حياة الأمم
August 26
في حياة الأمم أزمنة بيضاء نقية.. لا يَكمُنُ نقاؤُها في رخائِها.. بل في شِدّتِهَا!!
هي أزمنةٌ تُراكمُ الوعيَ كما تُراكمُ المآسي.. فإذا تلاقحت المآسي المتتابعة مع الوعي المتصاعد وُلدت (المفاصلة).. تلك الأنثى التي لا تنجب سوى النصر!!
لم تكن (بدرٌ الكبرى) مجرد معركة انتصر فيها المسلمون على المشركين؛ بل كانت مُغتسلاً نفسياً خالصاً غَسلَ اللهُ فيه نفوسَهم من أدران الابتلاء المكي.. كانت حالة فريدة من إعادةِ التأهيل النفسي والمعنوي لهم؛ فالذين سُحلوا في رمضاء مكة، وجُلدوا في شعابها، ووُضِعت الصخورُ على صدورهم في وديانها، وطُرحوا على الجمر فلم يُطفئ الجمرَ إلا وَدَكُ ظهورهم؛ كانوا يحتاجون إلى دورة نفسية مكثفة تُخبرهم أنهم يستطيعون.. وكانت بَدرٌ الكبرى هي تلك الدورةُ المغتَسل!!
كان لا بد لرويعي الغنم رضي الله عنه أن يرتقي ذلك المرتقى الصعب؛ فيطأ صدرَ أبي جهل بقدميه ثم يحتز رأسه.. كان لا بد للعبد الحبشي رضي الله عنه أن يجندل أميةَ بن خلف.. كان لا بد لعلي وحمزة رضي الله عنهما أن يقتلا عتبةَ وشيبةَ والوليد.. كان لا بد للذين استُضعفوا أن يضربوا بأسيافهم هاماتِ الذين استضعفوهم ثم يلقوهم جيفاً نتنةً في قليب بدر.. كان لا بد للمقيَدين السابقين في بطحاء مكة تحت العذاب أن يُقيِّدوا مقيدِيهم السابقين في الحبال أسرى أذلاء يقتلون بعضَهم ويَفدون بعضَهم ويمنّون على بعض..
وكان لا بد أن يفعلوا كلَّ ذلك بسلاح المسافر دون عدة أو عتاد- فقد خرجوا خفافاً للقافلة لا للحرب- وهو أنكى وأذل وأفضح للعدو المتغطرس الذي غُلب رغم إعداده، وأقوى وأعز وأشفى لصدور المؤمنين الذين غَلبوا دون استعداد.
وشفاءُ الصدور أولُ درجات العلاج النفسي للمستضعفين!!
كانت بدرٌ نصراً ولم تكن فتحاً.. فرقٌ كبيرٌ بين النصر والفتح!!
حديثو العهد بالاستضعاف قد يُحرِزُونَ النصرَ إذا أخذوا بأسبابه، ولكنهم لا يحرزون الفتح.. الفتح شيءٌ آخر.. درجةٌ عليا من درجات العلاج النفسي المعتمد على تقلبات الواقع وتتابع الوقائع.. حالةٌ متقدمة من الوعي المُفاصِلي الناتج عن الانصهار في أتون التدافع انتصاراً وانكساراً.. استنارةٌ عقليةٌ تزحف شيئاً فشيئاً إلى الأرواح والنفوس فَتَسلّها من العجز كما يَنسَلُّ الفجرُ من السَّحَر، وتسلخها من الاستضعاف كما ينسلخُ السَّحَرُ من العتمة.. ومع كل حدثٍ (مفصلي) يتأسس وعيٌ (مُفاصِلي).. فتنفتح النفوسُ على عوالم أخرى لم تكن ترتادها.. أحلامٍ أخرى لم تكن تألفها.. ومع كل حلمٍ جديد يتساقط من النفوس أثرٌ من آثار مرحلة الاستضعاف؛ ليحل محله أملٌ من آمال مرحلة الاستخلاف، حتى تغيم المرحلةُ الأولى في نفوس أصحابها كأن لم تكن!!
حينها فقط.. يحدث الفتح!!
(أُحد، والأحزاب، والحديبية) كانت أحداثاً مفصلية أَهَّلت النفوسَ للفتح..
أقنع المشركون أنفسَهم بالنصر في أُحد، ثم شعروا بعد قليل أنه نصرٌ زائف.. كانوا لا يزالون يفكرون بعقلية السادة الذين أسسوا للمسلمين مرحلة الاستضعاف.. لم يتخيلوا مجرد وجود مستضعفيهم السابقين، فضلاً عن أن يسمحوا لهم بدولةٍ وصولةٍ وشوكة.. وَمَنْ كان هذا حاله لا يُذهبُ غيظَ قلبِه سوى استئصال الشأفة وإنهاء الوجود؛ فتجمعوا للأحزاب عازمين على إنهاء صداع هذه الشرذمة المزمن.. فلما خسروها وتلاعبت الريح بخيامهم؛ قنعوا من الغنيمة بالإياب.. وشيئاً فشيئاً بدأت تتأسس في نفوسهم فكرة (التغاضي) وتتساقط فكرة (الاستئصال).. وحسبك بهذا التأسيس هزيمةً وانكساراً.
على الجانب الآخر.. لم ينتصر المسلمون في أُحد انتصاراً خالصاً ولم يُهزموا هزيمة محضة.. كانت أُحد هزةً نفسيةً عميقةً نبهتهم إلى أن انتصارهم السهل في بدر لم يكن ناتجاً عن عَدَدِهِم أو عدتهم؛ بل كان أثراً من آثار الاتباع الكامل والتسليم الخالص لله ولرسوله، وأنهم في النهاية بشرٌ من البشر يُكسَرون كما يَكسِرون ويَألَمون كما يُؤلِمُون، وأن الاتباعَ الكامل بعد المفاصلة الخالصة، والتسليمَ الخالص بعد الإعداد الممكن؛ هو سلاحهم الأول في مناجزة العدو أو مطاولته.. فمن اتبع انتفع ومن خالف خولف عليه!!
وكان هذا تأسيساً نفسياً أولياً للفتح!!
أما الأحزاب فكانت ابتلاءً حقيقياً بشعاً لا يكاد يُعرف له مثيلٌ في تاريخ المسلمين.. ولأنها كانت كذلك فقد أسست في نفوس المسلمين- لأول مرة- فكرة استئصال شأفة المشركين وإنهاء وجودهم.. لقد تبادلوا الأدوار النفسية الآن وبدأت فكرة إنهاء صداع المشركين المزمن تتصاعد في نفوس المسلمين: هذا الحصار لا يجب أن يتكرر مرة أخرى.. هذه الشدة التي زاغت فيها الأبصار وبلغت فيها القلوب الحناجر وتلاعبت فيها الظنون بالنفوس لا يمكن أن يُسمح لها بالعودة.. ولأن المطلوب كان أعظم من إمكانات الطالب؛ فقد حلت المطاولةُ في الأحزاب محل المناجزة في أُحد، ولعبت السياسةُ والخدعةُ دورَها في الحرب كما تلعب الحربُ دورها في السياسة، ثم انتهت الشدة بتنظيف داخل البيت من رجس اليهود الذين لا يطعنون إلا في الظهر!!
وكان هذا تأسيساً نفسياً آخر للفتح!!
جاءت الحديبية اختباراً أخيراً في الاتباع ذكّرَهم باختبار أحد.. نجحوا فيه جميعاً بعد لأي كما نَجَوا من اختبار أُحدٍ بعد لأيٍ أيضاً.. لقد كانت الحديبيةُ إلهيةً محضةً لا عمل للبشر فيها.. تماماً كبدر.. إذ مقاييس البشر تستبعد انتصار ثلاثمائة أو يزيدون بسلاح المسافر على ألفٍ أو يزيدون بسلاح الحرب.. كما تستبعد- تماماً- تلك الشروط المجحفة في الحديبية.. بيد أن هذه الشروط كانت ثمالةَ كأس العجرفةِ القرشية الغابرة.. رفسةَ ذبيحة تتلبطُ في دمها قبل الهَدْأَة.. شهقةَ مَيّتٍ أخيرة قبل تسليم الروح.. لقد مالت بمكة الأيام وفقدت فلذات أكبادها ولم يعد فيها قوة لمطاولة المدينة الفتية.. وأصحاب المجد الغابر يحرصون قبل السقوط الأخير على مظاهر تافهة يعرفون قبل غيرهم أنها كسراب بقيعة يلمع للظمآن ثم لا يروي ظمأه!!
وقَّعت قريش على المعاهدة واعترفت بدولة محمد صلى الله عليه وسلم دون الاعتراف بنبوته.. ولم يكن المسلمون يحتاجون- آنذاك- أكثر من هذا..
وكان هذا تأسيساً نفسياً أخيراً للفتح!!
أنتجت الحديبيةُ حالتين نفسيتين مختلفتين: حالةَ قومٍ تأججت في قلوبهم شعلةُ الفتح فتشوقوا له إذ لم يعد ثَمَّ هَمٌّ سواه.. وحالةَ قوم بَهَتت في نفوسهم ذُبالةُ السيادة؛ فقنعوا بالانتظار إذ لم يَعُدْ ثَمَّ عملٌ إلّاه!!
وكانت سنوات تربيةٍ وفتونٍ هيَّأ اللهُ فيها كلَّ طائفة لقَدَرِهَا، وسَبّبَ أسبَابَه بِقَدْرِهَا.. حتى إذا نضجت الثمرة أذِنَ بالقطف؛ ففتح أبوابَ مكة لرايات التوحيد..
والله لا يعجل بعجلة أحدنا!!
هكذا يُهيئ الله الأسبابَ لإمضاء السُنن.. ومن تتبع تواريخ الأمم والحضارات وجد- غالباً- ذات الأنساق بسياقاتٍ مختلفة:
(مفاصلة.. ثم ابتلاء.. ثم نصر.. ثم فتون.. ثم فتح)!!
وأيما مرحلةٍ طالت- بعد مرحلة المفاصلة- فاعلموا أن السبب في طولها هو غياب المفاصلة ذاتها.. إذ المفاصلة هي قاعدة الرحى وحجر الزاوية وأساس البناء.. فمن أسقط المفاصلة وقع في الابتلاء، ومن وقع في الابتلاء دون مفاصلة؛ فَسَيَظَلُّ يتقلبُ بين الابتلاء والفتون، ولن يرى النصرَ وإن تَوَهَّمَه!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق