لا ينفصل الحديث عن صفقة جزيرتي تيران وصنافير عن مشروع الجسر البري، الرابط بين السعودية (تبوك) وجنوب سيناء (مصر)، إذ بات من الواضح أن المشروعين مرتبطان، بل ومتلازمان، لأسبابٍ جيوسياسية، أكثر من كونها اقتصادية أو تنموية.
بالأمس، أخرجوا خبيراً عسكرياً ليقول لصحيفة المصري اليوم إن"إنشاء هذا الجسر يعزّز فكرة (مسافة السكة) التى قالها الرئيس عبدالفتاح السيسى، لحماية الأمن القومى العربى".
كان الخبير، اللواء محمد الشهاوي، يعلق على ما نشرته الصحيفة بشأن مقترحٍ بتحويل الجسر الذي سيربط بين مصر والسعودية، عبر البحر الأحمر، إلى نفقٍ، ليكون أفضل من الناحية الفنية. وما قالته مصادر مطلعة إن الدراسات الفنية التى تجري حالياً بشأن الكوبري لم تنته بعد، وهناك دراساتٌ لعدم تأثر الشعاب المرجانية بطول النفق أو الجسر حال تنفيذه، بحيث يتم الحفاظ على الشعاب المرجانية فى هذه المنطقة".
وسواء كان الرابط جسراً أم نفقاً، فإن الأمر برمته متصلٌ بما يروج عن"صفقة القرن"، وبما يتأكد، كل يوم، من أن السعودية على يقينٍ بأنها قضية الجزيرتين حسمت لصالحها، إن لم تكن قد بسطت نفوذها عليهما بالفعل، وليس من قبيل الارتجال، أو المصادفات، أن يذكر ولي ولي العهد السعودي الجزيرتين والجسر في سياقٍ واحد.
في ذلك كله، تبدو إسرائيل راضيةً وسعيدةً بما يجري، وتكتفي بصمتٍ يشبه صمت العروس حين تُسأل عن المتقدّم لخطبتها، وهو ما يرسخ، مجدّداً، الانطباع المتنامي بأن شبه جزيرة سيناء، كلها ممدّدة على مائدة المخططات والتصورات الخاصة بالمنطقة، ويدعم ذلك الانطباع تطرّق رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، خالد مشعل، لمسألة توطين الفلسطينيين في سيناء، معلنا الرفض القاطع لسيناريوهات من هذا النوع، بما يشي بأن الموضوع مطروح.
لكن السؤال: لماذا كل هذا الإصرار على الجزيرتين والجسر، على الرغم من أنه عندما طرح، قبل نحو عشر سنوات، تراجع حسني مبارك، على نحو دراماتيكي مفاجئ، في تلك الليلة الموعودة لتدشين مشروع الجسر، مقدّماً أسباباً تتعلق بالشعاب المرجانية ومقومات جنوب سيناء السياحية.
أذكر في تلك الفترة بين عامي 2007-2008، كنت أعمل في صحيفة سعودية وكان النبأ العاجل الذي تابعه الجميع في ذلك الوقت أن مبارك في الطريق إلى جدة، لتدشين "جسر الملك عبد الله" الذي يربط برياً بين الدولتين.
وظل المراسلون، والمحرّرون، في حال استنفار للتعامل مع الحدث الكبير، غير أن اليوم المقرّر للتدشين مضى كله، ولم يحصل أحد على معلومةٍ تبلل الريق، وتسكت المعدة الصحافية، الجائعة دوماً للخبر الجديد، وانتهى الأمر بأن أعلن مبارك من القاهرة "لا للجسر البري"، من دون أن يصدر تعليق من السعودية.
بعدها بأسابيع، التقيت في القاهرة، زميلاً كان قريباً من شؤون الرئاسة والمؤسسة العسكرية، وسألته : كيف تعلن "الأهرام" أن مبارك سافر لتدشين الجسر، ثم يعلن مبارك عبر"المساء" أنه لا يوجد مشروع جسر، وأنه لن يضحّي بالسياحة في شرم الشيخ؟. أخبرني الزميل أن "الجهة السيادية" الخفية تدخلت، بحسمٍ وصرامة، في اللحظة الأخيرة، وأوقفت تنفيذ المشروع، فرضخ مبارك، وهرول إلى النفي، حتى أنه لم ينتظر للصباح لينفي في "الأهرام" وأخواتها الصباحيات، واستدعى سمير رجب ليتحدّث إلى"المساء".
حسب الزميل، رأت "الجهات السيادية"، هذا المصطلح الذي يؤشر إلى الجيش والمخابرات، أن تنفيذ الجسر خط أحمر، لأنه يحمل كارثة استراتيجية على مصر، ولا يفيد إلا إسرائيل، كونه جرى تصميمه، بحيث يمتد من تبوك السعودية، ويهبط في الأراضي المصرية، واضعاً قدماً في تيران والأخرى في صنافير، وهما جزيرتان تمثلان موطئ القدم الوحيد للعسكرية المصرية، في حال نشوب صراع بحري مع إسرائيل.. وبذلك يكون الجسر قد خلص إسرائيل من نقطتي ارتكاز شديدتي الأهمية، تمثلان تهديداً رادعاً لجيش الاحتلال.
الآن، الآن لم تعد ثمّة خطوط حمراء، بما أننا في العصر"البمبي بمبي بمبي". وبما أن كل الأطراف تعيش حالةً من الحبور السافر بتصوّرات دونالد ترامب، وأحلام بنيامين نتنياهو، وأهازيج صفقة القرن، وتبادل الابتسامات والإيماءات مع الكيان الصهيوني، لم يعد أحد يفكّر في التوازنات الاستراتيجية، ولا أدوات الردع، بل صار التفكير كله في زيادة الحصة من حجم التجارة في أسواق الاقتصاد والسياسة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق