الجمعة، 13 يناير 2017

"غوانتنامو قصّتي".. وجع الذكريات


قصتي"غوانتنامو".. وجعى


سامي الحاج 



مدير مركز الجزيرة للحقوق والحريات، ومعتقل سابق بسجن غوانتنامو.

طلبوا منا في نهاية اليوم ألا نغادر البيت إلا بإذنهم، وواصلنا عملنا هناك حيث كنا نغطي القصف الأمريكي للمنازل، والمناطق المختلفة. والحقيقة أنه كان قصفاً غير مركز ينصب غالباً على البيوت السكنية، فكثيراً ما رأينا أطفالاً في المستشفيات، وبيوتاً مهدمة، وغير ذلك من مؤشرات قصف الأهداف المدنية.

من المشاهد المؤثرة العنيفة التي رأيتها يومئذ، قصف شاحنة وقود لم يتمكن صاحبها من الهرب، فتفحمت جثته. هزني أن الحادثة وقعت أمامي ولم أستطع مساعدة الرجل ولا أن أسهم في إنقاذه. لقد كان منظراً مؤذياً وحدثاً محزناً.

ومما علق بذاكرتي أيضاً أن أحد جنود حركة طالبان أخبرنا عن قصف وقع أمس لإحدى القرى التي تقع شمال قندهار، فذهبنا في سيارة لمشاهدة آثار القصف، واستمرت الرحلة على طريق كابول المسفلت لمدة ساعتين.

رأيت بأم عيني أحد الصواريخ منغمساً في سرير لطفل صغير. ترك القصف حفرةً كبيرةً دَفَنَ فيها الأهالي ما وجدوه من أشلاء موتاهم.
شمال قندهار وجدنا القرية مدمرة تماماً، حيث مسحت بالصواريخ والقنابل، ولم تَسْلَم المقابر ولا المساجد. أكثر ما شدني قهر الرجال، لقد كانوا يبكون من هول المصيبة بكاءً مراً، كانوا يدفنون قتلاهم، ويجمعون أشلاء أسرهم التي غادروها بأمان بحثاً عن الرزق، وسعياً في سبيل حياة قروية عادية وهادئة.كان هناك رجل كبير السن يبكي بحرقة، سألت عن قصته، فقيل لي إنه غادر القرية إلى قندهار لبيع شياه يشتري بثمنها حاجيات عائلته البسيطة، فلما عاد وجدهم جميعاً زوجةً وأولاداً ووالدةً ووالداً وإخواناً وأخواتٍ، وهم ثمانية عشرَ فرداً قد قُتلوا بلا استثناء.

كان يتكلم بالأفغانية وعرفت من المترجم أنه يتساءل بأي ذنب قُتل أفراد أسرته، وبأي ذنب قُتل ذلك الرضيع الذي غادره وبشاشة الحياة في عينيه، ليجد أن القصف الأعمى أطفأ ذلك الوهج ظلماً وعدواناً. 

رأيت بأم عيني أحد الصواريخ منغمساً في سرير لطفل صغير. ترك القصف حفرةً كبيرةً دَفَنَ فيها الأهالي ما وجدوه من أشلاء موتاهم.

لماذا قصفت تلك القرية؟ كانت إجابة أولئك الرجال المقهورين عن سؤالنا أن القرية تعتبر سوقاً شعبياً ينتظم كل ثلاثاء ويؤمه القرويون. ويبدو أن تجمع الناس في ذلك اليوم أخاف الأمريكيين، وجعلهم يحسبونه تجمعاً لطالبان، ولم يتحروا كعادتهم، فقصفوا أولئك المساكين، وتركوهم وتلك القرية أثراً بعد عين.

أنتجنا تقريراً عن تلك القرية بثته قناة الجزيرة في نشراتها الإخبارية تلك الأيام. وقبل إرسال التقرير، وعندما حان وقت صلاة العشاء طلبنا من الإمام أن يصلي بنا كالعادة، ولكنه رفض متعللاً بأنه على حالة غير طيبة، وبعد إلحاح تركناه وصلى بنا الزميل يوسف.

تنحّيت جانباً بالرجل بعد الصلاة، واستفسرت منه عن سبب رفضه الصلاة بنا كالعادة، فقال إنه تعرض لموقف صعب أثناء وجودنا في القرية المنكوبة، فلأول مرة في عمره يطلب منه منكوب المساعدة فلا يستطيع مساعدته. سألته: كيف؟ فردّ سؤالي بسؤال: أتذكر عندما كنا نصور الرجل الذي كان يبكي أسرته، حيث حضر رجال يبكون وتكلموا معنا؟ أجبته: نعم، أذكر ذلك.

فقال لقد ذكروا أن الطائرات التي أبادت هذه القرية قد قصفت قريته أيضاً هناك عند سفح الجبل، وأن أسرته توجد الآن تحت الأنقاض، ويريد من يساعده لرفع تلك الأنقاض ودفن الأشلاء. وأضاف أنه لم يستطع أن يكلمنا لأنه رآنا مستعجلين على العودة إلى قندهار (لإرسال التقرير)، فعاد منكسر الخاطر لرده ذلك الرجل ومعه أولئك القوم من أهل القرية التي عند سفح الجبل دون مساعدتهم.

وعدته بأن أخرج معه بعد صلاة الفجر لنحاول مساعدة أولئك المنكوبين، ولأصور حالتهم وأكتب عنهم وعن القرية تقريراً، وانطلقنا مع شروق الشمس.

حلقات "غوانتنامو قصّتي".. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق