وقفات مع الهجرة النبوية
إنه لمن تمام الغبن أن يجهل المسلم سيرة نبيه صلى الله عليه وسلم بكل ما تحمله من ميراث ثقيل زاخر بالفقه والحكمة والخبرة والدروس والعبر وما لا يوجد إلا في ميراث الأنبياء.
وبما أننا ركبنا سفينة عام هجري جديد، فسألخص في نقاط بعض أهم الخلاصات التي يلزم الإحاطة بها عند تدبر هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، لعل الذكرى تنفع المؤمنين، ولا شك أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء قد يتفاوت في إدراكها المؤمنون.
لم يكن مشروع الهجرة خيارا شخصيا بل انقيادا لأمر الله سبحانه، فهي عبادة وطاعة، جاءت بعد 13 عام من الصبر على الدعوة في مكة وعلى بطش قريش وتعدياتهم التي أجبرت بعض الصحابة لهجرة أخرى أولى وثانية باتجاه ديار الحبشة، ينشدون عدل ملكها. وتلك قصة أخرى تستحق التدبر والمدارسة.
والهجرة من ديار تعلقت بها الأنفس وحُفرت معها الذكريات ورُبِّيَ فيها المرء وعاش فيها أجمل اللحظات مع أحبته ليست بالمسألة السهلة ولكنها درس عظيم في إيثار الحق وتقديمه على كل شيء مهما غلا، ويدخل في هذا المفهوم، هجران كل شر وكل هوى واجتناب ما نهى الله عنه لما فيه التقوى والاستقامة.
لقد قدمت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة التي ألفها إلى يثرب الغريبة البعيدة دليلا وحجة على أن موطن المؤمن يكون حيث يعيش حرا بإيمانه معتزا بدينه، وأنا الارتحال من أرض لأرض في سبيل ذلك من تمام الفقه والسنة، وأن العبرة بحرية الاعتقاد لا حرية المطعم والمشرب.
لقد كانت هذه الهجرة المباركة حجر الأساس لتشييد أول دولة للإسلام عرفتها الأمة، تُعد مراحل تشييدها أفضل مثال وأنجح نموذج لعبقرية الإنجاز عرفها التاريخ البشري بشهادة المؤرخين الغربيين، نظرًا للظروف وحجم التحديات المحيطة بنشأتها وتمددها.
ولابد أن التخطيط للهجرة قد كشف عن الخصائص القيادية المبهرة والفذّة التي يمتلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأعظم قائد عرفه التاريخ، فلم يقبل النبي على هذا المشروع إلا بعد أخذ الأسباب وقراءة المعطيات وتحليلها للتحرك.
لقد وظّف منظومة اختصاصات متكاملة لإنجاز هذه المهمة.
لم يترك النبي تفصيلا لم يعره اهتمامه، فمن إرجاع الحقوق لأصحابها، إلى توفير وسيلة النقل، إلى ترتيب خطوات الخروج ولوازمه من مقرات وتحركات إلى توفير الدعم اللوجستي والاستخباراتي إلى تضليل العدو وتشتيته، إلى الكتمان والسرية في الإنجاز، إلى دراسة خريطة الطرق والزمن إلى اختيار الأمناء والبدائل.
ولا شك أن نتيجة الالتزام بأمر الله وحسن التخطيط والأخذ بالأسباب ودعاء الله بقلب خاشع يقابله معية الله وتوفيقه وكف شر الأعداء وذاك هو معنى النصر.
وكيف لا ينتصر من كان يقينه يردد (ما ظنّك باثنين الله ثالثهما)، ثم حديث الصحبة حديث ذو شجون يستحق وقفة خاصة، رضي الله عن الصديق وصحبه.
ويدخل في مكونات جمال هذا المشهد، تلك الأرواح المؤمنة من النساء والرجال الذين وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقفة رجل واحد، وجعلوا أرواحهم رخيصة فداء لدين الله ولنبي الله انعكست تفاصيل إيمانهم ومحبتهم للإسلام في كل مرحلة من مراحل الهجرة منذ أول حديث عنها إلى أحضان المدينة.
ومن يتدبر في تفاصيل طريق الهجرة وكيف أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أثرهم وكيف دخل مع الصديق إلى المدينة وكيف استقبلهم أهلها، وكيف استوعب مشاعر الإيثار والمحبة من الأنصار وكيف بدأت قيادة مرحلة جديدة ليست كغيرها مما مضى. يدرك ما معنى أن تقام دولة على يد نبي، وما معنى الاقتداء بسيرته.
لقد برزت قيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم بشكل لم يعرفه الصحابة بعد كقائد ومؤسس لدولة انطلقت ببناء أول نواة لها، المسجد، وبأول سياسة فذة، تأليف القلوب بين المهاجرين والأنصار من بين معالم بارزة أخرى، وبدأ الصحابة يتعلمون من سيد المرسلين الدروس العظيمة، إنها قصة صناعة مجد أمة آمنت.
كانت هذه بعض الدروس المستخلصة من خلال تدبر قصة هجرة نبي الله عليه الصلاة والسلام، عرضتها بشكل مختصر سريع، لأسلط الضوء على عظمة هذا المشروع وعلى أهمية دراسته والتعمق فيه وفي تفاصيله التي لا تنفك تتصل بالمجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والتخطيط الاستراتيجي، وكل ما يدخل في فلك نصرة الدين.
فلنكن مهاجرين إلى الله بهجر نواهيه إلى أوامره، لتفتح لنا الدينا أبوابها وتزهر توفيقا ونجاحا وبشرى.
وأختم بالصلاة والسلام على نبي الله وعلى آله وصحبه ومن واهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق