نخاطبه ونقدم له النصائح، فلا أحد يسمع، ولا أحد يرى، ولا نشعر أن هناك من يحنو على هذا الشعب، فنحن في زمن البيع والتفريط حتى بات كل شيء في مصر معروضا للتصفية، حتى الإنسان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق