سيكلوجيا الوَلَع بالقصور
خُلق الإنسانُ وفي أعماق نفسه وَلَعٌ بالفخامة والأبهة؛ ولِمَ لا؟ ألم تكن الجنة بما فيها من جمال وجلال مَسْكَنَهُ قبل أن يهبط إلى هذه الأرض؟ ثمّ: أليست هي دارَهُ ومستقرَّهُ ومَقِيلَهُ إذا اجتاز الامتحان واقتحم العقبة؟ ولعل هذه الطبيعة جزء مما أودعه الله تعالى في الخلقة البشرية؛ لينهض الإنسان بواجب الخلافة والعمارة، فيَعْمُر الأرض بمنهج الله، وهي غايةٌ لخَلق الإنسان متفرعةٌ عن الغاية الكبرى (العبادة)، قال تعالى: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ)، وقال سبحانه: (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)، وقال عزّ وجلّ (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها)، وجاءت القصور في تاريخ البشرية كأكبر مظهر من مظاهر الولع بالفخامة والأبهة، لكنّ مقاصد الخلق من تشييد القصور اختلفت وتباينت – علوًّا وسفولًا – بحسب ما يموج ويهيج في أنفس أصحابها من دوافع وغرائز؛ فهل يمكننا الاطلاع على ما وراء هذه المقاصد من طبيعة سيكلوجية تختلف من زعيم لآخر؟
هل للقصور أغراض نبيلة؟
يبدو أنّ سباق الفخامة والأبهة كان ميدانًا للصراع بين الحضارات، ويبدو كذلك أنّ الصدام الذي وقع بين حضارة سليمان التي وصفها القرآن بهذه الجُمَلِ الجامعة (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) وبين مَدَنِيّة بلقيس التي صورها القرآن في هذه العبارات المجملة: (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ)، يبدو أنّ هذا الصدام حُسم تماما في هذه الموقعة الحاسمة التي جسدتها هذه الآية: (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)، فبلقيس التي لم تستطع أن تتأكد من هوية عرشها الذي سبقها إلى سليمان وقعت في فخّ الانبهار بالقصر السليمانيّ؛ فظنت بلاطَ القصر الممرد من زجاج لجّةً من الماء؛ فكشفت عن ساقيها، ثم كشفت عن ساق الاستسلام: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)، فهنا يتجلى غرض من أغراض القصور الفخمة والصروح البالغة الروعة والأبهة، وقد رُوي أنّ عمر بن الخطاب عندما زار الشام ورأى ما شيده معاوية غضب من ذلك واستنكره، فكان جواب معاوية أنّهم في الشام في مواجهة أمم تتبارى في فخامة الأبنية والقصور؛ فسكت عمر، وهكذا جاءت كثير من القصور الملكية والرئاسية في العالم.
السيسي بين فخامة القصر وقزامة النفس
لكنّ الواقعَ الذي يحياهُ الناسُ، والتاريخَ الذي يحكيه الرواةُ، يقومان شاهدَيْن على أنّ الإسراف في تشييد القصور وزخرفتها يعكس عند البعض حالة نفسية جديرة بالدراسة، ولاسيما مع الزعماء المزيَّفين؛ لأنّ الملوك والرؤساء الذين يتسولون الشرعية على أبواب المؤسسات الدولية، ويستجدون الكبار لنيل الاعتراف واستدامة العروش، يشعرون في قرارة نفوسهم بالضآلة والانحطاط، ويجلسون وسط الزعماء كجلوس العبد الذي نال حريته حديثًا بين السادة الوجهاء، وكلما حاولوا أن يجلبوا لأنفسهم – وهم بين الزعماء – شعورًا بالثقة خانتهم التركيبة النفسية المعقدة، وخذلهم الحرْف والطرْف، وتخلى عنهم ذلك الاعتداد المصطنع الذي يتكلفونه بين العبيد المناكيد الذين لا يجيدون إلا المكاء والتصدية، فيجلس الواحد منهم – وهو زعيم! – أمام موظفٍ في دولة لها نفوذ أو مؤسسةٍ دولية لديها أموال وقروض، يجلس كأنّه عذراء في خدرها يلاعبها خطيبها الشقيّ بكلمات تخدش حياءها وتحرك شبقها في آن واحد، وتراه يتقزم ويتقبض ويحني رأسه ويضع يديه بين فخذيه، كعاهرة تتظاهر بالحياء، هذه القزامة المتوطِّنة لا يعوضها إلا الفخامة المصطنعة؛ فتأتي القصور الشاهقة وما فيها من زخرف لإحداث التعويض الذي لابد منه لاستدامة جلوس العَيِيِّ على الكريسيّ، هذا إلا جانب ما تحدثة الفخامة والضخامة في قلوب العبيد من الخضوع للسيادة بالوهم الزائف، فكما أنّ سيكلوجية الزعيم القزم تحمله على المبالغة في تشييد القصور؛ فإنّ سيكلوجية الجماهير التي طال استعبادها تحملها على أن تستمرئ العبودية بالانبهار، ومن ثم تستطيب البقاء في القيود، وكما يقول “إتيان دو لابويسي” في كتابه “العبودية المختارة”: “إنّ الشعب هو الذي يسترق نفسه بنفسه، وهو الذي يذبح نفسه بيده، إذْ لَمَّا كان يملك الخيار بين أن يكون عبدًا أو يكون حرًا تخلى عن حريته ووضع القيد في عنقه”؛ وهذه فلسفة يعرفها حتى الذين يقومون بتشييد هذه القصور، فالحكم لله العليّ الكبير.
بين تشييد القصر وشيوع الفقر
وفي كثير من الإحيان لا يبالي هذا بما يعانيه الشعب من فقر وما يعيشه من ضنك، فيأبى إلا أن يجمع عليه مصيبتين: الفقر والقهر، فليت شعري ماذا يكون شعور المواطن الذي تعوزه أجرة المواصلة التي تقلّه إلى عمله، ويرتشف الكهرباء جرعة من بعد جرعة عن طريق (الكارت) كأنها (باقة) اتصالات، ويجري في الحياة بلا أمل كالذي يهيم على وجهه في الصحراء بلا غاية ينتهي إليها، ولولا الخوف من خاتمة سيئة لأراح واستراح بإلقاء نفسه تحت قطار وهو يقول كما يقول البسطاء عندنا: “وَجَعُ ساعة ولا كلّ ساعة”.
إنّ العدالة الاجتماعية التي فرضها الإسلام قبل أيّ ميثاق من المواثيق، وفَرَضَ على الدولة أن تحميها وتدافع عنها وتسعى قبل ذلك لتحقيقها، إنّ هذه العدالة حقٌّ ثابت للشعوب، ومَطلَبٌ من مطالب الثورات، وإنّ الأحرار من الناس لا يمكن أن يصبروا على هذا الضيم كثيرًا، ولن يثنيهم رَغَبٌ ولا رَهَبٌ عن القيام على هؤلاء الذين سرقوا أقواتهم وشيدوا بها القصور الفاجرة، فليحذر الزعماء المسرفون، ليحذروا غضبة الجماهير، فإنّها – على الرغم من بساطتها – ستارٌ لقدرة الله التي يمحق بها الظلم والفساد ويمحو بها البطش والاستبداد، وليعتبروا بمن سبقهم، ممن قال الله فيهم: (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ)، ولا يكونوا كهؤلاء السفهاء الذين لم يعتبروا بمن سبقهم: (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ).
اقرأ أيضا:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق