الجمعة، 6 يناير 2017

"غوانتنامو قصّتي".. الوجه البشع للإنسانية


"غوانتنامو قصّتي".. الوجه البشع للإنسانية
سامي الحاج
مدير مركز الجزيرة للحقوق والحريات، ومعتقل سابق بسجن غوانتنامو.

بعد أربع ساعات أو خمسٍ من الطيران أنزلونا في مطار، ثم نقلونا إلى طائرة أخرى. أحسسنا ببرودة الجو، وقد أدخلونا في الطائرة بالطريقة السابقة نفسها، وأجلسونا على كرسي خشبي صلد، وربطوا أرجلنا إلى أرضية الطائرة بسلسلة ضاغطة ثقيلة. ولئن كانت الرحلة الأولى نحو أربع ساعات، فإن هذه الرحلة استغرقت ما بين اثنتي عشرة ساعة إلى ثلاث عشرة ساعة. كانت رحلة شاقة تجمدت فيها أطرافنا وأصابنا إرهاق غير عادي، فقد مُنعنا من النوم ومن الحركة.

غريب أمر الإنسان، فبينما هو يسبح في أمانيه ومشروعاته التي لا حد لها، تصبح أقصى أمانيه أن يحرك رجله أو يدير يديه أو يفتح عينيه. وأذكر أنني عندما نزلت، بل أُنزِلت على الأصح، من الطائرة صاح صائح "أنت في قبضة المارينز الأمريكي، لا تتكلم، لا تتحرك".

غوانتانامو.. ذلك المكان الذي مُلئ جوراً وعُبِّئ بالكراهية المفرطة ودِيست فيه كل القيم والأعراف التي نادت بها الأديان والمعتقدات.
كنت أعاني ضعفاً ووهناً وإرهاقاً غير عادي ولا يمكن وصفه. أنزلونا ثم طلبوا منا المشي ولم تستطع أرجلنا أن تحملنا. كانوا يوقفون أحدنا فيسقط، لأن قدميه فقدتا الإحساس ولم تعودا تقويان على التحرك، فيحاولون إيقافه مرات دون جدوى. ويضربونه على الأطراف والجنبين كيفما تيسر، رفساً بالأرجل ولَكْماً بالأيدي. فإن لم يُجْدِ ذلك، سحبوه سحباً حتى يُدخلوه في حافلة كانت تقف في الانتظار على أرضية المطار.

لم تكن في الحافلة مقاعد، فكانوا يجلسوننا على أرضيتها في شكل صفوف. كانت جلستي غير مريحة وكنت أحاول أن أعتدل، فكان الجندي يضربني كلما تحركت طوال الرحلة من المطار إلى القاعدة العسكرية التي تحوَّلت سجناً ليس كالسجون الأخرى، بل إنها العار الذي لطخ جبين الإنسانية، والفضيحةُ التي كشفت زيف الادعاء باحترام حقوق الإنسان، والشنارُ الذي لحق بأدعياء الحرية.
 
غوانتانامو.. ذلك المكان الذي مُلئ جوراً وعُبِّئ بالكراهية المفرطة ودِيست فيه كل القيم والأعراف التي نادت بها الأديان والمعتقدات. إنه الوجه البشع لتحوُّل الإنسانية مُنزلقاً هو أسوأ من حياة الغاب وأردأُ مما قرأناه عن القرون الوسطى! غوانتانامو تجسيد وصورة نابضة لتسلط القوة وتحولها كابوساً!

أذكر أنني حينما كنت في تلك الحافلة في طريقنا نحو لظى غوانتانامو، كان أحد السجناء المساكين يئنُّ من فرط الألم، ويظن الجندي أنني صاحب ذلك الأنين فيضربني.

عرفنا فيما بعد أن الجزيرة التي هبطت فيها الطائرة هي غير الجزيرة التي يوجد فيها السجن، وبعد رحلة الحافلة أخذونا في عبّارة مدة عشر دقائق تقريباً إلى جزيرة أخرى، ثم نقلتنا حافلة أخرى بالطريقة السابقة نفسها، وكنا نسمع أصوات طائرات الهليكوبتر والسيارات.

بعد حوالي ساعة من تحرك الحافلة الأخيرة، أنزلونا ثم أدخلونا إلى مكان وأجلسونا على الأرض وأرجلنا ممدودة إلى الأمام. أرخوا القيود الموضوعة على الأرجل وسمحوا لنا بمد أرجلنا وبسطها إلى الأمام بعد أن كان ذلك مستحيلاً بفعل القيود المشدودة بسلسلة أقصر من القامة طوال رحلة العناء والكرب ما بين قندهار وغوانتانامو. بقيت الأيدي مقيدة ولكن الوضع كان أرحم منه في الطائرة. بعد ذلك، بطحونا على الأرض.
 
في حدود منتصف النهار شعرت بآلام حادة في قلبي، فطلبت المساعدة وأخبرتهم بتلك الآلام، فكانوا في البداية يضربونني ويقولون لي أنت قوي ولا تعاني شيئاً. فلما تكرر إصراري وتعددت شكاتي، حضر أحد الجنود ووضع يده على جهة القلب، ومع إحساسه بضعف النبض أخذني مباشرة إلى داخل المبنى، وهناك سألوني: ما الذي تعانيه؟ فبينت لهم أنني أشعر بآلام في القلب وضعف في النبض تنتج عنه آلام حادة.

قص الجنديان اللذان أدخلاني جميع الملابس التي كنت أرتديها، وأدخلاني إلى غرفة بها حمام مخلوع الباب، وأخبراني بأن عليَّ أن أستحم بسرعة على مرأى الحرّاس! فتحوا الماء فانصبَّ على جسدي، وبعد دقائق قلت لهم إنني انتهيت من الاغتسال وأريد الذهاب إلى الحمام. فقالوا: لا يوجد حمام!

أخذوني إلى جندي آخر يقوم بالفحص الروتيني المعروف بما فيه من إهانة، ثم أعطوني ملابس برتقالية أخرى غير التي قصوها من قبل، ووضعوا القيود من جديد في يدي ورجلي، وأخذوني إلى مكتب وجدت فيه محققين سألوني عن اسمي وعمري وبلدي وميلادي، ثم التقطوا لي صورة وأنجزوا لي بطاقة.
أخذوني بعد ذلك إلى عيادة، وأدخلوني فيها مقيداً، وسألني الطبيب ما الذي أشكو منه، فبينت له ما أعانيه من ضعف في النبض وآلام في الصدر من جهة القلب.
كانت المفاجأة أنهم سلموني ورقة صغيرة، وقالوا لي اكتب إن شئت رسالة لأسرتك. كتبت رسالة على ما أذكر من خمسة أسطر، كان مضمونها على هذا النحو:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الزوجة الحبيبة أم محمد،،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أنا الآن موجود في جزيرة غوانتانامو، في كوبا.
تم ترحيلي إليها وأعتقد أنه سيتم فحص ملفاتنا هنا وسيعرفون أنهم أخذوني بالخطأ، وسيقومون بإعادتي إلى بلادي أو إلى قطر في القريب العاجل.
والسلام عليكم ورحمة الله
 
أذكر أن هذه الأسطر هي التي كتبتها بالضبط وأضفت إليها طلب تبليغ السلام لابني محمد وضرورة الاهتمام به.

أخذوني بعد ذلك إلى عيادة، وأدخلوني فيها مقيداً، وسألني الطبيب ما الذي أشكو منه، فبينت له ما أعانيه من ضعف في النبض وآلام في الصدر من جهة القلب. فأجرى لي فحوصات سريعة وعامة وسألني إن كنت أعاني أمراضاً معينة. فبينت له أنني أعاني مشكلة في الغدة، ولدي دواء كنت أستعمله بانتظام بحسب توجيه الأطباء. وأخبرته بأنني أعاني تمزقاً في الرقبة وبعض أعراض الروماتيزم المزمن.

لم يكن الرجل مهتماً بتلك الأمراض، فنهرني قائلاً: نحن لا نسأل عن هذه الأمراض، إنما نسأل إن كنت تعاني أي مرض مُعْدٍ. فسألته: ما الذي تعنيه؟ قال هل تعاني الإيدز؟ قلت له: معاذ الله، ليس عندي مرض من ذلك القبيل. قال: هل تعاني الملاريا؟ قلت له: كانت تأتيني على فترات متباعدة. قال: سنعطيك حبوباً وعلاجات لها. ثم طلب من الجنود أن يخرجوني فجـرُّوني إلى التحقيق مباشرة.

وعلى الحدود الأفغانية وجدنا أفغانياً ينتظرنا يُسمى قاري سيب، أو قاري حافظ (1)
*[علمت بعد خروجي من السجن أنه قُتل وتذكرت أبناءه اليتامى الذين كانوا يأتون معه].

كان يتكلم اللغة العربية وكان دليلنا إلى قندهار التي وصلناها تلك الليلة، وعندما وصلنا إلى أبواب قندهار، كان هناك قصف جوي مكثف على مطار المدينة. وأذكر أن الزميل يوسف الشولي أنجز أول مقابلة صحفية وظهر على الهواء مباشرة، وأعلن أن مطار قندهار يقصف بالطيران في تلك اللحظات.

أقمنا في البيت الخاص بـ "سي.أن.أن"، وتابعنا عملنا اليومي من قندهار، وكان تركيز الحرب في الشمال، وكانت حركتنا مقيدة في المدينة التي تعتبر حاضرة حركة طالبان يومئذ. وأذكر أننا خرجنا في إحدى المرات إلى السوق وكنت أقوم بالتصوير فاعتقلتْنا عناصر من حركة طالبان يوماً كاملاً، حتى تحققوا من أوراقنا وتأكد لهم أننا نعمل لحساب قناة الجزيرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق