نظرات وعبرات من السلام المستحيل إلى السلام المُحرّم
محمود عبد الهادي
اتفاق تطبيع العلاقات بين دولة الإمارات العربية المتحدة ودولة الكيان الصهيوني يوم الخميس الماضي 13 آب/أغسطس، والاتفاقات التي ستتوالى بعده؛ ينبغي أن تستفز كافة القوى الفلسطينية للتوقف الجاد، وترك الصراخ والعويل وكيل التنديدات الباهتة الجوفاء، والنظر بعمق في السياق الإقليمي والدولي الراهن المتحكم في مسار القضية الفلسطينية، بحثا عن حلول جديدة تدفع القضية إلى الأمام خارج طريق السلام (المستحيل) الذي تسير فيه منذ أكثر من ٨٠ عاما، والرامي إلى حل القضية على أساس الدولتين، والتوجه من جديد للسير في طريق السلام (المحرّم) القائم على أساس الدولة الواحدة للشعبين الفلسطيني واليهودي.
تردي الواقع العربي
اتفاق تطبيع العلاقات الإماراتية-الصهيونية لم يكن الاتفاق الأول -ولن يكون الأخير- فقد سبقه قائمة طويلة من الدول العربية التي أقامت علاقات مع دولة الكيان الصهيوني، وهناك قائمة أخرى في الانتظار. هذا الاتفاق وأمثاله نتيجة طبيعية جدا لتردي السياق العربي والإقليمي الراهن، الذي لم يعد يسمح للفلسطينيين والقضية الفلسطينية بالاعتماد عليه مطلقا، بعد أن اتسع ليشمل كل شيء، وعلى رأس ذلك:
اتفاق تطبيع العلاقات الإماراتية-الصهيونية لم يكن الاتفاق الأول -ولن يكون الأخير- فقد سبقه قائمة طويلة من الدول العربية التي أقامت علاقات مع دولة الكيان الصهيوني، وهناك قائمة أخرى في الانتظار، وما هو إلا نتيجة طبيعية جدا لحالة التردي العربي والإقليمي الراهنة.
1. تعطل المؤسسات الإقليمية العربية:
وأولها جامعة الدول العربية التي تضم 22 دولة، على مساحة تبلغ حوالي 14 مليون كم مربع، يسكنها أكثر من 400 مليون نسمة، ويبلغ ناتجها المحلي أكثر من 2,5 ترليون دولار، ورغم الشلل الذي أصاب الجامعة منذ وقت مبكر بسبب تضارب مصالح الدول الأعضاء أحيانا، أو بسبب سياسات الهيمنة التي تقوم بها بعض الدول في أحيان أخرى أو بسبب تدخلات الدول الكبرى، إلا أنها كانت توفر الحد الأدنى من التنسيق والتفاهم حول القضايا الكلية التي تواجهها المنطقة العربية مجتمعة، أضف إلى ذلك تعطل اتحاد المغرب العربي ومجلس التعاون الخليجي وما خلفه من نتائج وآثار.
2. فشل المؤسسات الإقليمية الإسلامية:
وعلى رأسها منظمة التعاون الإسلامي التي تضم 57 دولة، تحتل أكثر من 30 مليون كم مربع، منها ما يمثل خمس الأراضي الزراعية في العالم، ويبلغ مجموع ناتجها المحلي حوالي 7 ترليون دولار، وحتى الآن فشلت المنظمة فشلا ذريعا في أن تكون كتلة مؤثرة على مستوى الدول الأعضاء وعلى المستوى الدولي، أو أن تساهم في تحقيق التنسيق والتكامل وحل المشكلات وتجسيد شعارها (الصوت الجامع للعالم الإسلامي).
3. هيمنة المصالح القطرية:
النتيجة الطبيعية لفشل المنظمات العربية والإقليمية في تحقيق التنسيق والتعاون والتكامل بين الدول الأعضاء، أن تنكفئ هذه الدول على نفسها، وتشرع في إقامة العلاقات الإقليمية والدولية التي تناسبها، وتقيم لها من الاتفاقيات والتفاهمات ما يحقق مصالحها، سواء على الصعيد السياسي أو العسكري أو الاقتصادي أو الأمني أو غير ذلك من المجالات.
4. الصراعات الداخلية المسلحة:
في سوريا واليمن وليبيا والعراق، والتي اشتعلت في أعقاب ما عُرف بالربيع العربي، وتحولت فيه هذه الدول إلى ساحات حرب مفتوحة تتصارع فيها محاور إقليمية ذات أجندات خارجية مشتركة، لتسحب المنطقة العربية بعيدا جدا عن القضية الفلسطينية والصراع العربي-الإسرائيلي.
5. الاختراق الصهيوني لدول المنطقة:
هذا الواقع سمح للكيان الصهيوني بالدخول المكشوف والنشط إلى عمق مكونات بنية النظام العربي، وكانت المصالح الذاتية الفردية للدول العربية أو الشروط المفروضة عليها؛ هي الدافع الأساسي وراء التعجيل في إقامة علاقات مع دولة الكيان الصهيوني، بعد تونس والمغرب ومصر، وخاصة بعد أن فاجأت القيادة الفلسطينية العالم العربي عام 1993 بإبرام اتفاق أوسلو مع الكيان الصهيوني، بصورة منفردة بعيدة عن القرار العربي، لتفتح الباب واسعا أمام الدول العربية في إبرام اتفاقيات مع الكيان الصهيوني، فتبعتها الأردن وعُمان وموريتانيا وقطر.
ومن المتوقع أن تشهد الشهور القادمة عملية إبرام اتفاقيات إضافية بين الكيان الصهيوني وقائمة جديدة من الدول العربية، كاستحقاق سياسي يمكنها من ترتيب أوضاعها الداخلية ومعالجة أزماتها السياسية والاقتصادية، ويأتي في مقدمتها: السعودية والسودان، وبالتالي فإن الاتفاق الإماراتي-الصهيوني اتفاق ذاتي، ينطلق من مصالح دولة الإمارات، ولا علاقة له بالمصالح الفلسطينية على الإطلاق، ولن يكون تأثيره على مسار القضية الفلسطينية كتأثير أوسلو أو كامب ديفيد.
الخيارات الفلسطينية الصعبة
هل من حق القيادة الفلسطينية الاعتراض على الاتفاق الإماراتي-الصهيوني، أو على غيره من الاتفاقيات العربية-الصهيونية القادمة، بعد أن أسست القيادة الفلسطينية لهذا النهج الانفرادي الذاتي؟ لقد دخلت القيادة الفلسطينية في مفاوضات سرية مع دولة الكيان الصهيوني أواخر الثمانينيات برعاية النرويج، انطلاقا من مصالح ذاتية ارتأتها القيادة الفلسطينية آنذاك، وقد أسفرت هذه المفاوضات عن اتفاق أوسلو، الذي دافعت القيادة الفلسطينية عنه حينها دفاعا مستميتا، رغم الكوارث التي جرها على القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، مسدلة الستار على ما كان يعرف حينها بـ (جبهة الصمود والتصدي) التي تشكلت رد على اتفاقية كامب ديفيد بين مصر والكيان الصهيوني.
أمام هذا الواقع السياسي القادم، وما سيترتب عليه من نتائج وآثار سياسية وأمنية واقتصادية ستزيد التردي الحالي سوءا؛ فإن القيادة الفلسطينية تجد نفسها أمام 4 خيارات رئيسة صعبة:
الخيار الأول: الانتظار العاجز
الاستمرار في النهج نفسه الذي تسير عليه حاليا، متحملة نفاق المجتمع الدولي وصلف الإدارة الأميركية وانحيازها المطلق للكيان الصهيوني، وخاضعة لليد العليا الحديدية للكيان الصهيوني وسياساته العدوانية المراوغة، ومواصلة التجوال على المحافل الإقليمية والدولية لرفع الصراخ والعويل والشكوى ضد ما يقوم به الكيان الصهيوني من انتهاكات لا يتجاوب ضدها أحد، والمراهنة على ما قد يطرأ من تحولات إقليمية ودولية مستقبلية تعيد رسم خارطة القوى والتوازنات بشكل يجبر الكيان الصهيوني على تنفيذ الاتفاقيات والقرارات الدولية.
وهذا الخيار هو الخيار الأكثر سلبية، فقد مضى على اتفاقية أوسلو 26 عاما، والقيادة الفلسطينية تنتقل من فشل إلى فشل على كافة المستويات، وهي تشاهد بنود الاتفاقية تتبخر أمام عينيها دون أن تملك حولا ولا قوة لتحفاظ عليها، والاستمرار في هذا الخيار سينتهي بالقيادة الفلسطينية معزولة على قطعة أرض خارج فلسطين.
حل الدولة الواحدة سيضع القيادة الصهيونية العنصرية على المحك أمام شعوب العالم، وسيلفت نظر العالم من جديد إلى عبثية حل الدولتين، وإلى واقعية حل الدولة الواحدة، أسوة بما حدث في دولة جنوب أفريقيا.
الخيار الثاني: الإذعان
الدخول في شراكة مع الكيان الصهيوني، تقوم على الإذعان لشروطه والقبول بما يقدمه لها من تصورات سياسية للحل الدائم، بما يضع حدا لحالة الاستنزاف الذي تمر به القضية، والتآكل للحقوق والأرض، وخذلان المحيط العربي والمجتمع الدولي، وعجزهم عن إجبار الكيان الصهيوني على الخضوع لقرارات الشرعية الدولية.
وهذا الخيار قد تضطر القيادة الفلسطينية إلى الدخول فيه؛ لكنه لن يكون الخيار الذي سيحقق لها ما عجزت عن تحقيقه حتى الآن، فضلا عن أنها لن تتمكن من إقناع الشعب الفلسطيني بالدخول فيه.
الخيار الثالث: المقاومة الشاملة
العودة إلى خيار المقاومة الشاملة والانخراط الكامل في انتفاضة ثالثة، تهدف إلى تعطيل المخطط الصهيوني الرامي إلى ضم الضفة الغربية، وإلغاء قرار ضم القدس، وإفساد المخططات الصهيونية الإقليمية الاقتصادية والأمنية، واستعادة زخم القضية الفلسطينية من جديد بعد أن توارت تحت دخان الصراعات العربية-العربية، في سوريا واليمن وليبيا والعراق.
وقد جربت القيادة الفلسطينية هذا الخيار من قبل في الانتفاضة الأولى والثانية، وتعرفت على إيجابياته وسلبياته، وهو خيار ناجح جدا على مستوى إزعاج الكيان الصهيوني إعلاميا، وتأخير مخططاته الإقليمية، وعلى مستوى استعادة زخم القضية الفلسطينية؛ لكنه لن يحقق أي مكاسب جديدة على صعيد تطبيق قرارات الشرعية الدولية، كما أن الثمن الذي ستقدمه مؤسسات السلطة الفلسطينية وفصائل المقاومة والشعب الفلسطيني، سيكون ثمنا كبيرا أكثر مما كان عليه في المرات السابقة.
الخيار الرابع: قلب الطاولة
قلب الطاولة على رأس واضعيها، بالخروج من مسار السلام (المستحيل)، الذي تدرك جميع الأطراف أنه لن يتحقق، وأنه يحمل في طياته بذور فنائه، وهو مسار الحل القائم على أساس دولتين للشعبين الفلسطيني واليهودي، والعودة إلى تبني مسار السلام (المُحرّم) القائم على أساس دولة واحدة للشعبين، وهو الخيار الذي تبنته القيادة الفلسطينية في ستينيات القرن الماضي، ورفضته الولايات المتحدة وحذرت القيادة الفلسطينية من تبني هذا الطرح؛ لأنه ينطوي على إنهاء المشروع الصهيوني.
ويبدو أن هذا الخيار هو الخيار الذي سيقلب الطاولة على رأس الكيان الصهيوني، وسيثير حراكا سياسيا جديدا على امتداد الكرة الأرضية، وسيضع القيادة الصهيونية العنصرية على المحك أمام شعوب العالم، وسيلفت نظر العالم من جديد إلى عبثية حل الدولتين، وواقعية حل الدولة الواحدة أسوة بما حدث في دولة جنوب أفريقيا، ومع ذلك فإن التحديات التي تقف في وجه هذا الخيار، تحديات كبيرة جدا، ليس من السهل على القيادة الفلسطينية الحالية والقوى الفلسطينية تجاوزها. ويبقى هو الخيار الذي يفترض الخبراء السياسيون حتميته وارتفاع معدل نجاحه؛ لكنه لم يجرب بعد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق