يحكى أنَّ: اختطاف رئيس
أسعد طه
وبالفعل، التزم الصرب وتوقفوا عن رشق سراييفو بصواريخهم، وخرج علي من المطار الذي يسيطر عليه الجيش اليوغوسلافي، والذي في الحقيقة بات في أيدي الصرب بعد انسحاب المسلمين والكروات، وما إن وصل لشبونة حتى استأنف الصرب قصفَ سراييفو، فقطع علي المفاوضات وقرر العودة مباشرة، وكان ذلك في الثاني من مايو/أيار عام اثنين وتسعين.
سابينا ابنة الرئيس علي ومترجمته حكت لي ما جرى وقالت: "لقد انطلقنا عائدين في طائرة المجموعة الأوروبية، وعندما اقتربنا من سراييفو، حاول قائد الطائرة الاتصال بمطارها، لكن أحداً لم يردّ عليه، سألنا ماذا يفعل، وخيّرنا بين التوجه إلى العاصمة الكرواتية زغرب أو إلى العاصمة الصربية بلغراد، فاختار والدي زغرب، وبمجرد أن غيَّرت الطائرة مسارها حتى اتصل مطار سراييفو؛ ليبلغوا قائد طائرتنا بأنهم موجودون، وأن مراقبة الطيران جاهزة، ويمكننا الهبوط".
تستكمل سابينا: "عندما هبطت بنا الطائرة، سألني أبي إن كنت أرى أحداً في المطار، أخبرته بأنني لا أرى من نافذة الطائرة سوى دبابات تحيط بنا موجهة فوهات مدافعها باتجاه طائرتنا وحولها عناصر من الجيش اليوغوسلافي، وما إن نزلنا من الطائرة حتى اقتادونا فوراً إلى غرفة صغيرة، وأذكر أنه كان معنا السيد لاغومجيا، الذي كان حينذاك رئيس الحكومة أو نائب رئيس الحكومة، لست متأكدة الآن، وكان معنا أيضاً دينو، عنصر الحماية الشخصية، وأنا، نحن الأربعة فقط".
القصة التي تحكيها سابينا غاية في الإثارة والغرابة، خاصة أن ممثلي المجموعة الأوروبية التي منحت الرئيس كل الضمانات لسلامته ومرافقيه اختفوا فجأة ولم يكونوا في استقبالهم في المطار.
تتابع سابينا روايتها: "ما إن جلسنا إلى طاولة، حتى طلب أبي الهاتف، فأجابوه على الفور بأن خطوط الهاتف لا تعمل، وكان قائد المطار وهو برتبة عقيد جيش قد اختار أربعة من الجنود الشبان، ووزعهم على زوايا الغرفة الأربع، فوضعوا أسلحتهم في وضع الإطلاق ووجهوها نحونا، فلم يكن بإمكان أحد منا أن يتحرك".
وفي لحظة من اللحظات، تصادف أن خرج قائد المطار من الغرفة، وبعد خروجه بدقيقتين، رنَّ جرس الهاتف الموجود على الطاولة في الغرفة ذاتها، انتابني الخوف، فإذا أمسك أبي بالسماعة فسيقتله الجنود، فسارعت لرفع السماعة، فإذا امرأةٌ عادية تسأل إن كان هناك طائرة ستغادر سراييفو، فهي تريد الرحيل، وكان أبي طوال الوقت يقول: أعطني الهاتف، أعطني الهاتف، ففعلت، فقال لها: "سيدتي، أنا علي عزت بيغوفيتش، وأنا موجود في المطار، لقد أسرتني قوات الجيش اليوغوسلافي، أرجوك اتصلي فوراً بالرئاسة وبالتلفزيون، ثم وضع السماعة".
"كان الجنود الشبان في ذهول، لم يكونوا يعرفون ماذا يفعلون، هل يطلقون النار أم لا، فالقائد غير موجود. عاد القائد، وهو لا يدري ماذا حدث، لا علم له بشيء. ولم يجرؤ أحد على إخباره".
انقضى النهار بأكمله، وفي المساء قرر القائد الصربي نقل علي ومن معه إلى الثكنة العسكرية في لوكافيتسا، وهي على بُعد ساعة من المطار، كانت تلك الثكنة معقل الصرب العسكري، ومنه يقصفون المدينة طوال الوقت، فقضى الأربعة ليلتهم وهم يستمعون إلى قصف الصرب لمدينتهم بمختلف أنواع الأسلحة من موقع أسرهم.
تواصل سابينا حديثها معي وتصف الموقف في الثكنة التي نُقلوا إليها فتقول: "كان هناك ضباط شبان وكذلك الكولونيل غاغوفيتش، الذي كان عصبياً جداً إلى درجة الجنون. كان الوضع على حافة الانهيار؛ لأنه في نفس الوقت ظهرت مجموعة كبيرة من المدنيين الصرب المدججين بالسلاح، جاءوا يريدون رأس أبي، وكان السبب الذي دفعهم لذلك أنه قبل نحو عشرين يوماً هاجمت مجموعة من قوات الدفاع المحلي في سراييفو ناقلة جنود صربية، وتم أسر بعضهم".
وتضيف: "أذكر أن ضابطاً شاباً كان يحاول أن يكون لطيفاً معنا، وأخبرنا عدة مرات بأن المصادفة وضعته في هذا الموقع عندما بدأت الحرب، وكان يحضر لنا علب الحليب ويفتحها أمام أعيننا؛ لكي لا تساورنا أي شكوك، أما أنا فقد كنت أحاول الاتصال بالسفير الأميركي في بلغراد، وأخفقت في الوصول إليه، ربما لأني كنت مضطربة، ثم أخذ ذلك الضابط الهاتف تحت الطاولة وطلب الرقم ثم أعطاني السماعة. تواصلت مع السفير الأميركي مباشرة، وأخبرته بما يجري".
على الرغم ما مر به بيغوفيتش من اعتقالات سابقة، فإنه يصف تلك الليلة بأنها الأصعب، فقد كان يخشى أن يقع سوء لابنته وهم بأيدي الصرب، خصوصاً عندما أخبرته سابينا في الرابعة صباحاً بأنها ستذهب مع طبيبة صربية موجودة بالثكنة لتستلقي قليلاً حيث إنها مصابة بنوبة برد شديد.
تقول سابينا: إن الطبيبة كانت تشتكي طوال الوقت أن جنودهم الذين جاءوا لاقتحام سراييفو يتعرضون للإصابة والقتل، وكيف أنها تعمل على إنقاذهم، وعندما عدت إلى والدي وجدت أن القلق والخوف عليَّ قد سيطرا عليه تماماً، ولو كنت أعلم ذلك ما كنت ذهبت.
وتضيف سابينا: "كان هناك كثير من الأمور الغامضة، لكنني أظن أنه لو لم يكن شقيقي في سراييفو في ذلك الوقت، لكانت الأمور اتخذت منحى مختلفاً تماماً".
كان سناد حجي فيزوفيتش، أشهر مذيع في البوسنة وقت الحرب، وما زلت أتذكر واقعة طريفة له في ذلك الحين، فقد كان ياسوشي أكاشي الياباني هو الأمين العام للأمم المتحدة حينذاك، وكان البوسنيون يكرهونه لمواقفه ضدهم وإجهاضه لكل محاولات كبح جماح الصرب، كما يعتقدون، وحدث أن وقع زلزال في اليابان، وخرج سناد في نشرته بالتلفزيون ليقول بكل جدية: إن زلزالاً قد وقع في اليابان، وللأسف لم يكن ياسوشي أكاشي موجوداً.
في بهو فندق هوليداي إن بسراييفو يحكي لي "سناد" الوجه الطريف من الحكاية - إذا صحَّ هذا التعبير- فيقول: "كنت قد دخلت الاستوديو قبل الساعة الثالثة ظهراً بقليل، وبدأت في تقديم برنامجي اليومي على الهواء مباشرة، وكأنه نشرة الأخبار اليومية، كان ذلك شيئاً لا يصدق، فقد كانت كافة الأطراف حاضرة على الهواء، حتى المعتدون الذين يقومون بالهجوم، بمن فيهم القادة العسكريون الصرب، سواء كبار القادة أو مساعدوهم، وكذا القادة الميدانيون، وفي السابعة والدقيقة الثالثة والعشرين تماماً، وبشكل غير متوقع، رنَّ الهاتف الموجود على طاولتي بغرفة بث النشرة، فقمت بالرد على الهاتف، مع أني أعلم تماماً، كما أبلغوني من غرفة التحرير، أنه تبقى لدينا 18 ثانية فقط حتى نهاية البرنامج.
جاءني صوت عبر الهاتف يقول: أنا علي، شككت في أن هذه خديعة من غرفة التحرير على شكل معاكسة من أحد، يمزح بعد خمس ساعات من العمل المتصل على الهواء مباشرة؛ ليجعلني أسترخي قبل ختام البرنامج، مما جعلني أسايره وأقول له ومن دون تحفظ إطلاقاً: أين أنت يا علي؟ ماذا لديك؟ كيف أنت يا علي؟ وهكذا، ومن ثم فقد تعرف هو على صوتي، وقال: "هذا الصوت معروف لدي"، قلت له: قل لي أنت مَن تريد؟ عندها قال: "أريد أحداً من مجلس الرئاسة"، قلت : لا والله، أنت أخطأت مجلس الرئاسة، قال: "هل أنت سناد؟"، "نعم أنا" ومن ثم واصلنا البرنامج ليستمر هذا الجنون حتى الخامسة والنصف صباحاً.
يقول سناد: "لقد اكتشفنا أن الرئيس مختطف لكن لحسن الحظ أن الذي قام باختطافه هو الجنرال فويسلاف جورجيفاتس الذي كان قبل ذلك بعشر سنوات قائدي بالجيش حيث كنت أعمل صحفياً، ومن ثم قمت ببذل قصارى جهدي خلال الساعات الخمس أو الست التالية ليعطيني كلمة شرف عسكرية بأنه لن يحدث للرئيس سوء".
لعب الإعلام دوره، واجتمعت الجهود والوساطات وتمت مبادلة الرئيس بجنرال صربي كان معتقلاً لدى المسلمين بين الساعة الرابعة والخامسة من مساء اليوم التالي.
مفيد مميا، مستشار الرئيس للسياسة الخارجية لاحقاً يخبرني الآتي: "مرة قال لي علي ونحن في طريقنا من تارتشين إلى إيجمان: أتعلم يا مفيد، سألت القادة الميدانيين عما إذا كنا سنمر بالأراضي الخاضعة لسيطرة الجيش الصربي، فأجابوني بالنفي، لكنهم قالوا إننا سنمر قريباً جداً من خطوطهم، وسوف يروننا من ذلك التل في الجهة الأخرى، كما يرون كفوف أيديهم، وإنهم يستطيعون إطلاق النار علينا بسهولة، وقال: إني لا أخاف من ذلك، أن أقتل بقذيفة، لكني لن أسمح أبداً بأن أقع في أسرهم مرة أخرى، إلى ذلك الحد أثرت فيه تجربة الأسر في الثاني من مايو/أيار في لوكافيتسا، حتى إنه قال إنني أمرت حراسي الذين يرافقونني أن يطلقوا النار عليَّ في حالة وقوعي في الأسر".
كلما تذكرت هذا الملف تذكرت ما قاله سناد لي: "حسب علمي كانت هذه هي الحالة الوحيدة؛ الأولى والأخيرة التي يكون فيها رئيس دولة مختطفاً بواسطة الجيش، الرئيس الشرعي المنتخب للدولة"، ودائماً أقول في نفسي ربما هي الأولى لكنها ليست الأخيرة، ولدينا نسخ عربية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق