أحجار الشتاء.. أبواب الشرق الموصدة
يسقط الأسد وفي عنقه آلاف المهجرين والمغيبين، ويفرُّ كسابقه بن علي بعد أكثر من عقد على انطلاق الربيع العربي إلى حليفه الروسي، في لحظة تاريخية مفعمة بذكريات تراجيدية عن شعب عانى ويلات التعذيب والبراميل المتفجّرة.
يرحل الأسد كما لو كانت بداية تساقط أحجار الدومينو التي رفضت التنحي عن عرشها، أو تلك التي انقلبت على إرادة شعوبها، تسومهم القهر والخذلان؛ فالشرق برمته على صفيح ساخن، تقوده الصهيونية في حرب إبادة مستميتة ضد إرادة شعبية لتحرير أرض فلسطين، تلك الجغرافيا التي طوّقتها "أنظمة" تحمي أجواء ومرابض المستوطنين، وتقطع عن الفلسطيني أدنى تضامن إنساني.
ليست سوريا استثناء في سجل الربيع العربي وانتفاضات شعوبه، لكنها أيقونة الشرق وهو يرابط لإزاحة أعتى الأنظمة وحشية وظلمة في تاريخه، وما سوريا الأسد إلا صفحة موجعة في ذاكرة الشرق وهو يجاهد لاستعادة ريادته في التخلص من الاستعمار بشتى أشكاله الوظيفية والمباشرة
ومثلما أُقفلت أبواب سوريا في وجه الحرية والعدالة الانتقالية، أُغلقت أبواب كثيرة في وطننا العربي الحالم بأدنى مستويات العيش الإنساني، إذ لم تعد الديمقراطية التحدي الرئيسي لأمة تلاحقت عليها المؤامرات الغربية والخيانات الداخلية، بقدر ما استدعت الأصوات المقهورة "الحق في التغيير"، كطريق أوّل لتحرير الشرق من أعتى أدوات الاستعمار الغربي ووكلائه.
الشرق المستعصي على الخضوع
تمثل اللحظة التاريخية لأمة ما مرحلة صعبة في ذاكرتها الاجتماعية، إذ إنها تحمل في طياتها صور الماضي المسجون في الخيبات والمؤامرات، وهواجس المستقبل المرهون بقدرة الفاعلين على تحقيق آمالهم في الحرية والعدالة الإنسانية.
فاللحظة التاريخية ليست البداية في عمل ثوري تقوده حناجر المنتفضين أو تسرده حكايات الميادين، ولا هي مجرد تضحيات عابرة تسوقها بنادق الثوار نحو قصر الطاغية، بل استفاقة ذاتية من وهم الماضي القابع في سراديب الوطنية الهشة والمجتمعات المتضخمة والهويات العابرة.
إنّها لحظة تتجاوز الارتباط الاجتماعي والواقع الجغرافي المتأزم، ومن نظر إليها على أنّها ساعة من سلسلة ثورية ضد الآخر بعينه، كونه طاغية قطع الطريق على طموحات الشعب في التغيير والحق في الحياة، فقد ضيق واسعًا، ولم يستطع الخروج من علاقة الاحتواء والأزمة التي فرضتها البورجوازية الحاكمة تحت دعاية الدولة الوطنية، وتشدد الخناق على الأسئلة المهمة لمآلات الثورة، وما تمثله رمزية الانسياق خلف قيادتها وفصائلها، من دون تقديم مراجعات جدية للفعل الثوري وتبعات اللحظة التاريخيَّة.
فالربيع العربي في بداياته رسم خطًا واضحًا لنهوض الأمة، مرهونًا بإزاحة ما اعتبرته قوى التغيير أبوابًا موصدة في وجه طموحات الأمة، إذ عززت خطابات التخويف من "سقوط الدولة في الفوضى الخلاقة"، والتهاوي نحو قاع مرهون لأنظمة مخابراتية، قد تجلى في صور سجن صيدنايا ومآسيه الملغية لأيّ التزام أخلاقي وسياسي، ليوضح بكل جلاء أنّ الذين سعوا للتعذيب والتهجير والقتل الممنهج، لم يكونوا سوى نازيين في ثوب شرقي يرفع شعار استعداء الغرب، فلا كانت دولة ذات سيادة تحفظ لشعبها كرامته وحريته، ولا اسطاعت البورجوازية الحاكمة أن تتصالح مع تاريخ منطقتها وحاضرها المتأزم ببقايا الاستعمار.
ليست سوريا استثناء في سجل الربيع العربي وانتفاضات شعوبه، لكنها أيقونة الشرق وهو يرابط لإزاحة أعتى الأنظمة وحشية وظلمة في تاريخه، وما سوريا الأسد إلا صفحة موجعة في ذاكرة الشرق وهو يجاهد لاستعادة ريادته في التخلص من الاستعمار بشتى أشكاله الوظيفية والمباشرة.
ومع أنّ الأحداث الأخيرة في سوريا تبعث على الفرح والنشوة بانتصار سوري ضد مجرمي الحرب وسادة البراميل المتفجرة، فهي كذلك إيذان ببداية مرحلة تاريخية للمنطقة بأسرها، ولعلها – حقيقة – الحلقة المترابطة في سلسلة طوفان الأقصى، الذي غيّرت تداعياته أشكال التمثيل السياسي والتحالف العسكري بين الأنظمة في الشرق.
لا يزال الربيع العربي يمثل "انتفاضة ثالثة" في وجدان الأمة، وقد تعلقت راياته على مدى سنوات بانعتاق شعوبنا العربية من قبضة البورجوازية، وبأرض فلسطين تجوب ألوانها الميادين والشوارع
وقفت سوريا بشعبها المهجر والمغيب في سجون الأسد الموصدة سنوات التيه العربي، تناضل لاستعادة وطن يجمع شتات العوائل والمهمشين في بقاع الأرض، وهي تفتح اليوم سجونها المملوءة بأسماء غيبتها آلة القهر والخذلان العربي والدولي، في صورة لم تكتمل فصول تراجيديتها بعد، ولم تسرد مآسيها المخبأة في زنازين الأنظمة المتبقية.
ففي اللحظة التي دخل فيها الثوار العاصمة السورية دمشق، وفتحت فيها السجون والزنازين، أُطلقت صفارات الإنذار في الشرق معلنة بداية مرحلة ربيع آخر مثقل بمشاريع التقسيم وحروب الإبادة، لن تسكت معه البنادق ولن تخمد معه نيران التغيير، إلا إذا أسقطت اتفاقيات التطبيع؛ فالتاريخ قد سجل هروب بن علي وفرار الأسد وإعادة إنتاج الدكتاتوريات العربية، لكنّه احتفى بالبوعزيزي والسّاروت ومحمد مرسي كأيقونات لن تخمد سيرتها ما لم يتنفس الشرق الحرية، وتقرع معه أبواب العدالة الانتقاليّة.
شتاء دافئ
تقف الأنظمة الوظيفية بعد سقوط مملكة الأسد على قدم واحدة، كما لو أنّ التالي مرهون بالإشارة إليه باسمه، وهو في الحقيقة معلوم هوان حكمه وهشاشة عرشه، وبدل السعي لتجنب شعوبه تبعات التغيير العنيف، يستجدي بالمستعمر لينقذ ما تبقى في سبيل الحفاظ على أمن المحتل، إلا أنّ عقدًا من القتل والتهجير لم يأذن باستباحة الأرض والعرض إلا من أولئك الذين اختاروا أن ينحازوا للغرب ويغلقوا أبواب الانتقال السلمي.
واليوم، كما الأمس الموجع بفقد البوعزيزي والسّاروت ومحمد مرسي والآلاف من المدنيين، يشهد الشرق شتاء دافئًا بفرحة السوريين، وزوال سلطة راهنت على الحماية الخارجية، وسقوط نظام ترك عاهات تاريخية وآهات تنادي بمحاكماته.
لا يزال الربيع العربي يمثل "انتفاضة ثالثة" في وجدان الأمة، وقد تعلقت راياته على مدى سنوات بانعتاق شعوبنا العربية من قبضة البورجوازية، وبأرض فلسطين تجوب ألوانها الميادين والشوارع.
لكن مع التغيرات الطارئة، واستغلال إسرائيل الظروف الراهنة لتوسيع رقعتها الجغرافية، نقترب أكثر من الدوافع والأسباب الحقيقية لسقوط الدولة بدل الأنظمة في دوامة الفوضى والعنف، إذ إنّ العقلية الأمنية والحلول الإقصائية تمثل الأبواب التي تكسرها الثورة، لتتخلى عن صورتها وتماثيلها في الميادين تجثو فوقها الملايين المنتفضة.
فالنظام الأمني لطالما لم يكتفِ بالسجن والتغييب فحسب، بل أسس لمنظومة الخوف والقهر، لتكون نهايته في صورة مخزية وكاشفة هوان الدولة الأمنية، فالحرية والعدالة بقدر الألم والمعاناة اللذين يدفعان لطلبهما، إلا أنّ ثمارهما لن تكون إلا لجيل قام يقارع ظلم المستعمر ووكلائه، من معسكرات الخيام إلى قصور وجنات الشام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق