دعوة إلى الفرح (2)
د. عادل بن أحمد باناعمة
11 نوفمبر,2011
لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ
ثمتَ مشكلةٌ أكبرُ من مجردِ الحزنِ والدعوةِ إليهِ ، وهي أن يتصوّر المرءُ أن مقتضى إسلامِهِ ودينِهِ ، ومقتضى أخوته للمؤمنين ، أن يؤجّل أفراحَهُ ومباهجَهُ ومسارَّهُ إلى أن يتحقق (النصر العظيمُ) ، وعلى هذا فيلزمنا أن نُلبس كل عيدٍ حلةً من حزنٍ وبكاءٍ حتّى يكونَ النصرُ الذي لا ندري متى يجيء؟ ولا كيف يجيء؟ وإنْ كنّا واثقين من مجيئِهِ.
وأخطرُ من هذا الذي وصفتُ أن يتصوّر متصوّر أن الدين بطبيعتِهِ هو دين (حزنٍ) و (بكاءٍ) إن لم يكن لأجلِ (جراح المسلمين) فلأجلِ حال الإنسانِ وتقصيرِهِ في جنبِ الله، وعلى هذا فيلزمُ أن نُلبس كل عيد بل كل يومٍ كساءً من كمدٍ ودموعٍ حتّى يتحقق للإنسانِ أن الله قد غفر له وتقبل منه فيضحكُ حينئذِ ويفرحُ .. ولن يكون ذلك إلا بعد الموتِ !!!
النبيّ صلى الله عليه وسلم يتعوّذُ من الهمّ والغمّ والحزَن
لا أيّها الأحبةُ ..
لا أيها السادةُ ..
يجبُ أن نعرفَ أن ديننا دين (فرحٍ) لا دين (حزنٍ).. وقد أحسن الأستـاذ محمّد الغزاليُّ بقولِهِ: "على أنَّ من أهل الدين مَنْ ظلم حقيقة الإيمان بالله واليوم الآخر، فظن أن هذا الإيمان يعترض الحياة الصحيحة كما يعترضُ ظلُّ الأرضِ ضوء القمرِ ليلة الخسوف".
إنَّ وظيفةَ الإيمانِ لديهم أن يجئ إلى الحياة البهيجة فيرميَ جوانبها بالقتام والوحشة، فما تصفو الدنيا لمؤمن، أوبتعبير أدقّ: إنّ مقتضى الإيمان اجتذابُ البأساء والضرّاء والكبد والنكد إلى حياة الأفراد والجماعات، وهذا خطأ كبير وظلم للدين جسيم فإن نبي الإسلام– وهو أزكى مَنْ عَبَدَ اللهَ - لم يفهم الحياة هذا الفهم ولم يحمّل الإسلام هذا العبء، كيف وهو القائل: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلحْ لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياةَ زيادةً لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شرّ) [مسلم 2720].
ولماذا يحسبُ الألمُ والهوانُ والقلقُ من لوازمِ اليقينِ، أو تُحسبُ وسائلَ لمرضاةِ الله، مع أنّ رسول الإسلام كان يكرهها كلها، ويستجير بالله منها؟ فعن أبي هريرة رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعـداء [البخاريّ 6347]"اهـ.
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضَلَعِ الدَّيْنِ وغَلَبةِ الرجال) [البخاري 6363].
وعند الإمامِ أحمدَ في مسندِهِ عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من ثمان: الهمّ والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن وغلبة الدين وغلبة العدو. [الفتح الرباني 19/297].
بل إنّ الإمام ابن حبّان رحمه الله قد عقد في صحيحه[3/253 ] باباً عنوانُهُ (ذكر الأمر لمن أصابه حزن أن يسأل الله ذهابه عنه وإبداله إياه فرحاً)، وأوردَ فيه الحديثَ المشهورَ عن ابن مسعود رضي الله عنه الذي فيه قولُهُ صلى الله عليه وسلم: (ما قال عبد قطُّ إذا أصابه همٌّ أو حَزَنٌ: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أَمَتِك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عَدْلٌ فيّ قضاؤك، أسألك بكلِّ اسمٍ هو لك سمّيتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علَّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أنْ تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب همّي، إلا أذهب الله همَّهُ، وأبدله مكان حزنه فرحاً). قالوا: يا رسول الله، ينبغي لنا أن نتعلّم هذه الكلمات ؟ قال: (أجل ينبغي لمن سمعهنَّ أن يتعلمهنَّ).
وقد روى الطبرانيُّ في الأوسط [3178] بسندِهِ عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى وفرغ من صلاته مسح بيمينه على رأسه، وقال: (بسم الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ، اللهم أذْهِبْ عني الهمَّ والحزن).
وقد جاءَ في القرآن الكريمِ النّهيُ عن الحزنِ في غير ما موطنٍ. ومن ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، وقوله: {إِِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِـهِ لاَ تَحْزَنْ} [التوبة:40]. وأخبرَ سبحانَهُ أن الحزنَ هو من كيدِ الشيطانِ وإيذائِهِ للمؤمنين {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة:10]. وأنَّ ذهابَ الحَزَنِ في المقابل هو من نعمةِ الله وإفضالِهِ {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}[ فاطر:34].
فحاصلُ هذهِ النصوصِ أنَّ المذهبَ الراشدَ هو الفرارُ من الحزنِ، والتعوّذُ من الهمِّ والغمِّ، فكيف يزعمُ زاعمٌ أنَّ الإسلامَ يريدُ منّا أن نحزنَ ونغتمَّ؟ ومتى؟ في يومِ السرورِ الأكبرِ ، يومِ العيد؟!!
النبيُّ البسّامُ صلى الله عليه وسلم
وحتّى أكونَ أكثر تأصيلاً وإقناعاً فهلمّوا معي لنبحث عن الفرح في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
ألم يكن صلى الله عليه وسلمَ أكمل الناس وأكثرهم إيماناً وتقوى؟
ألم يعش عليه الصلاة والسلام ظروفاً عصيبةً شديدةً؟
ألم تعان الأمة في زمانِهِ النكباتِ والأزمات؟
فهل أدى هذا إلى إطفاء (الفرح) في حياتِهِ صلى الله عليه وسلم؟
وهل اختفت المداعبات والضحكاتُ والممازحاتُ من حياتِهِ صلى الله عليه وسلّم؟
لندعِ النصوصَ هي التي تجيبُ على تساؤلاتنا هذه..
عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وأنا جاريةٌ لم أحمل اللحم، ولم أبدَنْ ، فقال للنّاس: (تقدَّموا)، فتقدَّموا، ثم قال لي: (تعالي حتى أسابقك)، فسابقتُهُ فسبقتُهُ، فسكت عنى حتى إذا حملْتُ اللحم وبَدِنتُ ونسيتُ خرجتُ معه في بعض أسفاره، فقال للنّاس: (تقدموا)، فتقدَّمُوا ثمّ قال: (تعالي حتى أسابقك)، فسابقته فسبقني، فجعل يضحك وهو يقول: (هذه بتلك) [هذا اللفظ في مسند أحمد 26320].
وقد جاء في معتصر المختصرِ أنّ مثل هذه المسابقة جرت في غزوة بدرٍ الآخرةِ، وهي الغزوة التي خرج فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم يتحدّى أبا سفيان. فانظر كيف هو الضحكُ والفرحُ في موقفٍ كهذا.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليَّ مسروراً تبرُقُ أساريرُ وجهه، فقال: (ألم تري أن مُجَزِّزاً نظر آنفاً إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض) [البخاري 6770].
فانظرْ سرورَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بانتفاءِ تهمةِ قريشٍ عن زيدٍ، وذلك " أنهم كانوا في الجاهلية يقدحونَ في نسب أسامة؛ لأنه كان أسودَ شديد السوادِ، وكان أبوه زيدٌ أبيضَ من القطنِ، فلما قال القائفُ ما قـال مع اختلافِ اللونِ سُرَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لكونـه كافّاً عن الطعنِ فيـه".
وعن هشام بن عروة عن أبيه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صافَّ المشركين يوم الخندق، قال: وكان يوماً شديداً لم يلقَ المسلمون مثله قطّ، قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، وأبو بكر معه جالس، وذلك زمانَ طَلْعِ النخل، قال: وكانوا يفرحون به إذا رأوه فرحاً شديداً؛ لأنّ عيشهم فيه، قال فرفع أبو بكر رأسه فبصُرَ بطَلْعَةٍ وكانت أول طَلْعة رُئِيت، فقال هكذا بيده: طلعةٌ يا رسول الله من الفرح، قال: فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبسم وقال: (اللهم لا تنزع منا صالح ما أعطيتنا) أو (صالحاً أعطيتنا). [مصنف ابن أبي شيبة 36808].
فهذا فرحٌ نبويٌّ برزق الله .. يفرحُ النبيّ صلى الله عليه وسلم بظهور طلعةِ نخلٍ، ويتبسّم بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ويقرُّ أبا بكر على فرحتِهِ، مع أنّ الأحزاب يحيطون بالمدينة.. لم يقل عليه الصلاة والسلام: مه يا أبا بكر كيف تفرحُ بنخلةٍ والإسلامُ محاصرٌ، وجيوشُ الكفر على الأبواب!!
_ وإليك أعجبَ من هذا.. ضحكُ النبي صلى الله عليه وسلم بسبب رؤيا قصّها عليه بعضُ أصحابِهِ. عن جابر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله رأيت في المنام كأن رأسي قُطع، قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إذا لعب الشيطان بأحدكم في منامه فلا يحدث به النّاس) [مسلم 268 ].
_ بل انظر إليه صلى الله عليه وسلم يفرحُ لأدنى سببٍ، ويظهرُ الفرحُ في وجهِهِ.
عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان لا يتطيّر من شيء، وكان إذا بعث عاملاً سأل عن اسمه فإذا أعجبه اسمُهُ فَرِحَ به، ورُئِيَ بِشْرُ ذلك في وجهه، وإن كره اسمه رُئِيَ كراهية ذلك في وجهه. وإذا دخل قرية سأل عن اسمها فإن أعجبه اسمها فرح بها ورُئِيَ بِشْرُ ذلك في وجهه، وإن كره اسمها رُئِيَ كراهية ذلك في وجهه. [أبو داود 3920].
أفرأيت كيف يفرح صلى الله عليه وسلم حتى بالاسم الحسنِ؟
وقد جاء عند البخاريِّ [3556] قولُ كعبٍ رضي الله عنه: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا سُرَّ استنار وجهُهُ كأنّه قطعةُ قمرٍ.
وتقول عائشة رضي الله عنها: زارتنا سودة يوماً فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبينها، إحدى رجليه في حجري والأخرى في حجرها، فعملتُ لها حَرِيرةً أو قال خَزِيرة، فقلت: كلي، فأبت، فقلت: لتأكُلِنَّ أو لألطخنّ وجهك، فأبت، فأخذْتُ من القصعة شيئاً فلطختُ به وجهها، فرفع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رجله من حجرها تستقيد مني، فأخَذَتْ من القصعة شيئاً فلطختْ به وجهي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، فإذا عمر يقول: يا عبد الله بن عمر، يا عبد الله بن عمر، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قوما فاغسلا وجوهكما فلا أحسب عمر إلا داخلاً) [السنن الكبرى للنسائي8917].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُحدِّث – وعنده رجل من أهل البادية – فقال صلى الله عليه وسلم: (إنّ رجلاً من أهل الجنة استأذن ربه في الزّرع فقال له: ألستَ فيما شئتَ؟ قال: بلى، ولكن أحب أن أزرع، قال: فبذر، فبادر الطَّرْفَ نباتُهُ واستواؤه واستحصاده فكان أمثال الجبال! فيقول الله: دونك يا ابن آدم، فإنه لا يُشبعك شيء)، فقـال الأعرابي: والله لا تجده إلا قرشياً أو أنصارياً، فإنهم أصحاب زرع، وأما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم. [البخاري 2348].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجل فقال: هلكت. قال: (ولم)؟ قال: وقعت على أهلي في رمضان. قال: (فأعتقْ رقبة). قال: ليس عندي. قال:(فصم شهرين متتابعين). قال: لا أستطيع. قال: (فأطعمْ ستين مسكيناً). قال: لا أجد، فأُتِي النبي صلى الله عليه وسلم بعِرْق فيه تمر، فقال: (أين السائل)؟ قال: ها أنا ذا. قال: (تصـدَّقْ بهذا). قال: على أحوج منا يا رسول الله؟ فوالذي بعثك بالحق ما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، قال:(فأنتم إذاً). [البخاري 6087].
وعن صهيبٍ رضي الله عنه قال: قدِمْتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء، ومعه أبو بكر وعمر وبين أيديهم رطبٌ، وقد رَمِدْتُ في الطريق، وأصابتني مجاعة شديدةٌ، فوقعتُ في الطريق في الرطب فقال عمر: يا رسول الله، ألا ترى صهيباً يأكل الرطبَ وهو أرمد؟ قال صهيب: يا رسول الله إنما آكلُ بشقِّ عيني هذه الصحيحةَ، فضحكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم [ تاريخ دمشق24/231 ،232 ].
كل هذه مواقفُ (فرِحَ) فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وضحكَ، وتبسَّمَ ولم يمنعه حالُ الأمّة، ولا الشدائد التي تحيط بِهِ، من أن يضحكَ ويتبسّم ويفرحَ صلى الله عليه وسلم.
بل لقد دلّت النصوصُ على أنّ تبسُّمَه وفرحه وضحكَهُ كان كثيراً في حيـاتِهِ صلى الله عليه وسلم.
قال جرير بن عبد الله: ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمتُ، ولا رآني إلا ضحكَ [البخاري 3035].
وقال عبد الله بن الحارث بن جَزْءٍ رضي الله عنه: ما رأيت أحداً أكثر تبسُّماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم [أحمد،الفتح الرباني 22/14].
وقال أبو الدرداءِ رضي الله عنه: ما رأيتُ أو سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدّث حديثاً إلا تبسّم [أحمد، الفتح الرباني 22/14 ].
وفي الطبقات الكبرى لابن سعدٍ [ 1/365] عن عمرة قالت: سألت عائشة قلت: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا؟ قالت: كان ألين الناس، وأكرم الناس، وكان رجلاً من رجالكم إلا أنه كان ضحّاكاً بسّاماً.
وقال الخطابي: سئل بعض السلف عن مرح الرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كانت له مهابة فكان يبسط الناس بالدعابة.
وأعجبُ من هذا أنّه صلى الله عليه وسلم كان يرسم البسمةَ في شفاه الآخرين، ويُضحكُهُم ويداعبُهُم ويسرّهم بلطيف مزاحِهِ صلى الله عليه وسلم.
وقد روى الترمذيُّ [1990] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله، إنّك تداعبُنا، قال: (إني لا أقول إلا حقّاً). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
وعقَدَ البخاريُّ في صحيحه باباً عنوانُهُ (الانبساط إلى النّاسِ)، وأورد فيه [6129] قول أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه: إنْ كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليُخالطُنا حتّى يقولَ لأخٍ لي صغيرٍ: (يا أبا عُمير، ما فعل النُّغَير).
وانظر إلى هذا المزاح اللطيف، والفرحِ الصادق، من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن صاحبِهِ زاهر رضي الله عنه.. عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهراً، وكان يُهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هديةً من البادية، فيجهزه النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن زاهراً باديتنا ونحن حاضِرُوه)، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّهُ، وكان رجلاً دميماً، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وهو يبيع متاعهُ واحتضنه من خلفه وهو لا يبصره، فقال: مَن هذا؟ أرسِلني، فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: (مَن يشتري العبد؟). فقال : يا رسول الله إذنْ والله تجدني كاسداً. قال صلى الله عليه وسلم: (لكنّك عند الله لستَ بكاسدٍ)، أو قال: (أنت عند الله غالٍ). [ الشمائل المحمدية:196].
فأين الذين يرونَ في التبسّم والضّحكِ والمزاحِ عورةً لا تليقُ بجادّ مهمومٍ بقضايا أمتِهِ؟ أين هم من هذه الفرحةِ النبويّة الصادقةِ؟ وهذا المزاحِ اللطيفِ؟
وعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه أنَّ رجلاً استحملَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إنّي حاملك على ولدِ النّاقةِ)، فقال: يارسولَ الله ما أصنعُ بولدِ النّاقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وهل تلدُ الإبلَ إلا النوقُ) [الشمائل المحمدية:196].
وعن الحسن قال: أتت عجوزٌ فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال: (يا أمّ فلان إنَّ الجنة لا يدخلها عجوز)، فولت تبكي، قال: (أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إنّ الله يقول: {إنّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكاراً}). [الشمائل المحمدية:199].
أفرأيتَ كيفَ هو مزاحُهُ صلى الله عليه وسلم، وفرحُهُ، وتبسّمُهُ وانبساطهُ؟
"وإنما كان يمزحُ؛ لأنَّ الناسَ مأمورون بالتأسّي به، والاقتداء بهديه، فلو ترك اللطافةَ والبشاشةَ ولَزِمَ العبوسَ والقطوبَ لأخذ الناسُ من أنفسهم بذلك على ما في مخالفة الغريزة من الشفقة والعناء، فَمَزَح ليَمْزَحوا، ولا يناقض ذلك خبرَ ((ما أنا من دَدٍ ولا الدَّدُ منّي))، فإنَّ الدَّدَ اللهوُ والباطلُ، وهو كان إذا مزح لا يقولُ إلا حقّاً، فمن زعم تناقض الحديثين من الفرق الزائغة فقد افترى".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق