"السيرة الذاتية" طفولة قلب
10- ليلة خليلية أخرى
الاحد 16 ذو القعدة 1426 الموافق 18 ديسمبر 2005
د. سلمان بن فهد العودة
هل الشعر ديوان العرب كما يقول ابن عباس ؟، أم هو ديوان الحياة
الإنسانية كلها؟
قد يكون العرب أكثر تذوقاً للشعر وبحوره، حتى لقد كان ابن أبي
دؤاد يقول: ما من عربي إلا وقال الشعر، قل أو كثر، حتى البيت أو
البيتين.
وصاحبنا عربي أحسَّ بالموهبة في داخله، وسمع عزيفَها يناجي روحه،
ووجد تفعيلاتها تتحرك بين شفتيه، بيد أنه غير راضٍ عن أدائه
الشعري.
فهو يراه حيناً نفثات عابرة لا تطول، وحيناً آخر تدويناً لأحداث
ومناسبات، ويجد في شعوره المكنون فوق ما يجد في بوحه.
وهو يقرأ القصيدة من عيون الشعر لبعض الفحول؛ فتنطبع في
ذاكرته، وسرعان ما تتمخض معاناته عن قصيدة تحاكيها في الوزن
والقافية، وإن اختلفت عنها في المضمون.
بدأ المحاولة بمعابثات طفولية، وأهازيج شعبية، فمرة حين سافر والده
للحج وجد نفسه مرؤوساً لإخوانه في المنزل والدّكان، ومحتاجاً لأبي
الجيران ... وأخرى حين همّ بالدراسة في المدارس العامة المتوسطة إلى
جانب المعهد العلمي ... وأغراض من هذا الباب.
وأول ما يحفظه مما كتب مقطوعة ذات إطار عاطفي متصل بهموم
أمته، وذات لغة سهله:
أنترك أرضاً بالتدين خصبة....إلى موطن فيه الفضيلة تُنتحر
وأصواتنا تترى تهدد خصمنا....كرعد يخيف القلب لكن بلا مطر
ونزعم أنا نبتغي الحق دائما....ونمشي وراء الحق لا نرهب الخطر
ولو أبصرت أبصارنا كل ظلمة....لشعت بنور الحق للحق تنتصر
ولكن أليس الواقع المر شاهداً....على أننا كالبهم ترعى بلا حذر
وإنا لقوم عزنا ورشادنا....بطـاعتـنا لله نـقتـدم البـشر
ونمشي أمام الخلق كلهم كما....مشت قبلنا الأجداد في زمن غبر
فلم يملكوا الصاروخ أو مدفعية....تمزق ما تأتي عليه ولا تذر
ولكنهم حازوا العقيدة وحدها....بها مزقوا من ناوأ الدين أو كفر
وهو إذ يقرؤها بعدُ يدرك الإشكال في (تُنتحر) بضم التاء أو فتحها..
أو في تكرار كلمة (الحق)، أو في انتقال الأبيات من غرض إلى آخر،
بيد أنه يقرؤها ضمن إطارها الزمني لطفل في الثالثة عشرة من عمره.
قد تكون هذه المحاولات هي الخطوة الأولى لرحلة الألف ميل، التي
بدأها ولم يكملها!
وليس ينسى أن أعظم حافزٍ له أن يستمع إليه المتذوقون للشعر من
الطلاب الذين سبقوه إلى (الكلية) في الرياض، وهو يراهم في عداد
أشياخه وينتمي إليهم ويعتزّ بهم، ولطالما هزّه الحبور وهو يستخرج من
جيبه تلك القصيدة التي كررها حتى حفظها من الأديب الأستاذ محمد
الشيبان..
يا بلبل الروض غرد في مرابعنا....وهات من لحنك الصافي نردده
على مسامع دنيانا فنعلمها....بأن للحق أبطالاً تؤيده
نشدو مع الطير في شوق وفي أمل....وننشد الفجر عبر الأفق موعده
فالليل مهما علت في الأرض رايته....النور من بعده يأتي فيطرده
والغيّ مهما عثا في ربعنا زمناً....فالحق يكسر طغواه ويخمده
هذي المشاعر أحكيها بلا وجلٍ....وكيف يخشى الورى من ربِّ يسنده
فغنّ للجيل .. واهتف في مسامعهم....وأودع الشعر للأيام تنشده
لطالما هز منك الشعر أفئدةً....منا فزدنا قصيداً منك مورده
لقد انتفض وهو يتوهم نفسه بطلاً .. وظن الأمر جداً لا هزل فيه،
وطرب للأبيات، وشعر معها أن الشعر رسالة، وتوقف عند كلمة
(طغواه) النادرة الاستعمال، ولكنها لفظ قرآني واسع الدلالة عميقها،
كما تشبّع بالمعنى الذي حمّله مهمة عسيرة، واستفزّ طموحه لقفزة،
سرعان ما أدرك أن موهبته تقصر دونها، فكان رجع الصدى لديه أن
يبعث لصاحبه بهذه المعارضة:
البلبل النكد قد أوهته ما اجترحت....يد الزمان فلا الأعداء تحسده
فانهدّ مما يمضّ القلب من كمد....يشي به الجسم، والوصال تشهده
ولم يعد يعشق التغريد من كمد....كفاه هم الحنايا إذ يكابده
...........................من عمره فهو مضنى القلب مجهده
وكيف يعزف لحن الجيل مبتكرا....معذب .. ذاك محض الوهم مورده
يا صاح أبكيت قلبي فاعتراه أسى....لكن لحنك قد أضحى يهدهده
رددت لحنك صباً مدنفاً كلفاً....لكن لحني نشاز من يردده
ولعل هذا التراسل صادف حالة عاطفية خاصة غير مقروءة في
الكلمات، لكنها مستبطنة في الوجدان!
هذه كانت حلقة في معارضات أكسبته جرأة وثقة ومحاولةً للوصول لما
هو أفضل، مع الإيمان بأن من يريد الأفضل فلا بد أن يمنحه الوقت
الكافي، والهدوء المصاحب، والانفعال المناسب.
حينما سئل أحد الشيوخ الأفارقة عن تربية الرجل الصالح.
قال: إنه الإنسان الذي يضحك ويبكي عندما يشعر أنه بحاجة لذلك!
حينما تحرك قلبه بارتباط عاطفي مع أحد زملائه الذين صادفهم في طريقه، وأحبه أشد ما يكون الحب، وأثّر ذلك على الشاب تأثيراً سلوكياً ايجابياً، حيث نقله من تيهٍ وضياع إلى جو المعرفة والقراءة والجد والمشاركة، وصلاة الليل في رمضان، وكان الشعر أحياناً هو الرسول بينهما!
لقد جمع بعدُ العديدَ من المقطوعات الشعرية التي يصحّ أن يطلق عليها أنها ((من شدو الطفولة)) كما أحب إخوانه الإلكترونيون أن يسموها بعدُ!
يبدو أن من ضرورات التربية أن يحمل الفتى قدراً من الإحساس بالأهمية والبحث عن دور من داخل ذاته، وأن التوظيف الحسن لذلك هو أفضل حل لنزق المراهق، عوضاً عن الانفلات المتجرد من الضبط، أو التدثر بثوب أوسع بكثير من جسده الغضّ البضّ.
إن قتل الطموح الساذج عند الصغار هو تدمير لمستقبلهم، ولعلهم صغار قوم كبار آخرين.
والعامة يقولون: ((الصنعة عورة حتى تكتمل))، وهذا حق؛ فإن البدايات مشوبة بالنقص المخجل، وهو غالباً مدرج الفشل الذريع بالتحطيم والإحباط، ما لم يكن صاحبها صبوراً متجلداً مستحضراً للقول السائر:
من لم يكن له بداية محرقة، فليس له نهاية مشرقة!
ولعله من الصواب أن نقول:
بداية مضحكة خير من نهاية مهلكة!
ولا يزال لنا في ضيافة الخليل ثالثة، فحق الضيافة ثلاثة أيام!
هل الشعر ديوان العرب كما يقول ابن عباس ؟، أم هو ديوان الحياة
الإنسانية كلها؟
الإنسانية كلها؟
قد يكون العرب أكثر تذوقاً للشعر وبحوره، حتى لقد كان ابن أبي
دؤاد يقول: ما من عربي إلا وقال الشعر، قل أو كثر، حتى البيت أو
البيتين.
دؤاد يقول: ما من عربي إلا وقال الشعر، قل أو كثر، حتى البيت أو
البيتين.
وصاحبنا عربي أحسَّ بالموهبة في داخله، وسمع عزيفَها يناجي روحه،
ووجد تفعيلاتها تتحرك بين شفتيه، بيد أنه غير راضٍ عن أدائه
الشعري.
ووجد تفعيلاتها تتحرك بين شفتيه، بيد أنه غير راضٍ عن أدائه
الشعري.
فهو يراه حيناً نفثات عابرة لا تطول، وحيناً آخر تدويناً لأحداث
ومناسبات، ويجد في شعوره المكنون فوق ما يجد في بوحه.
ومناسبات، ويجد في شعوره المكنون فوق ما يجد في بوحه.
وهو يقرأ القصيدة من عيون الشعر لبعض الفحول؛ فتنطبع في
ذاكرته، وسرعان ما تتمخض معاناته عن قصيدة تحاكيها في الوزن
والقافية، وإن اختلفت عنها في المضمون.
بدأ المحاولة بمعابثات طفولية، وأهازيج شعبية، فمرة حين سافر والده
للحج وجد نفسه مرؤوساً لإخوانه في المنزل والدّكان، ومحتاجاً لأبي
الجيران ... وأخرى حين همّ بالدراسة في المدارس العامة المتوسطة إلى
جانب المعهد العلمي ... وأغراض من هذا الباب.
وأول ما يحفظه مما كتب مقطوعة ذات إطار عاطفي متصل بهموم
أمته، وذات لغة سهله:
أنترك أرضاً بالتدين خصبة....إلى موطن فيه الفضيلة تُنتحر
وأصواتنا تترى تهدد خصمنا....كرعد يخيف القلب لكن بلا مطر
ونزعم أنا نبتغي الحق دائما....ونمشي وراء الحق لا نرهب الخطر
ولو أبصرت أبصارنا كل ظلمة....لشعت بنور الحق للحق تنتصر
ولكن أليس الواقع المر شاهداً....على أننا كالبهم ترعى بلا حذر
وإنا لقوم عزنا ورشادنا....بطـاعتـنا لله نـقتـدم البـشر
ونمشي أمام الخلق كلهم كما....مشت قبلنا الأجداد في زمن غبر
فلم يملكوا الصاروخ أو مدفعية....تمزق ما تأتي عليه ولا تذر
ولكنهم حازوا العقيدة وحدها....بها مزقوا من ناوأ الدين أو كفر
وهو إذ يقرؤها بعدُ يدرك الإشكال في (تُنتحر) بضم التاء أو فتحها..
أو في تكرار كلمة (الحق)، أو في انتقال الأبيات من غرض إلى آخر،
بيد أنه يقرؤها ضمن إطارها الزمني لطفل في الثالثة عشرة من عمره.
قد تكون هذه المحاولات هي الخطوة الأولى لرحلة الألف ميل، التي
بدأها ولم يكملها!
وليس ينسى أن أعظم حافزٍ له أن يستمع إليه المتذوقون للشعر من
الطلاب الذين سبقوه إلى (الكلية) في الرياض، وهو يراهم في عداد
أشياخه وينتمي إليهم ويعتزّ بهم، ولطالما هزّه الحبور وهو يستخرج من
جيبه تلك القصيدة التي كررها حتى حفظها من الأديب الأستاذ محمد
الشيبان..
يا بلبل الروض غرد في مرابعنا....وهات من لحنك الصافي نردده
على مسامع دنيانا فنعلمها....بأن للحق أبطالاً تؤيده
نشدو مع الطير في شوق وفي أمل....وننشد الفجر عبر الأفق موعده
فالليل مهما علت في الأرض رايته....النور من بعده يأتي فيطرده
والغيّ مهما عثا في ربعنا زمناً....فالحق يكسر طغواه ويخمده
هذي المشاعر أحكيها بلا وجلٍ....وكيف يخشى الورى من ربِّ يسنده
فغنّ للجيل .. واهتف في مسامعهم....وأودع الشعر للأيام تنشده
لطالما هز منك الشعر أفئدةً....منا فزدنا قصيداً منك مورده
لقد انتفض وهو يتوهم نفسه بطلاً .. وظن الأمر جداً لا هزل فيه،
وطرب للأبيات، وشعر معها أن الشعر رسالة، وتوقف عند كلمة
(طغواه) النادرة الاستعمال، ولكنها لفظ قرآني واسع الدلالة عميقها،
كما تشبّع بالمعنى الذي حمّله مهمة عسيرة، واستفزّ طموحه لقفزة،
سرعان ما أدرك أن موهبته تقصر دونها، فكان رجع الصدى لديه أن
يبعث لصاحبه بهذه المعارضة:
البلبل النكد قد أوهته ما اجترحت....يد الزمان فلا الأعداء تحسده
فانهدّ مما يمضّ القلب من كمد....يشي به الجسم، والوصال تشهده
ولم يعد يعشق التغريد من كمد....كفاه هم الحنايا إذ يكابده
...........................من عمره فهو مضنى القلب مجهده
وكيف يعزف لحن الجيل مبتكرا....معذب .. ذاك محض الوهم مورده
يا صاح أبكيت قلبي فاعتراه أسى....لكن لحنك قد أضحى يهدهده
رددت لحنك صباً مدنفاً كلفاً....لكن لحني نشاز من يردده
ولعل هذا التراسل صادف حالة عاطفية خاصة غير مقروءة في
الكلمات، لكنها مستبطنة في الوجدان!
هذه كانت حلقة في معارضات أكسبته جرأة وثقة ومحاولةً للوصول لما
هو أفضل، مع الإيمان بأن من يريد الأفضل فلا بد أن يمنحه الوقت
الكافي، والهدوء المصاحب، والانفعال المناسب.
حينما سئل أحد الشيوخ الأفارقة عن تربية الرجل الصالح.
قال: إنه الإنسان الذي يضحك ويبكي عندما يشعر أنه بحاجة لذلك!
حينما تحرك قلبه بارتباط عاطفي مع أحد زملائه الذين صادفهم في طريقه، وأحبه أشد ما يكون الحب، وأثّر ذلك على الشاب تأثيراً سلوكياً ايجابياً، حيث نقله من تيهٍ وضياع إلى جو المعرفة والقراءة والجد والمشاركة، وصلاة الليل في رمضان، وكان الشعر أحياناً هو الرسول بينهما!
لقد جمع بعدُ العديدَ من المقطوعات الشعرية التي يصحّ أن يطلق عليها أنها ((من شدو الطفولة)) كما أحب إخوانه الإلكترونيون أن يسموها بعدُ!
يبدو أن من ضرورات التربية أن يحمل الفتى قدراً من الإحساس بالأهمية والبحث عن دور من داخل ذاته، وأن التوظيف الحسن لذلك هو أفضل حل لنزق المراهق، عوضاً عن الانفلات المتجرد من الضبط، أو التدثر بثوب أوسع بكثير من جسده الغضّ البضّ.
إن قتل الطموح الساذج عند الصغار هو تدمير لمستقبلهم، ولعلهم صغار قوم كبار آخرين.
والعامة يقولون: ((الصنعة عورة حتى تكتمل))، وهذا حق؛ فإن البدايات مشوبة بالنقص المخجل، وهو غالباً مدرج الفشل الذريع بالتحطيم والإحباط، ما لم يكن صاحبها صبوراً متجلداً مستحضراً للقول السائر:
من لم يكن له بداية محرقة، فليس له نهاية مشرقة!
ولعله من الصواب أن نقول:
بداية مضحكة خير من نهاية مهلكة!
ولا يزال لنا في ضيافة الخليل ثالثة، فحق الضيافة ثلاثة أيام!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق