الثلاثاء، 17 ديسمبر 2024

العِبَر من سقوط الطاغية

 

العِبَر من سقوط الطاغية


د. عطية عدلان

مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول- أستاذ الفقه الإسلامي,

هل كان أحد يتصور أن يسقط “بشار” بهذه السرعة المدوية؟ وأن ينهار نظامه فجأة كهرم من الرمال ضربه زلزال، أو كبيت من قش عصفت به ريح الشمال! لقد أصاب الخلق في الغرب والشرق ذهولٌ مما جرى، فراحوا يتساءلون: كيف استطاع هذا النظام أن يواري ما ينطوي عليه من هشاشة ويبدو وكأن أوتاده ذاهبة إلى سابع أرض وأعمدته ساربة إلى سابع سماء؟

لا ريب أن العالم كله يعلم أن جبروته مستعار من قوى خارجية، لكن العالم ذاته -بما فيه القوى التي كانت تمده وترفده بل وتتولى عنه الضرب والحرب- فوجئ بأنه بدون هذه القوى صفر مكشوف من بين يديه ومن خلفه، فكيف تمكَّن من حكم شعب عريق عراقة مدائن الشام، وكيف تسنّى له أن يفعل بهذا الشعب ما لم يفعله حاكم على مدى التاريخ بشعبه ولا حتى بشعوب أعدائه؟ ألا إن في سقوط هذا الطاغية لَعِبرًا.


الثورات ليس من طبيعتها أن تموت

في الوقت الذي كان الكل ينتظر فيه الترسيم وإعادة التقسيم، في الوقت الذي استعد فيه الجميع لأداء صلاة الجنازة على ما كان يُسمى يومًا “سوريا”، في الوقت الذي قيل فيه: لا رحيل لبشار ولا نهاية لنظام الأسد، في هذا الوقت الذي وقف فيه قطار الزمان عند محطة اليأس العقيم والبؤس المقيم؛ فوجئ العالم برياح التغيير تهب فجأة من تلك البقعة المحرَّرة المحاصَرة “إدلب”، وإذا كان العالم قد فوجئ بالهبوب، فإن المفاجأة طفقت تتعاظم بسرعة مذهلة؛ فلم يستفق الخلق إلا وسوريا بأكملها قد طُويت ووُضعت بسرعة خاطفة في يد ثلَّة من النجباء، فما هذا برب السماء؟!

لقد كنا مخطئين، وكان العالم كله مخطئًا مثلنا، لأننا جميعًا نسينا أن الثورات تفتر لكنها لا تموت، نسينا أن التاريخ لم يخبرنا مرة واحدة عن ثورة هبّت ثم بعد هبوبها ماتت ودُفنت في مقابر النسيان. كلّا، ما ماتت ثورة ولا ارتدت على أعقابها، واسألوا التاريخ: كم كان بين اندلاع الثورة الإنجليزية واستقرار النصر للبرلمان على الملك؟ كم استمرت الحرب الأهلية التي طحنت الشعب تحت رحى الحرب؟ ثم كم كان بين اختطاف “كرومويل” للثورة ونهايتها التي صارت منطلقًا لتأسيس بريطانيا العظمى؟ واسألوه كذلك عن الثورة الفرنسية التي مرّت بفترات تأرجح فيها الصراع حتى خُتم باقتحام الباستيل ثم بمحاكمة الملك، وعن اختطاف “نابليون” لها ثم عودتها إلى مسارها الذي أطلق في أوروبا كلها صفارة الانطلاق، إن الثورات لا تموت ولا تَبيد، وإنما يصيبها الفتور ثم تنبعث من جديد.


سنة ماضية على القاعدين الصامتين

وينقلب التساؤل هنا إلى استجواب جاد واستنطاق لا يقبل المواربة: لماذا تمكَّن الطاغية إذَن؟ ولماذا تمادى في طغيانه إلى حد الترفُّه بعذابات الناس؟ لماذا أسرف في قهر الشعب وإذلاله إلى حد التألُّه عليه؟ وليس لهذا السؤال إلا جواب واحد، إنه القعود والتخلف عن الواجب، قعود الشعوب عن الهبوب، وتخلف الكبار عن الإنكار.

إن العصا التي يسوق الدكتاتور بها الشعوب هي الصمت والسلبية، الصمت من النخبة التي يُفترض أن تقود المجتمع نحو التحرر، والسلبية من القاعدة العريضة من الناس الذين لا يلبّون النداء، فأمّا الصامتون فقد قال الله في أمثالهم {فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا ‌بَقِيَّةٍ ‌يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَاّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ}، فلولا صمتهم ما اتبع الذين ظلموا ما أُترفوا فيه من أقوات العباد، ولا أجرموا في حقهم ولا أسرفوا في الفساد والإفساد، وأمّا الآخرون السلبيون فقد قال الله تعالى في أشباههم {فَاسْتَخَفَّ ‌قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ}، ويبدو من سياق الآية أن فسقهم كان علّة لطاعتهم للطاغية وخضوعهم له، ولعلَّ الفسق هنا تمثَّل قبل كل شيء في الأنانية والأثرة والانطواء على الذات، وفي ضعف النخوة وتهافت المروءة وهزال الدوافع الحاملة على النجدة، وفي التقصير الكبير اتجاه واجب خطير فرضه الله على المؤمنين، هو واجب التعاون على البر والخير والتعاضد لدفع العدوان والشر، قال الله تعالى {وَتَعاوَنُوا ‌عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ}، والقانون هو {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ ‌حَتَّى ‌يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.


‌فاعتبِروا ‌يا ‌أولي ‌الأبصار

لم يخطر ببال الطاغية يومًا أنه سيسقط وأن نظامه سينهار وأن حصونه ستتخلى عنه وتخذله، ولم يتصور الشعب يومًا أنه سيخرج منها هاربًا إلى منفاه الذي يقضي فيه بقية عمره سجين بؤسه وحبيس يأسه، وكأن الطرفين لم يعلما بما وقع في العهد الأول وحكاه القرآن عن يهود بني النضير الذين تحصنوا بقلاعهم وامتنعوا بأسوارهم، قال الله تعالى {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ‌فَاعْتَبِرُوا ‌يا ‌أُولِي ‌الْأَبْصارِ}، والاعتبار هو القياس، قياس اللاحق على السابق، فهل يتعظ المستبدون ومن يدعمهم من أهل الإجرام بما جرى لأسلافهم؟ وهل يعتبر المسلمون اليوم بما وقع بالأمس؟


من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر

إذا كانت سوريا قد تحررت بجهاد شعبها ونضاله، فإنها اليوم تدخل ميدانًا أخطر لتجاهد الجهاد الأكبر، جهاد القوى المتآمرة التي تريد أن تغتال ثورة الشعب السوري، القوى الإقليمية والدولية التي تعقد المؤتمرات لتدبير المؤامرات، وتنصب “العقبة!” الكؤود في طريق التجديد، وإن سوريا بثورتها لقادرة على إفشال كل هذه المؤامرات.

على الشعب السوري أن يلتف حول ثورته، وأن يصر على الاستقلال، وأن يرفض الإملاءات، وأن يعلن بأعلى صوته أن سوريا للسوريين، وأن الشعب الثوري -وفي القلب منه الثورة ورجالها- هو وحده صاحب الحق في تقرير مصيره ووضع خارطة الطريق لإرساء دعائم حكمه، ولكي يتحقق ذلك لا بدَّ من الوحدة، وعدم الإصغاء إلى الفتنة، ولا بدَّ من إلقاء “الطلقاء” خلف ظهر المسيرة، ومعهم الفرقاء الذين يريدونها محاصصة ويبغونها “قسمة ضيزى”، ولا بدَّ للثورة أن تعلم أن جهادها السياسي القادم أشد من جهادها العسكري الآنف، والله المستعان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق