الأحد، 15 يناير 2017

العاصمة الإدارية كارثة إستراتيجية


العاصمة الإدارية كارثة إستراتيجية

عامر عبد المنعم


لا توجد دولة في العالم تنقل عاصمتها فجأة، بدون مقدمات، وبدون دراسة، وبدون طرح مشروع خطير كهذا للحوار المجتمعي؛ فنقل العاصمة المصرية إلى صحراء العين السخنة كارثة إستراتيجية بكل المقاييس، ويصب لصالح الكيان الصهيوني، ويشكل تهديدا لا يستهان به لمستقبل الدولة المصرية التي تستهدفها المخططات الخارجية بالتفكيك والتقسيم.

الغريب أنه في الوقت الذي ينهار فيه الاقتصاد، تبدد الحكومة المصرية المليارات في تشييد البنية الأساسية لمشروع العاصمة، بالاقتراض من الخارج وبتبديد الأرصدة، ويزعمون أن الإنفاق يتم من خارج ميزانية الدولة رغم أنهم يعترفون بأنهم ينفقون من عائد بيع الأراضي التي تحصلها هيئة المجتمعات العمرانية، وكأن هذه الهيئة ليست تابعة للدولة، وكأن الأراضي التي تباع ليست ملكا للدولة.

من الناحية الإستراتيجية فإن قرار نقل العاصمة إلى منطقة صحراوية مكشوفة بالقرب من الحدود مع الكيان الصهيوني قرار خاطئ من جميع النواحي، ولا يوافق عليه أي مخطط استراتيجي، فهذا المكان يفتقد كل مقومات التحصين في حالة نشوب أي حرب مع الإسرائيليين، ووجوده في العراء في منتصف المسافة بين ساحل البحر الأحمر والقاهرة يعد صيدا سهلا لأي هجوم أو عدوان.

ومن المتعارف عليه عالميا أن العواصم تخضع لحسابات إستراتيجية، ويشترط فيها أن تكون في مواقع آمنة، ومحاطة بخطوط حماية طبيعية وبأحزمة ديموغرافية تحميها، تعيق أي قوى خارجية تريد حصارها أو عزلها، ولهذا فالعواصم غالبا تكون في وسط الدولة، وبعيدة عن الحدود مع دول الجوار خاصة إذا كانت تواجه دولة معادية، وفي حالة العواصم القريبة من الشواطئ فيراعى فيها التواصل السكاني مع باقي البلاد.

تدل واقعة الثغرة في حرب أكتوبر 1973 على أن الصحراء نقطة ضعف في مواجهة عدو متربص يمتلك أسلحة متطورة، ففي الوقت الذي كان فيه الجيش المصري في حالة حرب ودرجة استنفار قصوى ركز قادة الجيش الإسرائيلي موشي ديان وشارون على فتح ثغرة الدفرسوار، وأقاموا رأس جسر عبروا من خلاله القناة وحاصروا مدينة السويس والجيش الثالث، وكانت لهذه العملية آثارا سلبية على مجمل المعركة وما تحقق من انتصار، ومازال الجدل مثارا حولها حتى الآن.

الفخ المنصوب للحكومة في الصحراء
بافتراض اكتمال هذا المشروع فماذا لو تطورت الأحداث واشتعل الصراع مع الصهاينة لأي سبب من الأسباب، وحاصر الجيش الإسرائيلي العاصمة الإدارية، ووقعت الحكومة المصرية في قبضة القوات الغازية رهينة؟ كيف سيكون وضع مصر والقيادة السياسية والحكومة أسرى؟
على المدى القصير ماذا لو حدث تصعيد للصراع مع الإسرائيليين قبل اكتمال العمل في العاصمة الإدارية، أو توقف العمل لأسباب مالية وأمنية، أو بسبب تغييرات سياسية وإلغاء المشروع، وهذا أمر وارد، أليس ما تم بناؤه من مسلحات خرسانية وشبكة أنفاق بالغة التحصين أسفل المدينة (6متر ×6 مترا) يعد مكانا مناسبا للاستغلال كقاعدة عسكرية للجيش الصهيوني وغيره من الجيوش التي تنتشر بالمنطقة بزعم مكافحة الإرهاب؟
في الحالتين: اكتمال البناء أو عدم الاكتمال فإن مكان العاصمة خطأ استراتيجي فادح، وتصرف غير محسوب، وهو تنفيذ لأفكار معلبة، تم تمريرها من خلال دوائر الموظفين المرتبطين بالمؤسسات الدولية في وزارتي الإسكان والتخطيط اللتين خرجت منهما مشروعات "القاهرة 50" و"التقسيم الإداري للمحافظات" وإخلاء وسط العاصمة بدعوى التطوير، وهي في الحقيقة مشروعات لتفكيك الدولة المركزية لتقسيم مصر!

عاصمة للأجانب والأثرياء
عندما طرح المشروع في البداية لم يكن لبناء عاصمة جديدة، وإنما كان مشروعا عقاريا استثماريا، لإقامة منطقة مغلقة، يقيم بها الأجانب وموظفي الشركات العالمية والأثرياء الذين سيتم انتقائهم أمنيا، وكان الاسم الذي اختاروه للمشروع Wedian "وديان" ومازال الاسم موجودا حتى الآن على الخريطة التي تنشرها هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة عن المشروع، ولم يتم تغييره!

جاء التفكير في تأسيس هذه المنطقة في قلب الصحراء الشرقية كبديل مرحلي لمخطط تفريغ وسط القاهرة بطرد الحكومة منها والتخلص من السكان وإخلاء الأسواق في العتبة والغورية والأزهر والوكالة وغيرها، الذي سيحتاج وقتا لصعوبة الإخلاء في فترة زمنية قصيرة كما كان مقررا، وهم يركزون الآن على تفريغ نواة هذه المنطقة المسماة بالقاهرة الخديوية، ويليه القاهرة الفاطمية والإسلامية، لتأسيس "المنطقة الخضراء" على الشاطئ الشرقي للنيل، والذي تناولته بالتفصيل في مقال سابق.

وتم التمهيد لعملية الإخلاء في وسط العاصمة بقرارات وإجراءات كثيرة، منها دعاوى التخلص من العشوائيات وما يسمى الأماكن الخطرة، ومنها انتزاع ممتلكات الأوقاف من هيئة الأوقاف وإعطائها للجنة ذات تشكيل خاص للتصرف فيها، ومن المعروف أن معظم المباني في وسط العاصمة تابعة للأوقاف، ويعد أخطر هذه الإجراءات حصر ممتلكات الوزارات لبيعها.

لا يعني قرار نقل العاصمة إلى العين السخنة تراجع فكرة إخلاء منطقة وسط البلد؛ فكلا المشروعين مرتبطان بـالحلم الصهيوني "إسرائيل الكبرى" الذي يهدف إلى السيطرة على الصحراء الشرقية وحتى نهر النيل، بل إن قرار نقل العاصمة شرقا هو الباب الذي من خلاله سيتم إخلاء قلب القاهرة، وتحت مبرر نقل العاصمة وبناء أكبر كنيسة ومسجد سيتم بيع كل مقار الحكومة المصرية والقصور والمباني المملوكة للدولة مثل مجلسي الشعب والشورى وماسبيرو ومجمع التحرير الذي تم إخلائه بالفعل تمهيدا للبيع.

ومع حملة الترويج للعاصمة الجديدة وإلهاء الشعب سيتم عرض ممتلكات الدولة كلها مرة واحدة، في وقت واحد، وقد استعدت الدول الغربية وشركاتها الكبرى لهذا المزاد وتصفية أصول الحكومة، وتقاسمت فيما بينها الغنائم، وكلهم ينتظرون الإعلان النهائي عن البيع، الذي سيكون صوريا حيث كل شيء تم ترتيبه من خلال الدوائر التي تمسك بعملية التخطيط والتنفيذ ولم يتركوا أي تفاصيل للمفاجآت.

عاصمة بلا موظفين وبلا عمال
يعلن المسئولون في الحكم عن جنة موعودة في صحراء العين السخنة، ويطلقون الوعود بجني المليارات من الدولارات، ويكررون ذات الوعود التي قيلت من قبل عن مشروع تفريعة قناة السويس، ولكن من خلال رصد التصورات المعتمدة نكتشف أنهم يتحدثون عن أرقام ومقار ومبان دون الحديث عن العنصر البشري والإنسان المصري، ويتحدثون عن إقامة مجمع حكومي بقرض صيني دون الحديث عن الموظفين والعاملين، وليس في حساباتهم الملايين الذين ينزلون القاهرة يوميا للتعامل مع الوزارات.

من خلال المخطط والتصميمات للعاصمة الجديدة ليس من المقرر بناء مساكن للموظفين والعمال، وإنما المتفق عليه أحياء سكنية استثمارية كاملة التشطيب، يتراوح سعر الوحدة منها بين مليون ومليوني جنيه، وليس في التخطيط بناء عمارة سكنية واحدة بأسعار اقتصادية رغم أن الأسعار الاقتصادية التي تبيع بها الحكومة الآن في مناطق أخرى ليست في متناول الطبقة الوسطى من العمال والموظفين.
حسب التصور المطروح لن يكون أمام موظفي الوزارات الحكومية غير الاستقالة، فهم لن يستطيعوا السفر يوميا هذه المسافة الطويلة لصعوبتها ولعدم وجود المواصلات في المخطط المطروح، كما أنهم لن يقدروا على شراء مساكن بأسعارها المعلنة التي تفوق طاقتهم.
وهناك سيناريو محتمل لا يقل كارثية وهو تصفية أصول الدولة وممتلكات الحكومة في قلب القاهرة من وزارات ومستشفيات ومرافق ومدارس، والتخلص من الموظفين دون الانتقال إلى العاصمة الجديدة، وهذا احتمال وارد بنسب مرتفعة، فماذا سيكون شكل الدولة المصرية في ظل هذه التصفية؟

خصخصة العاصمة
ولكي تتهرب الدولة من مسئوليتها، تقرر نقل ملكية العاصمة من الحكومة إلى شركة مساهمة "شركة العاصمة الإدارية" لتكون لها الحرية في التصرف والإدارة والبيع، ثم قرر المجلس الأعلى للاستثمار برئاسة عبد الفتاح السيسي طرح الشركة للبيع في البورصة للأجانب، أي أن العاصمة ستكون ملكية خاصة للمستثمرين والشركات العالمية والصهيونية، ويترتب على هذا الطرح تثبيت المخطط والتصميم كما هو ومنع التعديل عليه، وخروج الحكومة من إدارة العاصمة الجديدة وتركها للشركات!

ولأن المشروع مخطط بعناية فإن احتمال التمدد العشوائي للسكان غير وارد، فالمخطط موضوع أصلا لوقف التمدد السكاني شرقا، ولهذا فمساحة العاصمة التي تبلغ 170 ألف فدان معظمها مساحات خالية كمسطحات خضراء وملاهي ومتنزهات وحدائق، وسيتم إحاطتها بسور من الحوائط الخرسانية الجاهزة لتكون أشبه بالمستعمرات لمنع أي تغيير في التصميم، مع ملاحظة أن اتجاهات وطبيعة المباني في الأحياء السكنية وموقع الحي الحكومي مصممة بطريقة لا تخلو من الدلالات.

ولأن الهدف هو السيطرة على كامل المنطقة الشرقية فإن المساحة التي تقع بين العاصمة الإدارية و البحر الأحمر تم نقل ملكيتها من الدولة إلى مجموعة مختارة من رجال الأعمال، وستكون الفناء الخلفي للمستعمرة الجديدة وغير مسموح فيها لأي مشروعات إنتاجية أو إسكانية، وهي فقط مخصصة للسياحة حتى تكون الإقامة بها مؤقتة وليست دائمة.

***
قرار إنشاء العاصمة الإدارية يحتاج إلى إعادة تفكير، فالتوقف لمزيد من الدراسة المتأنية أسلم من الاندفاع في مشروع غير مدروس؛ فالمشروعات الكبرى لا تتم في الغرف المغلقة وبناء على رغبة شخص أيا كان، أو في لحظة تاريخية يتوهم فيها البعض كذبا أن العدو أصبح حليفا.
إن نقل العاصمة إلى بقعة معزولة في الصحراء، والطريق إليها خال ومفتوح من الشاطئ يعني نقل قيادة الدولة إلى فخ أريد لهم، وإعطاء العدو ورقة للضغط على مصر طوال الوقت، يستطيع استثمارها بأكثر من طريقة وفي كل الأوقات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق