الاثنين، 8 مايو 2017

عصر الحمقى


عصر الحمقى

أحمد بن راشد بن سعيد
بروفيسور في الإعلام السياسي

كرٍس هيجز، بروفسور وصحافي وناشط أميركي معارض لكثير من مواقف بلاده وسياساتها تجاه قضايا محليّة وكونيّة، بما في ذلك الحملات العدوانية الصهيونية على قطاع غزة. مع صعود ظاهرة ترمب، شعر هيجز، ومعه كثير من المثقفين الأميركيين، بخطورة هذه الظاهرة على الديموقراطية، ناظرين إليها بوصفها إفرازاً لطغيان التشدّد اليميني المسيحي، وتفشّي القوميّة في أوصال الديموقراطيات الليبرالية. يرى مثلاً تيموثي سنيدر، أستاذ التاريخ في جامعة ييل، أنّ الصفة التي يستحقّها سلوك ترمب منذ الحملات الانتخابية وحتى مرور 100 يوم على وجوده في السلطة هي الفاشية، مشيراً إلى أنّه غير متفائل في هذه اللحظة من التاريخ بمستقبل البلاد، محذّراً من أنّ الديموقراطية الأميركية تتراجع، وأنّ عام 2018 (وليست نهاية فترة ترمب) سيشهد تحديد مسارها.
إنّه عصر الحمقى، هذا الذي نعيشه اليوم، بحسب تعبير هيجز في مقال له نشره موقع "تروث ديغ" (1 أيار/مايو 2017(. والحمقى هم الأشخاص غير المؤهلين للقيادة، الذين يضيّعون مكتسبات الأمة ويهدرون طاقاتها سواء كانوا في السلطة أم خارجها. يظهر الحمقى في الأيام الأخيرة للحضارات المتداعية، كما يخبرنا هيجز، تجسيداً فيما يبدو لمقولة: "إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله، فانتظر السّاعة". يشنّ الجنرالات الحمقى حروباً لا نهاية لها وغير قابلة للنصر، ثمّ يتركون الأمة على شفير الإفلاس.

يدعو الاقتصاديون الحمقى إلى تخفيض الضرائب على الأغنياء، وقطع برامج الخدمات الاجتماعية عن الفقراء، ثم يتوقّعون نموّاً اقتصادياً مبنيّاً على أسطورة. يسمّم الصناعيون الحمقى الماء والتراب والهواء، ويُخفّضون الوظائف والأجور. يقامر المصرفيون الحمقى بفقّاعات مالية من صنع أيديهم، ثمّ يُحمّلون المواطنين ديوناً تثقل كواهلهم. الصحافيون والمفكرون الشعبيون الحمقى ينهمكون في تشويه الوعي مصوّرين الطغيان ديموقراطية. الأساتذة والأكاديميون و "الخبراء" و "المتخصّصون" الحمقى يشغلون أنفسهم برطانة مبهمة ونظريات غامضة تدعم أيّ موقف تتخذه السلطة. الممثلون الفكاهيون والمنتجون الحمقى يعرضون مشاهد فظيعة وباهرة عن الجنس والدم والخيال الجامح كفيلة بإشغال المواطن عن قضاياه الحقيقية. الحمقى لا يشبعون، يضيف هيجز، ويحبّون كلمة "أكثر". إنّهم يكنزون الذهب والفضة حتى يعجز العمّال عن كسب لقمة العيش، وتنهار البُنى التحتية. إنّهم يعيشون في مساكن فارهة حيث يلتهمون كعك الشوكولا ويأمرون بإطلاق الضربات الصاروخية. إنّهم ينظرون إلى الدولة بوصفها سبيلاً للزهو والمشي في الأرض مرحاً.
حصاد عصر الحمقى لا بدّ أن يكون مرّاً. نصف الشعب الأميركي، كما يشير هيجز، يرزح تحت وطأة الفقر، "حرياتنا المدنية ربما تُؤخذ منّا، الشرطة المسلحة قد تقتل مواطنين عزّلاً من السلاح في الشوارع.
ماذا عن ترمب؟ يقول هيجز إنّه "وجه حماقتتا الجماعية، الكامن وراء قناع تحضّرنا وتعقّلنا المزعوميْن"، إنّه "النرجسيّ المهووس بالعظمة، المتعطش للدم، الذي يستخدم الجيوش والأساطيل ضد المستضعفين في الأرض متجاهلاً بابتهاج العذابات الإنسانية الكارثية التي يسبّبها الاحتباس الحراري....ثم يجلس في الليل فاغراً فاه أمام التلفزيون قبل أن يفتح حسابه "الجميل" في تويتر. إنّه نسختنا من الإمبراطور الروماني نيرون الذي خصّص أموالاً هائلة للدولة من أجل بلوغ سلطات سحرية".

"هذه اللحظة من التاريخ"، يردف هيجز، "تمثّل نهاية مسيرة طويلة حزينة من الجشع والقتل مارستها العناصر البيضاء، ومن المحتّم، في العرض الأخير، أن نقيء شخصيّة بشعة كترمب. لقد قضى الأوروبيون والأميركيون 5 قرون وهم يستولون ويسلبون ويستغلون ويلوّثون الأرض باسم التقدم الإنساني. لقد استخدموا تفوّقهم التقاني لإنتاج أشدّ آلات القتل فتكاً على الكوكب، موجَّهةً إلى أيّ شخص وإلى أيّ شيء، لاسيّما الثقافات المحليّة التي وقفت في طريقهم. لقد سرقوا ونهبوا موارد الكوكب وثرواته مؤمنين أنّ شغَف الدم والذهب لا ينتهي".

يتناول هيجز "التفكير السحري" الذي يكرّس الإيديولوجية الرأسمالية بصفتها حقيقة مطلقة: "توقعات البيع لا بدّ أن تتحقق دائماً. الأرباح لا بدّ أن تزيد دائماً. النمو حتمي. المستحيل دائماً ممكن...عندما تزدهر الرأسمالية، نزدهر نحن، كما يُؤكَّد لنا. امتزاج النفس بالرأسمالية الجماعية سلبَنا الإبداع والعطاء والقدرة على التأمّل الذاتي والاستقلال الأخلاقي. نحن نُعرّف قيمتنا، ليس باستقلالنا ولا بسلوكنا، ولكن بالمعايير الماديّة التي وضعتها الرأسمالية-الثروة الشخصية، البراند، المركز، والتقدم الوظيفي...هذا التجانس الجماعي سمة من سمات الدول الشمولية والسلطوية...وعندما يفشل التفكير السحري، يُقال لنا ما نقبله غالباً، أنّنا نحن المشكلة. يجب أن يكون لدينا إيمان أكثر...يجب أن نحاول أكثر. لا يُلام النظام أبداً. نحن الذين أفشلناه. هو لم يُفشلنا".

حصاد عصر الحمقى لا بدّ أن يكون مرّاً. نصف الشعب الأميركي، كما يشير هيجز، يرزح تحت وطأة الفقر، "حرياتنا المدنية ربما تُؤخذ منّا، الشرطة المسلحة قد تقتل مواطنين عزّلاً من السلاح في الشوارع، ونحن ربّما ندير أكبر نظام سجون في العالم وأكبر آلة قتل حربية، ولكن كلّ هذه الحقائق تلقى تجاهلاً مطّرداً. ترمب يجسّد جوهر هذا العالم المتآكل، المفلس فكرياً وأخلاقياً. إنّه التعبير الطبيعي عنه. إنّه ملك الحمقى. ونحن ضحاياه".
بينما يؤكد كرِس هيجز، خطورة حكم الحمقى مشيراً إلى أنّه علامة من علامات الانحطاط أو "فساد الزمان"، فإنه يبرهن لنا على دور المثقّف في مقاومة المزيد من التداعي، وتحذير الأمّة من عواقبه.
قبل هذا المقال بشهرين (3 آذار (مارس) 2017) ألقى هيجز في مدينة فانكوفر بكندا خطاباً بعنوان: "الفاشية وصعود آلة حرب ترمب"
أوضح فيه خطورة هيمنة الحمقى على مقاليد الأمور: "عندما تمسك عصابة صغيرة بالسلطة...فإنّها تخلق اقتصاد مافيا ودولة مافيا". انتقد هيجز سعي إدارة ترمب إلى وضع قائمة بأسماء المنظمات والشخصيات الإسلامية في أميركا والتي يُشتبه بتوفيرها دعماً للإرهاب ضد الولايات المتحدة، مؤكداً أنّ هذه القائمة ستُستخدم لتجريم قادة المسلمين في البلاد وللمنظمات التي أسّسوها، ثمّ الانقضاض "بعد التعامل معهم" على الصحافة والقضاء والناشطين والمعارضين واتحادات العمّال واليسار. أميركا تنزلق إلى الفاشية، يحذّر هيجز، في ظل سيطرة اليمينيين المسيحيين والعنصريين البيض مشيراً إلى أنّ "ترمب ليس انحرافاً، بل هو الوجه البشع لديموقراطيتنا المنهارة". إنّه "وزمرته من أصحاب البلايين، الجنرالات، الأغبياء المسيحيون الفاشيون، المجرمون، العنصريون والمنحرفون، يلعبون دور قبيلة سنوبز في بعض روايات وليَم هنكر". ويمضي هيجز: "التاريخ قد لا يعيد نفسه، ولكنّ أصداءه تتردّد. الذين صاغوا الدستور...حاولوا من خلال وضع نظام الضوابط والموازنات أن يمنعوا سقوط الجمهورية الأميركية كما انهارت نظيراتها القديمة من قبل في يد حكم القلّة والاستبداد...إذا نحن درسنا انهيار اليونان وروما القديمتين، جمهرية فايمر، وحتى يوغوسلافيا السابقة، فسنكون أكثر وعياً بمسيرتنا الراهنة نحو الطغيان...إنّ الذين يكرهوننا حقاً بسبب حريّاتنا ليسوا هذا الصف من الأعداء المنزوعة إنسانيّتهم والذين طبختهم آلة الحرب: الفيتناميين، الكمبوديين، الأفغان، العراقيين، الإيرانيين، أو حتى طالبان، القاعدة، أو داعش. إنهم المموِّلون، المصرفيون، السياسيون، المفكرون ذائعو الصيت، الخبراء، المحامون، الصحافيون، وأصحاب الأعمال، كثير منهم تربّوا في جامعات نخبوية وكليات أعمال، عملوا، كما يقول مات تاييبي (صحافي أميركي)، بصفتهم حرّاس مُسلَّمة الليبرالية الجديدة والإمبراطورية".

بينما يؤكد كرِس هيجز ، الأكاديمي والصحافي الحاصل على جائزة بولتزر للصحافة، خطورة حكم الحمقى مشيراً إلى أنّه علامة من علامات الانحطاط أو "فساد الزمان"، فإنه يبرهن لنا على دور المثقّف في مقاومة المزيد من التداعي، وتحذير الأمّة من عواقبه. لكنّها مَهّمَّة صعبة وشاقّة كما أخبرنا الشاعر العربي: "إلا الحماقة أعيتْ من يداويها".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق