منذ مئة عام، والمشهد في فلسطين أبيض وأسود. ثمّة احتلال، وثمّة من يقاوم الاحتلال. كل الوسائل مشروعة لتحرير الأرض. المقاومة فعل يستجيب به أهل الأرض للكولونياليين والإحلاليين. حتى القانون الدولي يكفل حقّهم في الرد، ويضفي عليه الشرعية. وفي الإسلام، لا يحتاج المجاهد إلى فتوى ليطرد العدو الصائل من أرضه. المحتل هو الإرهابي. والرصاص هو القصاص.
هكذا قرأنا الرواية في فلسطين منذ نعومة أظفارنا، بل مُذ رضعنا الحليب من صدور أمّهاتنا. لا يمكن أن يختلط الحابل بالنابل. ربما تتساءل عن الحكم الشرعي في العمليات الاستشهادية في مكان خارج الجغرافيا الفلسطينية، لكن لست بحاجة إلى السؤال عنه داخلها...ألبتة.
فلسطين هي البوصلة. هي البدء والخاتمة. هي الخيمة والنجمة. هي القِبلة الأولى، والقُبلة الأخيرة. كل كلام غير هذا هراء. كل خطب غير فلسطين جلل.
في يوم الأحد الماضي، كانت فلسطين على موعد مع عمليّة نوعيّة نفّذها فادي قنبر (28 عاماً) الذي اختار أن يقهر الاحتلال بدهس جنوده بشاحنة، ما أدّى إلى مقتل 3 مجنّدات وجندي، وإصابة 15 آخرين، بعضهم حاله حرجة.
ثقافة المقاومة ولّادة، وبوسعها الإنتاج والتنويع. الدلالات الرمزيّة للعمليّة كانت مدويّة وتردّدت أصداؤها في المجتمع الصهيوني. لم يحمل الشهيد فادي سلاحاً، ولم يزرع عبوة، ولم يتمنطق بحزام ناسف. لكنّه اختار وسيلة أكثر إيلاماً: الموت بالشاحنة.
للكيان الصهيوني أن يتفاخر بإمكانات هائلة: أسلحة نوويّة، طائرات متقدّمة، وجُدُر أسمنتيّة متوحشّة ذات أسلاك شائكة، وأبراج مراقبة، وأضواء كاشفة، وسياجات معدنيّة، وأجهزة إنذار إلكترونيّة، ولكن كلّ ذلك لن يستطيع منع الفلسطيني من استلال سكّينه، أو القبض على مقود سيّارته، وتبديد أسطورة الأمن في طرفة عين، كما فعل فادي قنبر في جبل المكبّر بالقدس.
الدلالة الأخرى التي أزعجت «إسرائيل» في عمليّة الأحد، هي شعورها بالعجز عن حماية جنودها ومستوطنيها، مهما نشرت من حواجز، ومهما نسّقت «أمنيّاً» مع سلطة رام الله، ومهما تلقّت من وعود بالدعم من الرئيس الأميركي القادم، ترمب.
لا ريب أنّ أيّ تصعيد تتخذه الإدارة الأميركية المقبلة ضد الحقوق العربية والإسلامية في القدس وغيرها سيرتدّ سلباً على الاحتلال ورعاته، وسيعزل بقوة دعاة التسوية، مبقياً الساحة مفتوحة للمقاومين الذين بوسعهم دائماً مفاجأة العدو من حيث لا يحتسب.
ثمرة أخرى لعمليّة القدس أثارت تساؤلات داخل المجتمع الإسرائيلي، وهي هروب عشرات الجنود المسلّحين حتى الأسنان، من مكان العمليّة، ما دفع عاموس هرئيل، المحلّل العسكري في صحيفة هاآرتس الإسرائيليّة، إلى المطالبة بتحقيق، رافضاً تبرير ذلك بأنّهم كانوا يخشون «العواقب القانونية لإطلاق النار على مهاجم».
قناة 20 الإسرائيليّة استضافت المعلّق، كلمان ليبسكيند، الذي أبلغها أنّ مشهد هروب عشرات الجنود والضبّاط هو «الأكثر إهانة للجيش على الإطلاق»، وهو «أكبر إلهام لتنفيذ المزيد من العمليّات»، داعياً إلى طرد هؤلاء «الذين نجوا بأنفسهم»، إذ «لا يمكن تخيّل هؤلاء الضبّاط وهم يهربون من الميدان بهذا الشكل، ويتركون الباقين ليواجهوا مصيرهم».
معلّق صهيوني آخر، هو حاييم شاين، عبّر في صحيفة «يسرائيل هيوم» عن «صدمته» من مشاهد هروب الجنود مؤكّداً أنّها «ستظلّ عالقة في الوعي الجمعي الفلسطيني بوصفها صورة انتصار»، ومتّفقاً مع زميله ليبسكيند في أنّها ستشكّل دافعاً لعمليّات مماثلة.
كما تبتكر «إسرائيل» أساليب اغتيال تكنولوجية لناشطين ومقاومين في فلسطين وخارجها، فإنّ الفلسطيني يبتكر هو الآخر ما يُتيح له الإثخان في عدوّه مستلهماً الأغنية الشهيرة: «طالع لك يا عدوّي طالع».
الصحافيّة الإسرائيليّة، عميرة هاس، أشارت في «هاآرتس» إلى إقدام فادي قنبر على عمليّة الشاحنة رغم علمه بأنّ بيت عائلته سيُدمّر، وأنّ جثّته لن تُسلّم لدفنها، وأنّ أقاربه سيُعتقلون، وأنّ عدداً منهم سيُطردون من أعمالهم. لكنّ فادي وكثيرين مثله مستعدّون لدفع الثمن؛ لاسيّما في ظلّ تغوّل الاستيطان واليأس من التسوية. الشاحنة أصدق أنباءً من التفاوض.;
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق