عن رئيسنا الذي "ماتعاصتش" يديه بدمائنا
هكذا قالها بالنص: "حاجتين أنا ماعملتهمش... إيدي لا اتعاصت دم حد، ولا إيدي خدت مال حد"؛ وذلك في سياق سقوط طاغية الشام بشّار الأسد، حيث تحسّس كلّ الطغاة رؤوسهم، وعليها بطحة المصير الذي لا مفرّ منه بعد كلّ تلك الدماء والظلمات والسرقات. وهكذا، كما تخشى الشعوب نوائب بعضها، وتخاف مصايد جوارها، وتحسب حساب اليوم الذي تتبدّل فيه أحوالها، كذلك الطغاة، تلعب بهم قلوبهم أكثر وأكثر، وهي بين يدي الله، يقلّبها في الرعب والتخبّط، والجرأة والندم، ثم إنكار أنّ ذلك كلّه يحدث، ثم إنكار أنّ ما يخشاه سوف يحدث لا محالة، وأنه مُدرَك مُدرَك، فإلى أين سيفرّ في ملك الله؟ والملك كلّه لله؟
خرج في زينته، يجلس على كرسيه المذّهب، من الأثاث الكلاسيكي في قصور مصر، وحوله جوقة من مستمعيه الذين يتصدّرون للناس في الشاشات، يخبرهم، ويحدّثهم كأنّه حديث النفس، بشكلٍ عفوي، لكنه مرتّب جيّدًا، وليس عفويًا ولا يحزنون، يُوصل من خلاله تلك "الفضفضة في قعدة صفا"، أن إيده متعاصتش دم، مع أنّ أحدًا لم يذكره بشيءٍ هذه الأيّام، وهو الغائص في الدم حتى أذنيه!
وفي مصر نستخدم الفعل "يتعاص" في الشيء المقرف الذي يلحق به بعد ورطة ما، فيتعاص "شيئًا مقززًا" رغم اجتهاده ألا تلحق به تلك الآثار الشنيعة، فكأنه بتعبيره الذي خرج من فمه رغم أنفه، يدين نفسه، بتلك الدماء من آلاف الشهداء التي "اتعاصت" بها يداه وقدماه ورقبته ورأسه، وبيته وقصوره وكلّ بقعة يطؤها!
كما تخشى الشعوب نوائب بعضها، وتخاف مصايد جوارها، وتحسب حساب اليوم الذي تتبدّل فيه أحوالها، كذلك الطغاة، تلعب بهم قلوبهم أكثر وأكثر
يتبرّأ من كلّ تلك الدماء الزاكية التي أزهقها، وأنا وحدي كم أزهق من دمي مرّات ومرّات، بينها ما كان يأخذني إلى شفا الموت ثم أعود بأعجوبة، ومنها ما اخترق جمجمتي واستقرّ ما بين رأسي ومخي، ومنها ما قتل ابن عمومتي بين يديّ، غاب عن عيني لحظةً ثم عاد شهيدًا يحمله الناس، برصاصةٍ في قلبه، وقد كان قبلها يبلغني الشهادة، كأنّه يودّعني الوداع الأخير، ومنها ما اخترق جسم خالي فاستأصل منه قطعًا من سبعة أعضاء، ومنها ما رأيته يسيل من أجسام المعتقلين بعد وجبات التعذيب المُميتة، والقيح يرافقه، ومنها ما رأيته بعيني على فرشةٍ مهينة ومُهانة أنام فوقها وهي أشدّ اتساخًا من الأرض القذرة، لأنّها عبارة عن خليطٍ من دم وبول وعرق لمعتقلٍ سابق مات من التعذيب في المكان ذاته، ومنها ما رأيته يسيل على صدري ساخنًا يغلي، من شهيد اخترقت رصاصة الجرينوف (التي تستخدمها الجيوش ضدّ المصفحات في الحروب) رأسه الصغيرة، فتفتّت على مرمى بصري، ثم سقط ثقيلًا على ذراعيّ، ومنها ما سال من سيّدة كانت تروح وتجيء مكبرةً مهللةً بخمارها، حتى وجدتها وقد أُرديت على الأرض، وما إن رفعت الخمار عن جبهتها بعد سقوطه، حتى وجدتُ هوةً كبيرةً في جبينها تحدّق إليّ كما أحدّق إليها!
يا رجل، يداه "متعاصتش" من دمنا لدرجة عجزي عن تفسير أني أعيش لشهور طويلة بعد مذبحة رابعة بصبغة حمراء على بطني وصدري، حتى زالت مع الوقت ببطءٍ ثقيل، ووجدتها وفقدتها وأنا لا أعرف ما هي، لكني متأكد من علاقتها بالدماء التي هو بريء منها! كلّ تلك المشاهد لا تساوي واحدًا من المليون ممّا رأيته أنا وحدي بعيني وحدي، فلا أتخيّل كم رأت الملايين الأخرى من دماء في كلّ مكان، لم يكن فيها علامة واحدة حاضرة في كلّ المشاهد سوى وجهه، عينيه، لا مجرّد يديه وقدميه!
يكاد المريب يقول خذوني، وسيؤخذ عمّا قريب، وسيعرف الناس كم سفك من دم، وسيعلم هو كم سيدفع من ثمن، وإن تناسى الثمن الباهظ العظيم الذي دفّعنا إياه، وما مصير بشّار من المستأسدين ببعيد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق