فقه الأولويات.. أولويتك!
يشاهد الشباب المسلم مشهد الصراع تندفع رحاه في كل يوم، يبصر تلك المواجهة بين الإسلام والغرب، يستطيع أن يميّز الحق عن الباطل في كثير من الأحيان ويتألم للظلم والاستضعاف وأثقال الذلة والهوان التي أنهكت جسد أمته. هذه حال الكثير من شباب المسلمين اليوم.
فهو يحمل في قلبه حلمًا عظيمًا وأماني كثيرة، يود تحقيقها معتزًا بدينه شامخًا بإيمانه ولكنه لا يدري من أين يبدأ، فتاريخه مشغولٌ بالكسل والجهل وربما الظلم لنفسه وغيره، وحاضره مكبّلٌ بالعجز والتشاؤم وربما ضعف الهمة والسعي، ينظر للمستقبل بنظرة الكآبة ويستسلم لكل فكرة هدامة، مع أنه ابن أمةٍ دينها عظيمٌ ومنهج الحياة فيه يرتكز على نظم مستنيرة بنور الكتاب والسنة لا يسقط أبدًا من مضى متمسكًا به.
فمن أين نبدأ المسير، وجراحات المسلمين في كل زاوية من عالمنا الإسلامي تنزف؟ قد تناثرت مآسيهم مستضعفين، وتشتت قواهم على طول مساحة مجد تليد تحطم.
لهذا أصبح الإحساس بالمسؤولية وحمل همّ هذه الأمة أولوية قصوى كما هي الفطرة السليمة في كل أمة.
دعونا نسلط الضوء على المحطة الأولى التي على المسلم والمسلمة البدء بها لركوب قطار التغيير والارتقاء من مرحلة الضعف لمرحلة القوة، من مرحلة السكون لمرحلة الإنتاج، من مرحلة المشاهدة لمرحلة العمل، بدايةً على الشباب المسلم ضبط ميزان الأولويات وتسطير جدول يصنف الأهم فالأهم، ولتكن مرحلة الاستدراك السريع، حتى لا يسبقه قطار العاملين فيلحق بالركب أسرع ما يكون بأقل خسائر.
الأولوية الأولى: علاقة المرء بربه
إن أولى أولويات المسلم علاقته مع ربه ابتداءً، فقبل أن يفكر في إحداث تغييرٍ ملموسٍ ويتحول إلى شخص ناجح ومؤثر، عليه أن يدرك يقينًا أنه لن يُوفّق في عملٍ ولا في تحقيق غاية حتى يوفقه الله لها، وحتى يكسب معية خالقه ومعونته قبل أي معية أو معونة.
وبقدر متانة علاقتك بربك بقدر ما يمنّ عليك بتوفيقه وتأييده لك، وهنا تتجلى قاعدة (إياك نعبد وإياك نستعين)، فمن الناس من يجسد بشخصه مؤسسة أو جيشا ويكون فقدانه في الأمة ثُلمة لا تُسد، ومنهم من يؤتيه من واسع بركته وفضله فيترك الأثر في كل ميدان وساحة وكل أعماله صدقات جاريات. ومنهم من يقدم في الخفاء لا يشعر بعطائه أحد لكنه عند الله المعروف وأجره مضاعف محفوظ. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وعلاقة المرء مع ربه تبدأ بمعرفة عقيدته، بمعرفته أركان الإيمان والدين فيحفظها ويرسّخ معانيها، ويجتهد في ضبط فهمه للإسلام والإيمان والإحسان وفق الكتاب والسنة، يتعلم فروضه وكيفية أدائها، فيبدأ بالصلاة في وقتها وبحقوقها، ويجتنب المسارعة إلى أداء بعض النوافل والمستحبات حين يكون التفريط فتاكا في الفرائض والواجبات. عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته، قال: وكيف يسرق صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها، ولا سجودها”.
وغالبا ما يبدأ المرء متحمسا يريد تحقيق كل شيء وهو غير قادر على تحقيق أهم شيء.
فتحقيق تغيير في حياتك يأتي رويدًا رويدًا وكما قيل، قليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ منقطعٍ، ولعل أهم سبب لانتكاسة بعض الشباب في بلوغ أهدافهم هو الانطلاق المتحمس الذي يغفل فقه الأولويات ويركز على الفاضل ويترك المفضول، كمن يبني السقف قبل أن يبني الأساس.
ولابد أن يحرص المرء في نفس الوقت الذي يتعلم فيه دينه على التوقف عن المعاصي والانتهاء عنها، فلا يمكن لمقبل على رحلة العمر والارتقاء لمراتب السعداء أن يدخلها وهو مثقل الكاهل بالأوزار، وهذا يعني أن يطهر ماله من الربا كأولوية. فعن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشد من ستة وثلاثين زنية”.
ويعني أن ينتهي عن الكذب فيطهر لسانه وقلبه منه ويعود نفسه على تحري الصدق، ويعني أن يكفّ عن قطع رحمه فيصله مسارعًا يبتغي رضا ربه، وما كان من ظلم وهضم للحقوق فليُرجع لكل ذي حقه حقه وليبرأ ذمته حتى لا تكون حائلًا بينه وبين ما يرمو إليه من خير، ذلك أن الله سبحانه قد حذرنا في كتابه العظيم بآية منذرة قال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) وخاب من كسب ظلما. وتأمل معي هذا الحديث فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رجلٌ: يا رسول الله، إن فلانة يُذكر من كثرة صلاتها، وصيامها، وصدقتها، غير أنها تُؤذي جيرانها بلسانها، قال: “هي في النار”، قال: يا رسول الله، فإن فلانة يُذكر من قلة صيامها، وصدقتها، وصلاتها، وإنها تصدق بالأثوار من الأقط، ولا تُؤذي جيرانها بلسانها، قال: “هي في الجنة”. فتأمل هذه المعاني النورانية.
وبعد ضبط علاقتك بربك وفق الكتاب والسنة، وتأدية الفروض وتقوية وصالك بالسماء، تأتي أولوية الإعداد العقلي والروحي، والذي يتطلب تحصيل نصاب العلم الشرعي، لا أقول كن ابن حنبل ولا أقول كن ابن تيمية رحمهما الله، ولكن كن العارف بنصاب العلم الشرعي الذي يؤهلك لأن تعرف ما لك وما عليك، قال ابن حجر -رحمه الله-:”والمراد بالعلم: العلم الشرعي الذي يُفيد معرفة ما يجب على المكلَّف من أمر دينه في عباداته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته وما يجب من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص، ومدارُ ذلك على التفسير والحديث والفقه.
فطلب العلم الشرعي واجبٌ على كل مسلم ومسلمة، ويدخل في هذا الإلمام بأساسيات العقيدة من توحيد وكشف للشبهات إلى الفقه وحديث وما تيسر منه لتعبد ربك عن دراية وعلم.
ثم (قُل هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)، فالعارف بأصول دينه لا يستدرجه دجاجلة العصر ولا يخلطون له الأوراق فيتوه في ظلمات البدع والمحدثات، ذلك أنه مستندٌ لأصلٍ ثابتٍ، مستند لمعرفة لا تتزحزح ولا تتلجلج بفضل من الله سبحانه.
ولعل أهم ما يجب تنبيه شباب المسلمين عليه هو ألا يشغلوا بالهم بالاختلافات في فروع الدين لأنها من الأمور الثانوية خاصة حين تكون ديار المسلمين تئن وطأة الاحتلال والهيمنة والظلم والطغيان!
بل وجب التركيز على نقاط الوحدة والاتفاق والكليات المشتركة، فالإسلام يسع كل العاملين له وإن اختلفوا في الفروع، وهي أولوية تقديم المتفق عليه على المختلف عليه.
الأولوية الثانية: الإعداد
بعد تحسين العلاقة مع ربك، وأداء الفرائض كما يجب، وبعد الإحاطة بنصاب العلم الشرعي الواجب على كل مسلمة ومسلمة، تأتي مرحلة تلميع هذا العقل وتهيئته لتوسيع مداركه وتقوية بصيرته، وهي مرحلة الإعداد؛ وهي مرحلة الإحاطة بما يجري في عالمك وما يجب عليك معرفته، سواء كان تاريخ أمتك أو واقعها المعاصر أو نبوءات النبي صلى الله عليه وسلم وما سيكون في آخر الزمان.
لاحظ أنك ستنخرط في الصراع بمجرد أن بلغت درجة من الوعي بماضيك وحاضرك ومستقبلك.
وتوازي أولوية توسيع المدارك أولوية لا تنفك عنها، هي تغذية الروح، بزيادة في الطاعات والقربات، وأقصد كل أنواع العبادات التي يقدر عليها المرء ويواظب عليها، وأرى الاهتمام بأعمال القلوب قبل أعمال الجوارح ويكون الذكر على رأس هرم الأولويات، فكلما ازداد ذكرك لله وتعلقك بالقرآن كلما فتح الله لك الفتوحات فتبصر الدنيا بعين الحكيم لا بعين الجاهل ولا تسأل بعدها كيف تتذلل لك العقبات.
وحين تصل لهذه المرحلة ستكتشف هداية الله للأعمال الصالحة بحسب صدقك وإخلاصك في الفرار إليه، فبعضهم يفتح الله عليه في القرآن وآخر في الصدقات وآخر في قيام الليل وآخر في الاستغفار وغيره. وهذه العبادات هي بمثابة وقود قلبك لتجاوز شراك الشيطان المتربص بك لزامًا، وللثبات في الملمات والمدلهمات وما ضاقت به نفسك من ابتلاءات، ومخطأٌ من ظن التوفيق حليفه وهو بعيد عن وصال ربه يلتمس منه النصر والمدد، ومن ضيّع الأصول حرُم الوصول.
ولابد أن ينظر المرء في مصادره ومن أين يتلقى المعلومة وكيف يبني رصيده الثقافي والمعرفي، خاصة في عالم يعجّ بالغث والسمين والدجاجلة والمصطنعين، وهذا الأمر تكفله فراسة المسلم التي سيكتسبها مع الوقت، وبالتجارب والاحتكاكات، وكلما زاد اطلاعك وسلمت مصادر بحثك كلما كانت خلاصاتك قوية متينة يمكنك البناء عليها، ولا تنسى قاعدة “تبينوا” في هذه المسيرة، ذلك أننا نعيش في عالم بشع تضخّ فيه الافتراءات والبهتان والإفك بلا رقابة أو حسيب أو يقظة ضمير، فلا تكن ضحية دعاية بائسة أو إعلام أجير.
والإعداد يدخل فيه كل ما أمكنك تعلمه وإتقانه مما ينفعك وينفع أمتك، وقد يكون بالدراسة المنتظمة أو بالاكتساب وتحصيل المهارات بدورات تخصصية وتدريبية موجهة، واليوم توسعت دائرة التعلم وتحصيل الخبرات فلا تحرم نفسك من إعداد تشق به ظلام الأسى.
الأولوية الثالثة: رفقة المسير
بعد هذا الكمّ من الأولويات لدينا أولوية أخرى وهي الصحبة والرفقة التي بها يكتمل العطاء، فلا تصاحب إلا طيب القلب الصالح، صاحب الهمة الذي يحثك على الخير وإياك والنمّام ومن يشغل وقتك بالسيئات والترهات وسفاسف الأمور، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “شرار أمتي الثرثارون، المتشدقون، المتفيهقون، وخيار أمتي أحاسنهم أخلاقًا”.
فإن لم تجد رفقة صالحة فلا أفضل من كتاب أو مواطن العلم والفوائد المرجاة. قال الله سبحانه وتعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾.
ويدخل في أولوية الرفقة، الأسرة والأقرباء، ويعني هذا حسن الصحبة والإحسان ودعوتهم للخير وصالح الأعمال، فـ (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وإن شئت الجنة وسعيت لها سعيها، فلابد أن تتمناها لأسرتك وتشد على أيديهم كي يسعوا لها سعيها. وهذه وظيفة الداعية وهي وظيفة كل من علم أن يبلِّغ.
الأولوية الرابعة: أولوية العمل
ها قد تعلمت وأعددت فآن أوان العمل، ومن فقه الأولويات أن تسد ثغرًا في بنيان الأمة لا أن تنشغل بما يضيع أوقاتك ويهدر طاقاتك، أن تجعل خططك وجهودك في سبيل غاية نبيلة وأهداف عظيمة وهل هناك أعظم من غاية الإسلام وخدمة قضاياه والمسلمين! فإن اخترت هذا المقام وانبريت له فلا تدخل في مسائل جزئية أو خلافية لم يحسمها كبار أهل العلم منذ أول الزمان.، وركز في رحلة عملك على سد الثغرات الأولى فالأولى، وما أكثر الثغرات وما أحوج أمتك لإقبالك.
فانظر كيف يمكنك إحراز موطأ قدم في مسيرة النهوض التي نعيشها اليوم، وفق قدراتك وظروفك وطموحاتك وما تيسر لك من أسباب أو نلته من توفيق.
ومجالات العمل كثيرة وقائمتها تطول، فعلى كل مسلمٍ ومسلمةٍ أن يُتقن في ميدانه، حتى نرسم مشهد بنيان متراص من الخبرات، تصطف لنهضة هذه الأمة بكل تناغم وانسجام، تجمعها المحبة والأخوة في الله والرحمة والحلم وخفض الجناح للمؤمنين ووحدة الهدف والإسلام.
ولا تفكر في العواقب ولا تأسى كثيرًا على النتائج فمن سلك طريق المثابرين هانت في عينيه المصاعب والابتلاءات لأن أولى أولوياته أن يُعذر عند ربه ويحظى بالقبول ومراتب النجباء. وإن تعطلت مسيرتك لسبب أو لآخر فاستجمع قواك وانهض وقاوم أي سقوط ذلك أن لكل فارس كبوة وأنت المسلم الأبي في يده سلاح الاستغفار والتكفير عن ذنوبه والهمة ذاتية الشحن.
ولو أتقنت فقه الأولويات في هذه الحياة ستحقق سبقًا وتكسب وقتًا وتدخر جهدًا، وهي طريقة الأذكياء في كل مجالات الحياة سواء في المسابقة بالعبادات من حيث أداء الأنسب من ناحية الوقت والأجر والذكر، أو من حيث تلبية حاجات هذه الأمة التي تبصرها ويمكنك العمل على سدها متبعًا قاعدة الأولى فالأولى، ومن فاز بالبركات جادت نفسه بالعطاءات وكان من (أُولِي الأيْدِي وَالأَبْصَارِ).
هذا غيضٌ من فيضٍ وملخص فقه الأولويات الذي على كل مسلم ومسلمة الإحاطة به والله يؤتي فضله من يشاء والله واسع عليم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق