في البَدء كانت المفاصلة
علي فريد
رُفع الآن أذان المفاصلة حسب التوقيت المحلي لمدينة الموصل وعلى المخلفين من الأعراب في عواصم القهر مراعاة فروق التوقيت!!
أولُ النصر المفاصلة، وأولُ المفاصلة الابتلاء، فإذا ابتلاكَ فقد هيَّأكَ للنصر! سُنّةٌ ربانيةٌ لا تكاد تتخلف! وكما يُرسلُ اللهُ رُسُلَه يُرسلُ رَسَائِلَه! وما على العباد سوى ضبط موجات التلقي، وقد أخطأ التلقي عن الله مَن لم يَرَ في الابتلاء سوى الابتلاء! وإن المؤمن لا يكادُ يطمئن على مَآلِه حتى يُبتلى في حَالِه!
وفرقٌ كبيرٌ في الحال والمآل بين الذين قالوا حين رأوا الأحزاب: "هذا ما وَعَدَنَا اللهُ ورسولُه وصدقَ اللهُ ورسولُه"،
وبين الذين قالوا :"مَا وَعَدَنَا اللهُ ورسولُه إلا غُرورا"!!
في حياة الأمم أزمنة بيضاء نقية لا يكمن نقاؤها في رخائها بل في شِدّتِهَا! هي أزمنةٌ تُراكمُ الوعيَ كما تُراكمُ المآسي؛ فإذا تلاقحت المآسي المتتابعة مع الوعي المتصاعد وُلدت (المفاصلة) تلك الأنثى التي لا تنجب سوى النصر!!
لم تكن (بدرٌ الكبرى) مجرد معركة انتصر فيها المسلمون على المشركين؛ بل كانت مُغتسلًا نفسيًا خالصًا غَسلَ اللهُ فيه نفوسَهم من أدران الابتلاء المكي؛ كانت حالة فريدة من إعادةِ التأهيل النفسي والمعنوي لهم!!
فالذين سُحلوا في رمضاء مكة، وجُلدوا في شعابها، ووُضِعت الصخورُ على صدورهم في وديانها، وطُرحوا على الجمر فلم يطفئ الجمرَ إلا وَدَكُ ظهورهم كانوا يحتاجون إلى دورة نفسية مكثفة تُخبرهم أنهم يستطيعون، وكانت بَدرٌ الكبرى هي تلك الدورةُ المغتَسل!!
كان لا بد لرويعي الغنم رضي الله عنه أن يرتقي ذلك المرتقى الصعب؛ فيطأ صدرَ أبي جهل بقدميه ثم يحتز رأسه، كان لا بد للعبد الحبشي رضي الله عنه أن يجندل أميةَ بن خلف، كان لا بد لعلي وحمزة رضي الله عنهما أن يقتلا عتبةَ وشيبةَ والوليد، كان لا بد للذين استُضعفوا أن يضربوا بأسيافهم هاماتِ الذين استضعفوهم ثم يلقوهم جيفًا نتنةً في قليب بدر، كان لا بد للمقيَدين السابقين في بطحاء مكة تحت العذاب أن يُقيِّدوا مقيدِيهم السابقين في الحبال أسرى أذلاء يقتلون بعضَهم ويَفدون بعضَهم ويمنّون على بعض.
وكان لا بد أن يفعلوا كلَّ ذلك بسلاح المسافر دون عدة أو عتاد- فقد خرجوا خفافًا للقافلة لا للحرب- وهو أنكى وأذل وأفضح للعدو المتغطرس الذي غُلب رغم إعداده، وأقوى وأعز وأشفى لصدور المؤمنين الذين غَلبوا دون استعداد.
وشفاء الصدور أول درجات العلاج النفسي للمستضعفين!!
كانت بدرٌ نصرًا ولم تكن فتحًا. فرقٌ كبيرٌ بين النصر والفتح!!
حديثو العهد بالاستضعاف قد يحرزون النصر إذا أخذوا بأسبابه، ولكنهم لا يحرزون الفتح. الفتح شيءٌ آخر؛ درجةٌ عليا من درجات العلاج النفسي المعتمد على تقلبات الواقع وتتابع الوقائع؛ حالةٌ متقدمة من الوعي المُفاصِلي الناتج عن الانصهار في أتون التدافع انتصارًا وانكسارًا؛ استنارةٌ عقليةٌ تزحف شيئًا فشيئًا إلى الأرواح والنفوس فَتَسلّها من العجز كما يَنسَلُّ الفجرُ من السَّحَر، وتسلخها من الاستضعاف كما ينسلخُ السَّحَرُ من العتمة، ومع كل حدثٍ (مفصلي) يتأسس وعيٌ (مُفاصِلي)، فتنفتح النفوس على عوالم أخرى لم تكن ترتادها، أحلامٍ أخرى لم تكن تألفها، ومع كل حلمٍ جديد يتساقط من النفوس أثرٌ من آثار مرحلة الاستضعاف ليحل محله أملٌ من آمال مرحلة الاستخلاف، حتى تغيم المرحلة الأولى في نفوس أصحابها كأن لم تكن!!
حينها فقط، يحدث الفتح!!
(أُحد، والأحزاب، والحديبية) كانت أحداثًا مفصلية أَهَّلت النفوسَ للفتح.
أقنع المشركون أنفسَهم بالنصر في أُحد، ثم شعروا بعد قليل أنه نصرٌ زائف. كانوا لا يزالون يفكرون بعقلية السادة الذين أسسوا للمسلمين مرحلة الاستضعاف.
في حياة الأمم أزمنة بيضاء نقية لا يكمن نقاؤها في رخائها بل في شِدّتِهَا! هي أزمنةٌ تُراكمُ الوعيَ كما تُراكمُ المآسي؛ فإذا تلاقحت المآسي المتتابعة مع الوعي المتصاعد وُلدت (المفاصلة) تلك الأنثى التي لا تنجب سوى النصر!!
لم تكن (بدرٌ الكبرى) مجرد معركة انتصر فيها المسلمون على المشركين؛ بل كانت مُغتسلًا نفسيًا خالصًا غَسلَ اللهُ فيه نفوسَهم من أدران الابتلاء المكي؛ كانت حالة فريدة من إعادةِ التأهيل النفسي والمعنوي لهم!!
فالذين سُحلوا في رمضاء مكة، وجُلدوا في شعابها، ووُضِعت الصخورُ على صدورهم في وديانها، وطُرحوا على الجمر فلم يطفئ الجمرَ إلا وَدَكُ ظهورهم كانوا يحتاجون إلى دورة نفسية مكثفة تُخبرهم أنهم يستطيعون، وكانت بَدرٌ الكبرى هي تلك الدورةُ المغتَسل!!
كان لا بد لرويعي الغنم رضي الله عنه أن يرتقي ذلك المرتقى الصعب؛ فيطأ صدرَ أبي جهل بقدميه ثم يحتز رأسه، كان لا بد للعبد الحبشي رضي الله عنه أن يجندل أميةَ بن خلف، كان لا بد لعلي وحمزة رضي الله عنهما أن يقتلا عتبةَ وشيبةَ والوليد، كان لا بد للذين استُضعفوا أن يضربوا بأسيافهم هاماتِ الذين استضعفوهم ثم يلقوهم جيفًا نتنةً في قليب بدر، كان لا بد للمقيَدين السابقين في بطحاء مكة تحت العذاب أن يُقيِّدوا مقيدِيهم السابقين في الحبال أسرى أذلاء يقتلون بعضَهم ويَفدون بعضَهم ويمنّون على بعض.
وكان لا بد أن يفعلوا كلَّ ذلك بسلاح المسافر دون عدة أو عتاد- فقد خرجوا خفافًا للقافلة لا للحرب- وهو أنكى وأذل وأفضح للعدو المتغطرس الذي غُلب رغم إعداده، وأقوى وأعز وأشفى لصدور المؤمنين الذين غَلبوا دون استعداد.
وشفاء الصدور أول درجات العلاج النفسي للمستضعفين!!
كانت بدرٌ نصرًا ولم تكن فتحًا. فرقٌ كبيرٌ بين النصر والفتح!!
حديثو العهد بالاستضعاف قد يحرزون النصر إذا أخذوا بأسبابه، ولكنهم لا يحرزون الفتح. الفتح شيءٌ آخر؛ درجةٌ عليا من درجات العلاج النفسي المعتمد على تقلبات الواقع وتتابع الوقائع؛ حالةٌ متقدمة من الوعي المُفاصِلي الناتج عن الانصهار في أتون التدافع انتصارًا وانكسارًا؛ استنارةٌ عقليةٌ تزحف شيئًا فشيئًا إلى الأرواح والنفوس فَتَسلّها من العجز كما يَنسَلُّ الفجرُ من السَّحَر، وتسلخها من الاستضعاف كما ينسلخُ السَّحَرُ من العتمة، ومع كل حدثٍ (مفصلي) يتأسس وعيٌ (مُفاصِلي)، فتنفتح النفوس على عوالم أخرى لم تكن ترتادها، أحلامٍ أخرى لم تكن تألفها، ومع كل حلمٍ جديد يتساقط من النفوس أثرٌ من آثار مرحلة الاستضعاف ليحل محله أملٌ من آمال مرحلة الاستخلاف، حتى تغيم المرحلة الأولى في نفوس أصحابها كأن لم تكن!!
حينها فقط، يحدث الفتح!!
(أُحد، والأحزاب، والحديبية) كانت أحداثًا مفصلية أَهَّلت النفوسَ للفتح.
أقنع المشركون أنفسَهم بالنصر في أُحد، ثم شعروا بعد قليل أنه نصرٌ زائف. كانوا لا يزالون يفكرون بعقلية السادة الذين أسسوا للمسلمين مرحلة الاستضعاف.
لم يتخيلوا مجرد وجود مستضعفيهم السابقين، فضلًا عن أن يسمحوا لهم بدولة وصولة وشوكة، ومن كان هذا حاله لا يُذهب غيظَ قلبِه سوى استئصال الشأفة وإنهاء الوجود. فتجمعوا للأحزاب عازمين على إنهاء صداع هذه الشرذمة المزمن، فلما خسروها وتلاعبت الريح بخيامهم قنعوا من الغنيمة بالإياب، وشيئًا فشيئًا بدأت تتأسس في نفوسهم فكرة (التغاضي) وتتساقط فكرة (الاستئصال)، وحسبك بهذا التأسيس هزيمةً وانكسارًا.
على الجانب الآخر، لم ينتصر المسلمون في أُحد انتصارًا خالصًا ولم يُهزموا هزيمة محضة، كانت أُحد هزةً نفسيةً عميقةً نبهتهم إلى أن انتصارهم السهل في بدر لم يكن ناتجًا عن عددهم أو عدتهم؛ بل كان أثرًا من آثار الاتباع الكامل والتسليم الخالص لله ولرسوله، وأنهم في النهاية بشرٌ من البشر يُكسَرون كما يَكسِرون ويَألَمون كما يُؤلِمُون، وأن الاتباعَ الكامل بعد المفاصلة الخالصة، والتسليمَ الخالص بعد الإعداد الممكن هو سلاحهم الأول في مناجزة العدو أو مطاولته، فمن اتبع انتفع ومن خالف خولف عليه!!
وكان هذا تأسيسًا نفسيًا أوليًا للفتح!!
أما الأحزاب فكانت ابتلاءً حقيقيًا بشعًا لا يكاد يُعرف له مثيلٌ في تاريخ المسلمين، ولأنها كانت كذلك فقد أسست في نفوس المسلمين لأول مرة فكرة استئصال شأفة المشركين وإنهاء وجودهم، لقد تبادلوا الأدوار النفسية الآن وبدأت فكرة إنهاء صداع المشركين المزمن تتصاعد في نفوس المسلمين: هذا الحصار لا يجب أن يتكرر مرة أخرى، هذه الشدة التي زاغت فيها الأبصار وبلغت فيها القلوب الحناجر وتلاعبت فيها الظنون بالنفوس لا يمكن أن يُسمح لها بالعودة، ولأن المطلوب كان أعظم من إمكانات الطالب؛ فقد حلت المطاولةُ في الأحزاب محل المناجزة في أُحد، ولعبت السياسةُ والخدعةُ دورَها في الحرب كما تلعب الحربُ دورها في السياسة، ثم انتهت الشدة بتنظيف داخل البيت من رجس اليهود الذين لا يطعنون إلا في الظهر!!
وكان هذا تأسيسًا نفسيًا آخر للفتح!!
جاءت الحديبية اختبارًا أخيرًا في الاتباع ذكّرَهم باختبار أحد، نجحوا فيه جميعًا بعد لأي كما نَجَوا من اختبار أُحدٍ بعد لأيٍ أيضًا، لقد كانت الحديبيةُ إلهيةً محضةً لا عمل للبشر فيها، تمامًا كبدر، إذ مقاييس البشر تستبعد انتصار ثلاثمائة أو يزيدون بسلاح المسافر على ألفٍ أو يزيدون بسلاح الحرب، كما تستبعد بتاتًا تلك الشروط المجحفة في الحديبية، بيد أن هذه الشروط كانت ثمالة كأس العجرفة القرشية الغابرة، رفسة ذبيحة تتلبط في دمها قبل الهدأة، شهقة ميتٍ أخيرة قبل تسليم الروح، لقد مالت بمكة الأيام وفقدت فلذات أكبادها ولم يعد فيها قوة لمطاولة المدينة الفتية، وأصحاب المجد الغابر يحرصون قبل السقوط الأخير على مظاهر تافهة يعرفون قبل غيرهم أنها كسراب بقيعة يلمع للظمآن ثم لا يروي ظمأه!!
وقَّعت قريش على المعاهدة واعترفت بدولة محمد صلى الله عليه وسلم دون الاعتراف بنبوته، ولم يكن المسلمون يحتاجون آنذاك أكثر من هذا!!
وكان هذا تأسيسًا نفسيًا أخيرًا للفتح!!
أنتجت الحديبيةُ حالتين نفسيتين مختلفتين: حالةَ قوم تأججت في قلوبهم شعلة الفتح فتشوقوا له إذ لم يعد ثَم هَمٌّ سواه، وحالةَ قوم بهتت في نفوسهم ذُبالة السيادة فقنعوا بالانتظار إذ لم يعد ثَمّ عملٌ إلّاه!!
وكانت سنوات تربيةٍ وفتونٍ هيَّأ اللهُ فيها كلَّ طائفة لقَدَرِهَا، وسَبّبَ أسبَابَه بِقَدْرِهَا، حتى إذا نضجت الثمرة أذن بالقطف، ففتح أبوابَ مكة لرايات التوحيد، والله لا يعجل بعجلة أحدنا!!
هكذا يُهيئ الله الأسبابَ لإمضاء السُنن، ومن تتبع تواريخ الأمم والحضارات وجد- غالبًا- ذات الأنساق بسياقاتٍ مختلفة:
(مفاصلة، ثم ابتلاء، ثم نصر، ثم فتون، ثم فتح)!!
وأيما مرحلةٍ طالت- بعد مرحلة المفاصلة- فاعلموا أن السبب في طولها هو غياب المفاصلة ذاتها، إذ المفاصلة هي قاعدة الرحى وحجر الزاوية وأساس البناء، فمن أسقط المفاصلة وقع في الابتلاء، ومن وقع في الابتلاء دون مفاصلة فلن يرى النصرَ وإن تَوَهَّمَه.
الأمة اليوم لا تحتاج إلى الماء والهواء قَدر احتياجها إلى المفاصلة!!
إننا لن نخرج من مرحلة الابتلاء حتى ندخل مرحلة المفاصلة، ولن ندخل مرحلة المفاصلة حتى نعرف (من نحن)، نحن لسنا مصريين ولا سوريين ولا عراقيين ولا سعوديين ولا مغاربة، ولا كل ما يكبر في نفوسنا من هذه القوميات والوطنيات التي غرسها في عقولنا ذاتَ تيه (سايكس وبيكو)، نحن مسلمون، الإسلام شعارنا ودثارنا، الله ربنا، ومحمدٌ نبينا، ولا إله إلا الله منهج حياتنا!!
إياكم أن تظنوا أنه يمكن لهذه الأمة أن تنهض لتدخل مراحل السنن الربانية وهي تعمل ضمن هذه الأطر الواهية والهُويات الزائفة، لن تنجحوا أبدًا، سيطول ابتلاؤكم وبلاؤكم وفتونكم، ولن يبالي الله بكم في أي وادٍ هلكتم حتى تعرفوا من أنتم، ثم تُفاصلوا على أساس هذه المعرفة!!
أكثر من مائة سنة وأنتم تتقافزون بين هذه الأنظمة، تركلكم بيادات العسكر القومي إلى نعال أمراء النفط الأمريكي إلى أحذية ملوك الطوائف، لقد صرتم فئران تجارب لم يبق منهجٌ في الأرض لم يُجرّب عليكم!!
اكشفوا الغطاء عن أعينكم، هذه ليست دولًا، هذه ليست جيوشًا، هذه ليست مؤسسات، هذه ليست برلمانات، هذه ليست رايات، هذه ليست وزارات، كل ما حولكم وَهمٌ في وَهم، لقد تم بيعكم منذ زمن، اشتروا أنفسكم قبل أن يبيعوا أبناءكم وأحفادكم كما باعوكم، أسقطوا هذه الأنظمة؛ فهي العدو الأول الذي يحول بينكم وبين الدخول إلى مراحل الفتح!!
هذه الأنظمة ليست أكثر من قوة احتلال أجنبية حتى لو غَنّى مُغَنّوها: (حكامنا من شعبنا، هذا أُخو وهذا ابن عَمّ)، لا تصدقوهم، لقد أخذوها بسيف الأجنبي قهرًا، كما أخذَ غيرُهم غيرَها بدبابة الأجنبي قسرًا!!
هذه الأنظمة ليست أكثر من وكيلٍ محلي لم يطلب من سيده الغربي الكافر سوى الحكم والتحكم؛ ليفتح له مجال الأمة العام فينشر في أجوائها أوبئةً قاتلة تضمن تبعية أبنائها بعد الاطمئنان إلى تبعية الوكيل!!
أمريكا ليست العدو الأول، العدو الأول هم هؤلاء اللصوص الذين استخدمتهم أمريكا لوأد ثوراتكم، لا تستطيع أمريكا نشر قواتها في كل بلد من بلدان الربيع العربي، ولو فعلت لهُزمت، فهي تُهزم في كل حرب تدخلها من فيتنام إلى العراق، ولكنها تستخدم الوكيل المحلي الذي يسحر سَحَرتُه أعينَ الحمقى ويسترهبهم بمصطلحات جوفاء عن ولي الأمر، والحاكم المتغلب، والحرية، والديمقراطية، والأمن، والأمان، والاستقرار، والفوضى،.
الخنجر المسموم ليس في يد أمريكا، الخنجر في يد طويل العمر، وولي الأمر، وعظمة السلطان، وجلالة الملك، وفخامة الرئيس، وسمو الأمير، وقائد المسيرة، وبطل الصمود والتصدي، الخنجر في يد كل هذه (الأخطاء الفاحشة) التي نتجت ذات خيانة من تلاقح الضِعَةِ مع الكفر، أمريكا ليست الذئب، وإن كانت؛ فهي لا تأكلكم بالقدر الذي تأكلكم به تلك الأخطاء الفاحشة، وقديمًا قيل: "تقضي الأغنام حياتها خائفةً من الذئب بينما لا يأكلها سوى الراعي"!
أيما طريقٍ ولجتموه- قبل أن تفاصلوا هذه الأنظمة نفسيًا ثم تفاصلوها عمليًا- محكوم عليه بالفشل!!
وأيما مفاصلةٍ فاصلتموها لا تنطلق من الدين محكوم عليها بالخسران!!
لقد أيقظتكم هذه الثورات شيئًا ما، ومن المعيب أن تعودوا للغيبوبة مرة أخرى، من المعيب ألا تنتبهوا بعد كل هذه الدماء إلى مكمن الداء وأصل الدواء، من المعيب أن تبدؤوا ثورتكم بـ(ما لنا غيرك يا الله) ثم تنهونها بالانتظار في طوابير الباصات الخضراء!!
من المعيب أن تبدؤوا ثورتكم بـ(الشعب يريد إسقاط النظام) ثم تنهونها بـ(الشعب يريد الزيت والسكر)!!
هل تخافونَ الفوضى؟!
ومن قال لكم أنكم تعيشون نظامًا؟!
أنتم تعيشون الفوضى مُذ ولدتكم أمهاتكم، وإسقاطكم لهذه الأنظمة هو استعادةٌ للنظام الحقيقي وإن بدا لكم في شكل فوضى!!
لا بد من دفع الثمن، الحرية ليست بالمجان، والكرامة ليست بالمجان، ومجرد الوجود ليس بالمجان، وإقامة شرع الله في الأرض ليس بالمجان!!
كلُّ دقيقةٍ تمر عليكم دون نهوضكم لاستعادة النظام الرباني ستُبقيكم سنةً أخرى في مستنقع الفوضى الذي تظنونه نظامًا، وستدفعون غدًا أضعاف ما تخشون دفعه اليوم!!
"إن الجروح يُطهرها الكَيُّ، والسيف يصقله الكيرُ، والخبز ينضجه الوهج"
اركضوا نحو ما تظنونه فوضى، فَثَمّ الخلاص!!
فاصلوا كما فَاصَلت الموصل؛ لا تعرف الموصلُ البينَ بَين!!
الوجوه الرمادية لا تسكن الموصل، والأرواح المائية لا تهفو إلى الموصل، والنفوس المذبذبة لا تَحن إلى الموصل!!
في الموصل أمران أَمَرّهُمَا حُلو: نصرٌ أو شهادة، حَرٌ أو قَرّ، نَفْحٌ أو لَفح، نسيمٌ أو سموم، جُدُدٌ بيضٌ أو غرابيبُ سود، صَدرٌ دون العالمين أو قبر، سيفٌ في قلب العدو، أو قلبٌ أمام سيف العدو، رُفع الآن أذان المفاصلة حسب التوقيت المحلي لمدينة الموصل وعلى المخلفين من الأعراب في عواصم القهر مراعاة فروق التوقيت!!
الطريق إلى القدس يبدأ من الموصل، فإن سقطت الموصل فلا قدس لكم!!
الطريق إلى القاهرة يبدأ من الموصل، فإن سقطت الموصل فلا قاهرة لكم!!
الطريق إلى الرياض يبدأ من الموصل، فإن سقطت الموصل فلا رياض لكم!!
الطريق إلى دبي، الطريق إلى عَمّان، الطريق إلى دمشق، الطريق إلى صنعاء، الطريق إلى الرباط، الطريق إلى واشنطن، الطريق إلى روما، الطريق إلى أنفسكم يبدأ من الموصل، فإن سقطت الموصل فلن تجدوا جبلًا يعصمكم من الماء إذا فَار التنور وقُضي الأمرُ وقِيل بُعدًا للقوم الظالمين!!
لستُ مغرمًا بتنزيل أحداث الماضي على مجريات الحاضر، بيد أني لا أجد ثلةً من المسلمين- في السنوات الحسوم الماضية- حققت معنى المفاصلة سواهم، لقد سبقونا إلى الدخول في مراحل السنن الربانية، وإنهم والله لجديرون بالفتح، ويكأن معركة الموصل الأولى كانت كمعركة بدر الكبرى (دورةً مغتسلًا) غسل الله فيها نفوسهم من أدران الابتلاء وأعلمهم أنهم يستطيعون، وويكأن هذه الانكسارات في السنة الماضية كانت انكساراتٍ (أُحُدية) ليصححوا المسار ويُرَشِّدوا الخطاب ويتداركوا الأخطاء والخطايا التي لا تخلو منها تجربة إنسانية!!
وربما تكون المعركة الدائرة الآن (أحزابًا) أخرى اجتمعت عليهم فيها مللُ الكفر قاطبة ليستأصلوا شأفتهم ويستبيحوا بيضتهم وينهوا وجودهم، وعسى الله أن يُنهيها كما أنهى الأحزاب الأولى غارسًا في نفوسهم هُم فكرةَ استئصال شأفة عدوهم وعدونا، ثم يُتم عليهم وعلينا الفتح بعد الفتون الذي أسأل الله أن ينجحوا في إدارة تقلباته!!
أعرف أن هذا التنزيل وأمثاله مسلكٌ وعر وأرضٌ زَلِقة وفَلاةٌ مُسبِعَة لا أسمح لنفسي بإطلاقه موقنًا به وجازمًا بصوابه، بيد أني أقرأ الحاضر مستنيرًا بالماضي مع اعتبار مسارات الماضي المختلفة والحذر من دهاليز الحاضر المظلمة.
فإن كانت الأولى فإن ذلك مما يُفرح القلب ويشفي الصدر، وإن كانت لا قَدَّرَ اللهُ الثانية فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون!!
وما الخروج من الموصل والانحياز إلى الصحراء بهزيمة حرب وإن كانت خسارة معركة، وإن الذي قدر الله له دخولها مرة لقادر على دخولها وغيرها مرات ومرات، والله لا يعجل بعجلة أحدنا.
وقد انتقض العرب بالردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل المسلمون مرة أخرى في مراحل السنن الربانية؛ فنجاهم الله من الابتلاء برجل من أعاجيبالدنيا اسمه أبو بكر الصديق، أصر على المفاصلة القاطعة والاتباع الكامل والتسليم الخالص؛ فجمع المرتدين مع مانعي الزكاة وقاتل الصنفين، وأنفذ بعث أسامة، وأسس لإسقاط أقوى قوتين في وقته: فارس والروم!!
لستُ خائفًا على هؤلاء الذين استبان لهم الطريق ووضحت لهم الراية، الخوف علينا نحن حين نتعلل بأعاليل المبطلين وأباطيل المرجفين منتظرين الراية النقية!!
وأخشى أننا سننتظر حتى نرى شرف بناتنا يسيل بين أفخاذهن بفعل رافضي حاقد أو صليبي نجس!!
سننتظر حتى نرى علماءنا تُثقب رؤوسهم وأعينهم وآذانهم بالمثقاب الكهربائي!!
سننتظر حتى نرى أطفالنا يُذبحون من الوريد إلى الوريد أمام أعيننا!!
سننتظر حتى نفترش الأرض ونلتحف السماء في مخيمات اللجوء إن مَنُّوا علينا بها!!
سننتظر حتى نصبح موالي عند الولي الفقيه يشفي بِذُلِّنَا غيظَ قلبه ومرضَ نفسه وعُقَدَ تراثه!!
حدثوني وقتها عن الراية النقية وعن الخوارج وعن الحاكم المتغلب وعن ولي الأمر الذي يدفع جِرَاءَه من ذوي اللحى للتباكي في وسائل الإعلام على مُهَجَّرِي الموصل بينما طائراته وطائرات الكفار تنطلق من أرضه لتدك الموصل!!
إن شر المخادعين الذي يخدع نفسه، وأنتم منذ زمن لا تخدعون إلا أنفسكم!!
أي خوارج وأي دواخل؟!
لقد وَصَلَت السكينُ للعظم!!
مثاليون أنتم جدًا، تبحثون عن الراية النقية وتستظلون برايات نُسجت خيوطها في مستنقع!!
مثاليون أنتم جدًا، تتهمون الجميع بالخارجية فإذا جئتم لولي الأمر الذي ارتكب كُلَّ مكفر في الدنيا قلتم: كما تكونوا يُوَلَّ عليكم!!
مثاليون أنتم جدًا، تنتظرون الكفر البواح لتخرجوا على الحكام، قاتلكم الله، وهل بقي في حظائركم- التي تسمونها دولًا- كفرٌ لم يحكم أو يتحكم؟! وهل حكمكم منذ مائة سنة أو يزيد سوى الكفر البواح؟!
كان حسن البنا خارجيًا، كان عمر المختار خارجيًا، كان سيد قطب خارجيًا، كان ابن عبد الوهاب خارجيًا، الخطابي، خطاب، شامل، أسامة، أيمن، الزرقاوي، السوري، طالبان الملا عمر، ألم يُتهم كل هؤلاء بهذه التهمة القذرة؟!
أبقي أحدٌ أراد التغيير أو أراد المفاصلة أو أراد (بعض مفاصلة) لم يتهمه أبناء الخيانة حكامُكم بالخارجية؟!
ألم يأن للذين منحهم الله عقولًا أن يفهموا أن هذه الخارجية تهمة معلبة يَرمِي بها كلابُ السلطان كلَّ من قاوم كفرَ السلطان؟!
حسنًا، هم خوارج!! كونوا أنتم دواخل وفَاصِلوا كما فَاصَلُوا!!
توضؤوا بالدم مثلهم فإن الزمن زمن دم وليس زمن مواءمات!!
الخوارج لا يَرَوُنَ العدو في قاعات المؤتمرات ولا ردهات الفنادق ولا أمام طاولات المفاوضات، الخوارج يرون العدو في ساحات المعارك جثثًا هامدة أو يراهم العدو في ساحات المعارك جثامين مبتسمة!!
كونوا دواخل وتعلموا منهم المفاصلة، أو تعلموها من العلمانيين الذين لحسوا كلَّ ديمقراطياتهم حين وصل الأمر إلى الإسلام، تعلموا المفاصلة من العلمانيين إن لم يعجبكم الخوارج،
ويكأن الله يستهين بعبده حين يترك شَرعَه فيعلمه الإيمان على يد الكفار!!
جربوا الخارجية مرةً واحدة، فربما حين تصبحون خوارج تبدؤون العيش كبشر!!
على الجانب الآخر، لم ينتصر المسلمون في أُحد انتصارًا خالصًا ولم يُهزموا هزيمة محضة، كانت أُحد هزةً نفسيةً عميقةً نبهتهم إلى أن انتصارهم السهل في بدر لم يكن ناتجًا عن عددهم أو عدتهم؛ بل كان أثرًا من آثار الاتباع الكامل والتسليم الخالص لله ولرسوله، وأنهم في النهاية بشرٌ من البشر يُكسَرون كما يَكسِرون ويَألَمون كما يُؤلِمُون، وأن الاتباعَ الكامل بعد المفاصلة الخالصة، والتسليمَ الخالص بعد الإعداد الممكن هو سلاحهم الأول في مناجزة العدو أو مطاولته، فمن اتبع انتفع ومن خالف خولف عليه!!
وكان هذا تأسيسًا نفسيًا أوليًا للفتح!!
أما الأحزاب فكانت ابتلاءً حقيقيًا بشعًا لا يكاد يُعرف له مثيلٌ في تاريخ المسلمين، ولأنها كانت كذلك فقد أسست في نفوس المسلمين لأول مرة فكرة استئصال شأفة المشركين وإنهاء وجودهم، لقد تبادلوا الأدوار النفسية الآن وبدأت فكرة إنهاء صداع المشركين المزمن تتصاعد في نفوس المسلمين: هذا الحصار لا يجب أن يتكرر مرة أخرى، هذه الشدة التي زاغت فيها الأبصار وبلغت فيها القلوب الحناجر وتلاعبت فيها الظنون بالنفوس لا يمكن أن يُسمح لها بالعودة، ولأن المطلوب كان أعظم من إمكانات الطالب؛ فقد حلت المطاولةُ في الأحزاب محل المناجزة في أُحد، ولعبت السياسةُ والخدعةُ دورَها في الحرب كما تلعب الحربُ دورها في السياسة، ثم انتهت الشدة بتنظيف داخل البيت من رجس اليهود الذين لا يطعنون إلا في الظهر!!
وكان هذا تأسيسًا نفسيًا آخر للفتح!!
جاءت الحديبية اختبارًا أخيرًا في الاتباع ذكّرَهم باختبار أحد، نجحوا فيه جميعًا بعد لأي كما نَجَوا من اختبار أُحدٍ بعد لأيٍ أيضًا، لقد كانت الحديبيةُ إلهيةً محضةً لا عمل للبشر فيها، تمامًا كبدر، إذ مقاييس البشر تستبعد انتصار ثلاثمائة أو يزيدون بسلاح المسافر على ألفٍ أو يزيدون بسلاح الحرب، كما تستبعد بتاتًا تلك الشروط المجحفة في الحديبية، بيد أن هذه الشروط كانت ثمالة كأس العجرفة القرشية الغابرة، رفسة ذبيحة تتلبط في دمها قبل الهدأة، شهقة ميتٍ أخيرة قبل تسليم الروح، لقد مالت بمكة الأيام وفقدت فلذات أكبادها ولم يعد فيها قوة لمطاولة المدينة الفتية، وأصحاب المجد الغابر يحرصون قبل السقوط الأخير على مظاهر تافهة يعرفون قبل غيرهم أنها كسراب بقيعة يلمع للظمآن ثم لا يروي ظمأه!!
وقَّعت قريش على المعاهدة واعترفت بدولة محمد صلى الله عليه وسلم دون الاعتراف بنبوته، ولم يكن المسلمون يحتاجون آنذاك أكثر من هذا!!
وكان هذا تأسيسًا نفسيًا أخيرًا للفتح!!
أنتجت الحديبيةُ حالتين نفسيتين مختلفتين: حالةَ قوم تأججت في قلوبهم شعلة الفتح فتشوقوا له إذ لم يعد ثَم هَمٌّ سواه، وحالةَ قوم بهتت في نفوسهم ذُبالة السيادة فقنعوا بالانتظار إذ لم يعد ثَمّ عملٌ إلّاه!!
وكانت سنوات تربيةٍ وفتونٍ هيَّأ اللهُ فيها كلَّ طائفة لقَدَرِهَا، وسَبّبَ أسبَابَه بِقَدْرِهَا، حتى إذا نضجت الثمرة أذن بالقطف، ففتح أبوابَ مكة لرايات التوحيد، والله لا يعجل بعجلة أحدنا!!
هكذا يُهيئ الله الأسبابَ لإمضاء السُنن، ومن تتبع تواريخ الأمم والحضارات وجد- غالبًا- ذات الأنساق بسياقاتٍ مختلفة:
(مفاصلة، ثم ابتلاء، ثم نصر، ثم فتون، ثم فتح)!!
وأيما مرحلةٍ طالت- بعد مرحلة المفاصلة- فاعلموا أن السبب في طولها هو غياب المفاصلة ذاتها، إذ المفاصلة هي قاعدة الرحى وحجر الزاوية وأساس البناء، فمن أسقط المفاصلة وقع في الابتلاء، ومن وقع في الابتلاء دون مفاصلة فلن يرى النصرَ وإن تَوَهَّمَه.
الأمة اليوم لا تحتاج إلى الماء والهواء قَدر احتياجها إلى المفاصلة!!
إننا لن نخرج من مرحلة الابتلاء حتى ندخل مرحلة المفاصلة، ولن ندخل مرحلة المفاصلة حتى نعرف (من نحن)، نحن لسنا مصريين ولا سوريين ولا عراقيين ولا سعوديين ولا مغاربة، ولا كل ما يكبر في نفوسنا من هذه القوميات والوطنيات التي غرسها في عقولنا ذاتَ تيه (سايكس وبيكو)، نحن مسلمون، الإسلام شعارنا ودثارنا، الله ربنا، ومحمدٌ نبينا، ولا إله إلا الله منهج حياتنا!!
إياكم أن تظنوا أنه يمكن لهذه الأمة أن تنهض لتدخل مراحل السنن الربانية وهي تعمل ضمن هذه الأطر الواهية والهُويات الزائفة، لن تنجحوا أبدًا، سيطول ابتلاؤكم وبلاؤكم وفتونكم، ولن يبالي الله بكم في أي وادٍ هلكتم حتى تعرفوا من أنتم، ثم تُفاصلوا على أساس هذه المعرفة!!
أكثر من مائة سنة وأنتم تتقافزون بين هذه الأنظمة، تركلكم بيادات العسكر القومي إلى نعال أمراء النفط الأمريكي إلى أحذية ملوك الطوائف، لقد صرتم فئران تجارب لم يبق منهجٌ في الأرض لم يُجرّب عليكم!!
اكشفوا الغطاء عن أعينكم، هذه ليست دولًا، هذه ليست جيوشًا، هذه ليست مؤسسات، هذه ليست برلمانات، هذه ليست رايات، هذه ليست وزارات، كل ما حولكم وَهمٌ في وَهم، لقد تم بيعكم منذ زمن، اشتروا أنفسكم قبل أن يبيعوا أبناءكم وأحفادكم كما باعوكم، أسقطوا هذه الأنظمة؛ فهي العدو الأول الذي يحول بينكم وبين الدخول إلى مراحل الفتح!!
هذه الأنظمة ليست أكثر من قوة احتلال أجنبية حتى لو غَنّى مُغَنّوها: (حكامنا من شعبنا، هذا أُخو وهذا ابن عَمّ)، لا تصدقوهم، لقد أخذوها بسيف الأجنبي قهرًا، كما أخذَ غيرُهم غيرَها بدبابة الأجنبي قسرًا!!
هذه الأنظمة ليست أكثر من وكيلٍ محلي لم يطلب من سيده الغربي الكافر سوى الحكم والتحكم؛ ليفتح له مجال الأمة العام فينشر في أجوائها أوبئةً قاتلة تضمن تبعية أبنائها بعد الاطمئنان إلى تبعية الوكيل!!
أمريكا ليست العدو الأول، العدو الأول هم هؤلاء اللصوص الذين استخدمتهم أمريكا لوأد ثوراتكم، لا تستطيع أمريكا نشر قواتها في كل بلد من بلدان الربيع العربي، ولو فعلت لهُزمت، فهي تُهزم في كل حرب تدخلها من فيتنام إلى العراق، ولكنها تستخدم الوكيل المحلي الذي يسحر سَحَرتُه أعينَ الحمقى ويسترهبهم بمصطلحات جوفاء عن ولي الأمر، والحاكم المتغلب، والحرية، والديمقراطية، والأمن، والأمان، والاستقرار، والفوضى،.
الخنجر المسموم ليس في يد أمريكا، الخنجر في يد طويل العمر، وولي الأمر، وعظمة السلطان، وجلالة الملك، وفخامة الرئيس، وسمو الأمير، وقائد المسيرة، وبطل الصمود والتصدي، الخنجر في يد كل هذه (الأخطاء الفاحشة) التي نتجت ذات خيانة من تلاقح الضِعَةِ مع الكفر، أمريكا ليست الذئب، وإن كانت؛ فهي لا تأكلكم بالقدر الذي تأكلكم به تلك الأخطاء الفاحشة، وقديمًا قيل: "تقضي الأغنام حياتها خائفةً من الذئب بينما لا يأكلها سوى الراعي"!
أيما طريقٍ ولجتموه- قبل أن تفاصلوا هذه الأنظمة نفسيًا ثم تفاصلوها عمليًا- محكوم عليه بالفشل!!
وأيما مفاصلةٍ فاصلتموها لا تنطلق من الدين محكوم عليها بالخسران!!
لقد أيقظتكم هذه الثورات شيئًا ما، ومن المعيب أن تعودوا للغيبوبة مرة أخرى، من المعيب ألا تنتبهوا بعد كل هذه الدماء إلى مكمن الداء وأصل الدواء، من المعيب أن تبدؤوا ثورتكم بـ(ما لنا غيرك يا الله) ثم تنهونها بالانتظار في طوابير الباصات الخضراء!!
من المعيب أن تبدؤوا ثورتكم بـ(الشعب يريد إسقاط النظام) ثم تنهونها بـ(الشعب يريد الزيت والسكر)!!
هل تخافونَ الفوضى؟!
ومن قال لكم أنكم تعيشون نظامًا؟!
أنتم تعيشون الفوضى مُذ ولدتكم أمهاتكم، وإسقاطكم لهذه الأنظمة هو استعادةٌ للنظام الحقيقي وإن بدا لكم في شكل فوضى!!
لا بد من دفع الثمن، الحرية ليست بالمجان، والكرامة ليست بالمجان، ومجرد الوجود ليس بالمجان، وإقامة شرع الله في الأرض ليس بالمجان!!
كلُّ دقيقةٍ تمر عليكم دون نهوضكم لاستعادة النظام الرباني ستُبقيكم سنةً أخرى في مستنقع الفوضى الذي تظنونه نظامًا، وستدفعون غدًا أضعاف ما تخشون دفعه اليوم!!
"إن الجروح يُطهرها الكَيُّ، والسيف يصقله الكيرُ، والخبز ينضجه الوهج"
اركضوا نحو ما تظنونه فوضى، فَثَمّ الخلاص!!
فاصلوا كما فَاصَلت الموصل؛ لا تعرف الموصلُ البينَ بَين!!
الوجوه الرمادية لا تسكن الموصل، والأرواح المائية لا تهفو إلى الموصل، والنفوس المذبذبة لا تَحن إلى الموصل!!
في الموصل أمران أَمَرّهُمَا حُلو: نصرٌ أو شهادة، حَرٌ أو قَرّ، نَفْحٌ أو لَفح، نسيمٌ أو سموم، جُدُدٌ بيضٌ أو غرابيبُ سود، صَدرٌ دون العالمين أو قبر، سيفٌ في قلب العدو، أو قلبٌ أمام سيف العدو، رُفع الآن أذان المفاصلة حسب التوقيت المحلي لمدينة الموصل وعلى المخلفين من الأعراب في عواصم القهر مراعاة فروق التوقيت!!
الطريق إلى القدس يبدأ من الموصل، فإن سقطت الموصل فلا قدس لكم!!
الطريق إلى القاهرة يبدأ من الموصل، فإن سقطت الموصل فلا قاهرة لكم!!
الطريق إلى الرياض يبدأ من الموصل، فإن سقطت الموصل فلا رياض لكم!!
الطريق إلى دبي، الطريق إلى عَمّان، الطريق إلى دمشق، الطريق إلى صنعاء، الطريق إلى الرباط، الطريق إلى واشنطن، الطريق إلى روما، الطريق إلى أنفسكم يبدأ من الموصل، فإن سقطت الموصل فلن تجدوا جبلًا يعصمكم من الماء إذا فَار التنور وقُضي الأمرُ وقِيل بُعدًا للقوم الظالمين!!
لستُ مغرمًا بتنزيل أحداث الماضي على مجريات الحاضر، بيد أني لا أجد ثلةً من المسلمين- في السنوات الحسوم الماضية- حققت معنى المفاصلة سواهم، لقد سبقونا إلى الدخول في مراحل السنن الربانية، وإنهم والله لجديرون بالفتح، ويكأن معركة الموصل الأولى كانت كمعركة بدر الكبرى (دورةً مغتسلًا) غسل الله فيها نفوسهم من أدران الابتلاء وأعلمهم أنهم يستطيعون، وويكأن هذه الانكسارات في السنة الماضية كانت انكساراتٍ (أُحُدية) ليصححوا المسار ويُرَشِّدوا الخطاب ويتداركوا الأخطاء والخطايا التي لا تخلو منها تجربة إنسانية!!
وربما تكون المعركة الدائرة الآن (أحزابًا) أخرى اجتمعت عليهم فيها مللُ الكفر قاطبة ليستأصلوا شأفتهم ويستبيحوا بيضتهم وينهوا وجودهم، وعسى الله أن يُنهيها كما أنهى الأحزاب الأولى غارسًا في نفوسهم هُم فكرةَ استئصال شأفة عدوهم وعدونا، ثم يُتم عليهم وعلينا الفتح بعد الفتون الذي أسأل الله أن ينجحوا في إدارة تقلباته!!
أعرف أن هذا التنزيل وأمثاله مسلكٌ وعر وأرضٌ زَلِقة وفَلاةٌ مُسبِعَة لا أسمح لنفسي بإطلاقه موقنًا به وجازمًا بصوابه، بيد أني أقرأ الحاضر مستنيرًا بالماضي مع اعتبار مسارات الماضي المختلفة والحذر من دهاليز الحاضر المظلمة.
فإن كانت الأولى فإن ذلك مما يُفرح القلب ويشفي الصدر، وإن كانت لا قَدَّرَ اللهُ الثانية فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون!!
وما الخروج من الموصل والانحياز إلى الصحراء بهزيمة حرب وإن كانت خسارة معركة، وإن الذي قدر الله له دخولها مرة لقادر على دخولها وغيرها مرات ومرات، والله لا يعجل بعجلة أحدنا.
وقد انتقض العرب بالردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل المسلمون مرة أخرى في مراحل السنن الربانية؛ فنجاهم الله من الابتلاء برجل من أعاجيبالدنيا اسمه أبو بكر الصديق، أصر على المفاصلة القاطعة والاتباع الكامل والتسليم الخالص؛ فجمع المرتدين مع مانعي الزكاة وقاتل الصنفين، وأنفذ بعث أسامة، وأسس لإسقاط أقوى قوتين في وقته: فارس والروم!!
لستُ خائفًا على هؤلاء الذين استبان لهم الطريق ووضحت لهم الراية، الخوف علينا نحن حين نتعلل بأعاليل المبطلين وأباطيل المرجفين منتظرين الراية النقية!!
وأخشى أننا سننتظر حتى نرى شرف بناتنا يسيل بين أفخاذهن بفعل رافضي حاقد أو صليبي نجس!!
سننتظر حتى نرى علماءنا تُثقب رؤوسهم وأعينهم وآذانهم بالمثقاب الكهربائي!!
سننتظر حتى نرى أطفالنا يُذبحون من الوريد إلى الوريد أمام أعيننا!!
سننتظر حتى نفترش الأرض ونلتحف السماء في مخيمات اللجوء إن مَنُّوا علينا بها!!
سننتظر حتى نصبح موالي عند الولي الفقيه يشفي بِذُلِّنَا غيظَ قلبه ومرضَ نفسه وعُقَدَ تراثه!!
حدثوني وقتها عن الراية النقية وعن الخوارج وعن الحاكم المتغلب وعن ولي الأمر الذي يدفع جِرَاءَه من ذوي اللحى للتباكي في وسائل الإعلام على مُهَجَّرِي الموصل بينما طائراته وطائرات الكفار تنطلق من أرضه لتدك الموصل!!
إن شر المخادعين الذي يخدع نفسه، وأنتم منذ زمن لا تخدعون إلا أنفسكم!!
أي خوارج وأي دواخل؟!
لقد وَصَلَت السكينُ للعظم!!
مثاليون أنتم جدًا، تبحثون عن الراية النقية وتستظلون برايات نُسجت خيوطها في مستنقع!!
مثاليون أنتم جدًا، تتهمون الجميع بالخارجية فإذا جئتم لولي الأمر الذي ارتكب كُلَّ مكفر في الدنيا قلتم: كما تكونوا يُوَلَّ عليكم!!
مثاليون أنتم جدًا، تنتظرون الكفر البواح لتخرجوا على الحكام، قاتلكم الله، وهل بقي في حظائركم- التي تسمونها دولًا- كفرٌ لم يحكم أو يتحكم؟! وهل حكمكم منذ مائة سنة أو يزيد سوى الكفر البواح؟!
كان حسن البنا خارجيًا، كان عمر المختار خارجيًا، كان سيد قطب خارجيًا، كان ابن عبد الوهاب خارجيًا، الخطابي، خطاب، شامل، أسامة، أيمن، الزرقاوي، السوري، طالبان الملا عمر، ألم يُتهم كل هؤلاء بهذه التهمة القذرة؟!
أبقي أحدٌ أراد التغيير أو أراد المفاصلة أو أراد (بعض مفاصلة) لم يتهمه أبناء الخيانة حكامُكم بالخارجية؟!
ألم يأن للذين منحهم الله عقولًا أن يفهموا أن هذه الخارجية تهمة معلبة يَرمِي بها كلابُ السلطان كلَّ من قاوم كفرَ السلطان؟!
حسنًا، هم خوارج!! كونوا أنتم دواخل وفَاصِلوا كما فَاصَلُوا!!
توضؤوا بالدم مثلهم فإن الزمن زمن دم وليس زمن مواءمات!!
الخوارج لا يَرَوُنَ العدو في قاعات المؤتمرات ولا ردهات الفنادق ولا أمام طاولات المفاوضات، الخوارج يرون العدو في ساحات المعارك جثثًا هامدة أو يراهم العدو في ساحات المعارك جثامين مبتسمة!!
كونوا دواخل وتعلموا منهم المفاصلة، أو تعلموها من العلمانيين الذين لحسوا كلَّ ديمقراطياتهم حين وصل الأمر إلى الإسلام، تعلموا المفاصلة من العلمانيين إن لم يعجبكم الخوارج،
ويكأن الله يستهين بعبده حين يترك شَرعَه فيعلمه الإيمان على يد الكفار!!
جربوا الخارجية مرةً واحدة، فربما حين تصبحون خوارج تبدؤون العيش كبشر!!
تاريخ النشر: 12 صفر 1438 (12/11/2016)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق