لماذا تقلق دول عربية من التغيير في سوريا؟!
منذ سقوط بشار الأسد أرسلت أمريكا والدول الأوروبية المبعوثين إلى دمشق، وتدفقت الوفود الغربية بدون تردد للتواصل مع القيادة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع قائد العمليات العسكرية، الذي وجَّه الضربة القاضية للنظام السوري، ولكن حتى الآن تبدو الحكومات العربية غائبة عن المشهد، وكأن الأمر لا يعنيها، وعندما قرر القادة العرب اتخاذ موقف كان في قمة العقبة بحضور وزير الخارجية الأمريكي، حيث طالبوا بتسليم إدارة المرحلة الانتقالية إلى الأمم المتحدة!
بدلًا من أن يساعد العرب الحكم الجديد في استكمال بناء النظام السياسي بعيدًا عن التدخلات الخارجية ودعوة ما بقي من الجيوش الأجنبية للخروج، دعت قمة العقبة إلى تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254 الذي صدر عام 2015، وكان يدعو إلى وقف إطلاق النار، ويطالب بشار بتقاسم السلطة مع المعارضة السياسية، أي تنفيذ القرار الذي لم يعد مناسبًا بعد سقوط النظام الذي كان مجلس الأمن يحافظ على بقائه وليس عزله!
لم يعلن العرب استعداد الجامعة العربية -ولو بالكلام- لمساعدة الشعب السوري وتقديم الدعم العاجل للبلد المدمَّر، ولكن طالبت قمة العقبة بـ”دعم المبعوث الأممي إلى سوريا والطلب من الأمين العام للأمم المتحدة تزويده بكل الإمكانات اللازمة وبدء العمل على إنشاء بعثة أممية لمساعدة سوريا لرعاية العملية الانتقالية وفقًا لقرار مجلس الأمن”، ويبدو من تصريحات الدبلوماسيين الأمريكيين بعد ذلك أن بيان العقبة تم بتوجيه أمريكي ليكون هو المرجعية التي يدخل منها الغربيون للوصاية والهيمنة على المرحلة الانتقالية.
التدخل العربي الجماعي يضر ولا يفيد
منذ طوفان الأقصى ثبت أن جامعة الدول العربية انتهى دورها بعد التمزق والفرقة وتورط أكثر من دولة عربية في التطبيع مع الإسرائيليين، بل كانت مواقف بعض الدول معادية لغزة، وقد فضح القادة الإسرائيليون والأمريكيون مواقف بعض العرب الكارهين للمقاومة الفلسطينية، ولم يعد سرًّا أن بعض الرؤساء والملوك كانوا يقولون في العلن غير ما يقولونه لنتنياهو وبلينكن في الغرف المغلقة، حيث كانوا يؤيدون القضاء على حماس، وهو ما شجع إدارة بايدن على دعم الاستمرار في الإبادة حتى الآن.
وعندما طالب نتنياهو أصدقاءه العرب بالمشاركة في إدارة غزة، وتنفيذ ما وعدوا به لاستبعاد حماس، والوفاء بتعهداتهم، عجزوا ولم يقدروا على إعلان مواقفهم الحقيقية أمام شعوبهم. كما أن الشعب الفلسطيني لم يقبل أن يحكمه الإسرائيليون أو عملاؤهم من الفلسطينيين والمعاونين من العرب، وكانت الموافقات السرية سببًا في المأساة التي تعيشها غزة، وأصابت نتنياهو بالغرور والغطرسة فدخل لبنان ثم سوريا ويهدد الآن بكل وقاحة بضرب أي دولة عربية، بمزاعم الدفاع عن النفس، دون الالتزام بالقانون الدولي.
بالتأكيد لا أحد يطلب من الدول العربية في الوقت الحالي أن تتحرك بشكل جماعي وتتدخل في سوريا، لأن تدخلها سيكون لصالح أمريكا وإسرائيل، وهم الدولتان اللتان تحتلان سوريا، الأولى في الشرق والجنوب والثانية في الجنوب الغربي، بل يتوسع الإسرائيليون في القنيطرة ودرعا وريف دمشق للضغط على الحكم الجديد حتى لا يكمل تحرير شرق الفرات، لكن ما ندعو إليه أن تتحرك الدول صاحبة المصلحة بشكل منفرد بالتنسيق مع القيادة الجديدة بدون الوسيط الأمريكي، وأن تساعد قدر الاستطاعة في إفشال المكر الخارجي الذي يدخل من خلال البيت العربي.
مخاوف مُبالَغ فيها
كان دخول حلب أشبه بزلزال ضرب الدوائر الاستئصالية في العالم العربي وأصابها بالجنون، فارتفعت أصوات الصراخ والتحذير من قدوم المعارضة السورية بصبغتها الإسلامية، وطالب بعض المنزعجين إيران وروسيا بوقف المعارضة بأي طريقة! لكن بعد سقوط دمشق وهروب الطاغية وتخليه عن أقرب المقربين، سيطر الذهول على أوساط السياسيين والإعلاميين الذين لا يحتملون رؤية مسلم متدين صاحب لحية يحكم ولو في آخر الدنيا.
صحف وفضائيات عربية رسمية تسب وتلعن المعارضة السورية وقائدها أحمد الشرع، وتبكي على بشار الذي قتل شعبه وفرَّط في وطنه، بل تسببت “الهستيريا” في إثارة الفزع في بعض الدول، والمبالغة في التحذير من الخطر القادم والتحريض على مزيد من القمع، وليس الاستفادة مما حدث بتغيير السياسات التي تؤدي إلى الاحتقان وتفكيك الجبهة الداخلية.
وقد استمرت الحملات الإعلامية المضادة رغم التحسن الطفيف في المواقف الرسمية لبعض الدول، في ضوء القراءة العاقلة لما يجري، وما يبدو من حكمة القادة السوريين الجدد في حقن الدماء، والحفاظ على مؤسسات الدولة، وإشاعة روح العدل والتسامح في التعامل مع كل المكونات.
اللوبي الإسرائيلي في العالم العربي
لم يعد جديدًا أن لوبي إسرائيل في العالم العربي يعتمد على التخويف من كل ما هو إسلامي، ويشعل حربًا لا هوادة فيها ضد الهوية الإسلامية، ونجح هذا اللوبي في توريط بعض الدول في شيطنة التيارات الإسلامية ومنع أي مبادرة للتفاهم أو التعايش والاحتواء، وهذا اللوبي لا يفرق بين المعتدلين ومن يتبنون العنف، ولا بين جماعات وأحزاب سياسية وأخرى تعيش في مناطق تحت الاحتلال الأجنبي، أو يعتاش على وجودها من يزعم أنه يحاربها، وإن اختفت يوجدها (التحالف الدولي في شرق الفرات نموذجًا).
يشعل اللوبي الصهيوني والدوائر التابعة له حربًا لا نهاية لها ضد التيارات الإسلامية، ويورط بعض الحكومات في سياسات ضد الإسلام لا تحافظ على التماسك الداخلي، وتقيد أي مسؤول أو صاحب قرار من مجرد الحديث عن الإصلاح وتقوية الجبهة الداخلية أمام الخطر الاستراتيجي الحقيقي، وهو التغول الإسرائيلي المدعوم أمريكيًّا الذي يهدد كل المحيط العربي والإسلامي.
سوريا بموقعها الجيوسياسي ليست كأي دولة، ونجاح الحكم الجديد في تخطي الفخاخ المنصوبة سيكون مكسبًا كبيرًا للأمتين العربية والإسلامية، وإذا كانت تركيا وقطر أول من رحَّب بانتصار الثورة السورية وفتحتا سفارتيهما وأعلنتا تقديم كل الدعم، فإن المنطقي أن الدول العربية التي فتحت الأبواب للاجئين السوريين وأكرمتهم في محنتهم لن تسير خلف الدوائر الصهيونية الاستئصالية وتعادي شعبًا عربيًّا مسلمًا حرر بلده.
ليس من الحكمة السير في طرق القطيعة مع الثوابت وإدمان الخسارة، ففي عالم السياسة لا توجد عداوات مع الأشقاء دائمة ولا صداقات مع الأعداء إلى الأبد، وستثبت التطورات المتسارعة أن العقيدة هي مصدر القوة وأساس التحالفات، ومعاداتها ضعف وخذلان، ومن لم ير مصلحته مع محيطه العربي والإسلامي لن تنفعه التبعية لدول الهيمنة التي تأخذ ولا تعطي، ولم تعد قادرة على البقاء والاستمرار في منطقتنا أمام عواصف التحرر والرغبة في الاستقلال.