حين ترسم سنة التدافع مسار هذه الأمة
وإن أبرز ما يؤسف في هذا الواقع، هو غفلة الناس عن سنن الله في كونه، تلك السنن التي لا تتبدل ولا تتحول، ولا تحابي أحدًا ولا تستثني أحدًا، تأتي لتنتشل المؤمنين من مستنقعات الإحباط إلى سمو اليقين والأمل.
إننا نشاهد اليوم المدافعة في أوجها بين قوى الشر والخير، بل نشاهدها بين كل مكونات الحق ومكونات الباطل، لتضبط مسار الأمة في الطريق الذي ينبغي لها أن تسير فيه، تدفعها له الابتلاءات والهزائم والانتصارات وفضل الله العظيم.
قال تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)، فبفضل هذا التدافع وهذه المواجهة تظهر معالم طريق الحق لنصرة الدين ورفعة المسلمين.
قال عبد الله بن مسعود الصحابي الفقيه الذي ما فتئت الحكمة تتفجر بين ثنايا حروفه: “إن للملك لمة بقلب ابن آدم. وللشيطان لمة. فلمة الملك: إيعاد بالخير، وتصديق بالحق. ولمة الشيطان: إيعاد بالشر، وتكذيب بالوعد “، ثم قرأ: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا).
وتأمل كيف يشخص هذا الوصف حالة التدافع في ذات الشخص الواحد، حين يتدافع لبّ المرء بين اللمتين حتى تكون غلبة إحداهما على الأخرى، فيلجأ صاحب نزعة الشر لنزعته وصاحب نزعة الخير لنزعته.
وهو ذات الصراع بين جموع البشر والجماعات، فإن سيطر على المشهد المؤمنون والصالحون فإنما نتيجة السعي الحثيث والصبر، هو الصلاح والنماء والخير العظيم، وإن استولى عليه الكافرون والمجرمون، فإنما نتيجة المكر والكيد، هو الفساد والظلم والطغيان المبين كما نشاهد.
وتتجلى ملامح هذا الصراع والتدافع في كل مجالات الحياة، السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والاعلامية والتعليمية، لم يخلو ميدان من المعارك بين الحق والباطل إلا وسنة التدافع ماضية فيه لترسم مسار هذه الأمة.
ولا يعني هذا أن يبقى الصراع والتدافع محصورًا بين أهل الحق وأهل الباطل، بل سنة التدافع تدخل في كل مكونات المشهد، حتى بين أهل الباطل أنفسهم، فتجد فريقا أظلم من فريق في مواجهة على باطل، وقوة أفسد من قوة في صراع على باطل، فيميل المسلمون لأقربهما للحق، وأقلهما أذى وضررا، وكل هذا من مقادير سنة التدافع. قال تعالى: (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)).
وكذلك التدافع بين أهل الحق أنفسهم، بين من يملك دعوة الحق الأقوى ومن يحمل دعوة الحق الأضعف، وتستمر المنافسة بينهم بالاختلاف والتدافع حتى يتحقق أحق الحقين وأكثره موافقة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يفسر الكثير من التناقضات التي تقوم عليها الأمة اليوم بين فئاتها المختلفة والمتنازعة. والتي وجب عليها الاصطفاف جميعا حين يكون العدو لا يفرق بين الأقوى حجة من الأضعف حجة بينها.
ومن يتابع آثار سنة التدافع في صراع الحضارات اليوم، يدرك أنها كالقانون الذي يأتي لضبط الميزان والقوى، ويحفظ لأهل الإيمان حقهم، فيسخّر لهم من فضله من يدافع عن دينهم ويذود عن حياضه، مؤمنا كان أو فاجرا، فيعتز الإسلام وأهله، ويزداد يقين المسلمين ويفخروا.
ويستوجب على المسلمين أن يدركوا حقيقة سنة التدافع فيقفوا في صف الحق دائما لأن مصيره النصر ولو بعد حين، سواء في داخل المرء أو في داخل المجتمع المسلم أو في المواجهة العالمية مع قوى الشر والطغيان. منهجهم فيه (لا تركنوا) (ولا تطغوا) على الاستقامة التي أرادها الله سبحانه لعباده المؤمنين حتى يبلغوا مراتب التمكين والاصطفاء.
ولا يحزن المؤمن حينما يشاهد تصارع الأفكار على أشده، فإن ذلك من لوازم سنة التدافع وبها تستبين سبيل المجرمين وبها تتنقى الصفوف وبها يركم الله الخبيث مع الخبيث والطيب مع الطيب.
إنها سنة التدافع التي تمضي بنا لشواطئ الأمان والاستقرار والتمكين المبين، تلك السنة التي انطلقت مع هذه الأمة ترشدها سبل السلام منذ ظهرت الرسالة المحمدية في مكة وكان الإسلام في أضعف أحواله، ثم بالهجرة النبوية وغزوة بدر التي سجلت تاريخ الانعطافة الكبرى في تاريخ صعود المسلمين والدولة الإسلامية الأولى، ثم بعد بفتح مكة بدأت مرحلة مدافعة الكفر وأهله خارج جزيرة العرب، لتتوسع الدائرة وتنتهي بالقضاء على فارس والروم؛ فيسود الإسلام في الأرض وتنتشر معه أنوار الهداية والعدالة والازدهار والحضارة الماجدة.
وقد ضعف المسلمون في الغزو الصليبي والتتري لكنهم ما لبثوا أن عادوا حين استجمعوا قواهم وأسباب النصر، فاستقووا مرة أخرى وسطروا مشاهد بطولة يعجز القلم عن تدوين روعتها في حطين وعين جالوت والزلاقة وأخواتها وكانت فصولا أخرى من سنة التدافع.
ولا يعني هذا أن عصرنا يخلو من مشاهد النصر بل هي موجودة وإن كان يطغى عليها ضباب الدجل، فهناك نصر يخفى على الكثيرين مع الحرب المعلنة على الإسلام يتجلى في عدد المعتنقين لهذا الدين العظيم وعدد الباحثين عنه والساعين له، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
ونصر آخر يخفى على الناس، في الحرب المعلنة على الحجاب والنقاب التي كلما جمعوا خيلهم ورجلهم لاقتلاعه من جذورنا زاد انتشارا والإقبال عليه في قلب أوروبا وإن تعرت المسلمة في بلدها.
ونصر آخر نبصره في الاقتصاد حين يمحق الله الربا وتغرق الدول الكبرى في أتون الديون والفوائد المتراكمة فترهن المصانع وتفلس الشركات ولا تحصى الخسائر ولا التبعات لدى البنوك والحكومات.
ونصر آخر نبصره في الطبيعة التي تنتفض على فساد الإنسان فتنقلب إعصارا وزلزالا يهد ما بناه كل من شارك في بث التلوث وسار بالظلم بين العباد وما يعلم جنود ربك إلا هو.
ونصر آخر نبصره على دعاة التغريب والانحلال حين ترتفع في الغرب معدلات الانتحار والتحرش والشذوذ والأمراض النفسية والجسدية التي باتت تؤرق مؤسساتهم البحثية والطبية رغم كل التطور الذي بلغوه في مجالات العلم المادي.
وغير ذلك الكثير من مشاهد النصر في عصرنا الحديث.
فأيها المسلم لا تخضع لبطش قوى الكفر والشر وكن على يقين أن له صولة ولقوى الإيمان والخير صولات لكنك لا تبصرها وتغفل عنها.
فسنة التدافع تعيد ترتيب هذا الكون كما يشاء الله، ليقطع دابر المفسدين، ويجزي الظالمين الجزاء الأوفى، ويعدّ هذه الأمة لاستلام أمانة التمكين والخلافة في الأرض، وينقي الصف من كل صاحب هوى أو بدعة أو ظلم.
وختاما فاعقل أيها المسلم وأيتها المسلمة، أن سنة التدافع تأتي لترسم مسار هذه الأمة رغم كل الكيد والمكر الذي يُجمع لها، خلاصتها: خاب من كسب ظلما! فالظالم أيا كان وصفه ومهما بلغت قوته، سيدفع ثمن ظلمه عاجلا أم آجلا، وليس مهما على يد من، بل المهم أنه سيدفعه جزاءً وفاقًا، وما كان ربك بظلام للعبيد.
فلتلتزم طريق الإسلام القويم ولا تبتئس لما يفعل المجرمون، فإنما هو التدافع إلى حين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق