مصارع الطغاة وتحرير المستضعفين
إن يوم الثامن من ديسمبر/ كانون الأول، الذي شهد انتصار الثورة السورية، وزوال النظام الأسدي المجرم الذي قتل وشرّد الملايين من شعبه، لهو آية من آيات الله في مصارع الطغاة والمستبدين وتحرير المستضعفين. والفرح بهذا اليوم واجب إنساني وشرعي وفطري؛ قال تعالى: ﴿فقُطِع دابِرُ القومِ الّذِين ظلمُوا والحمدُ لِلّهِ ربِّ العالمِين﴾ [الأنعام: 45].
هلاك الطغاة والظالمين يستوجب حمد الله وشكره، والفرح بنعمته وفضله، نفرح لأن الله تعالى منّ على المستضعفين بالحرية والكرامة؛ قال تعالى: ﴿ونُرِيدُ أن نمُنّ على الذِين استُضعِفُوا فِي الأرضِ ونجعلهُم أئِمّةً ونجعلهُمُ الوارِثِين﴾ [القصص: 5].
إن أزمة أمتنا اليوم ومصائبها كلها ناتجة عن الاستبداد السياسي.. تخريب الأوطان، وتدمير الإنسان، ونهب الثروات، والتحالف مع الأعداء، ومأسسة الفساد، كل ذلك أُسُّه ورأسه الاستبداد والطغيان
فالحمد لله الذي منّ على المستضعفين بالتحرير، وحكم على الطغاة والظلمة بالصغار والذلة، ولا يصح أبدًا أن يُختلف حول ما يجب الاتفاق عليه، أو التعامل مع الحدث العظيم والفتح المبين بسلبية وتشاؤم، وظن أو تصور أن ما هو قادم على سوريا وأهلها يمكن أن يكون أسوأ مما مضى، فهل هناك ظلم وفساد وإجرام أعظم وأقبح مما رأينا؟
إن مشهدًا واحدًا من مشاهد القتل والتعذيب والظلم كفيل بالثورة الأبدية لإنهائه.. شاهدتُ سجينًا أُفرج عنه، فقد الذاكرة من هول التعذيب، حتى إنهم سألوه عن اسمه فلم يعرفه! إن الإنسان في عُرف هذه الأنظمة لا شيء، تراه نفايات تكبس وتطحن، وتُذاب جثته، لا يستحق التكريم حيًا بالحياة الكريمة، أو ميتًا بالدفن والإقبار في الأرض.. وهل نسينا البراميل المتفجرة؟!
ولا شيء يقشعر له بدني ويسيل معه دمعي كمشاهد وقصص اغتصاب الحرائر العفيفات؛ فهذه امرأة حرة عفيفة دخلت السجن وعمرها 19 سنة، ثم خرجت وعمرها 32 سنة، ومعها ثلاثة أطفال لا تعرف آباءهم، اغتصبها المجرمون القتلة.. وهذه امرأة تُغتصب أمام زوجها فيموت بأزمة قلبية حسرة وكمدًا، وما زالت فصول الإجرام والدموية تتوالى وتُكشف.
لقد أفسدت تلك المواقف والمشاهد الدموية المؤلمة عليّ فرحة الخلاص من الطاغية، وتحرير عاصمة عربية كبرى من الاستبداد والطغيان.. أبعدَ هذه المآسي والجرائم يمكن أن يُختلف على أنّ زوال هذا النظام المجرم هو خير ورحمة للناس أجمعين؟!
وهذه جملة من الرسائل والعبر المهمة من الحدث:
مقاومة الطغيان وتحرير المستضعفين رسالة الأنبياء والمصلحين:
إن أزمة أمتنا اليوم ومصائبها كلها ناتجة عن الاستبداد السياسي.. تخريب الأوطان، وتدمير الإنسان، ونهب الثروات، وخيانة الأمة، والتحالف مع الأعداء، ومأسسة الفساد، كل ذلك أُسُّه ورأسه الاستبداد والطغيان.
ولقد كانت رسالة الأنبياء جميعًا مقاومة الطغيان والاستبداد، وتحرير المستضعفين، خاصة في قصة سيدنا موسى، عليه السلام، أكثر قصة لنبي تكررت في القرآن الكريم على الإطلاق؛ إذ يركز الخطاب القرآني على قضية الطغيان والتحرير؛ قال تعالى: ﴿اذهب إِلى فِرعون إِنّهُ طغى﴾ [النازعات: 17]؛ وقال تعالى: ﴿اذهبا إِلى فِرعون إِنّهُ طغى﴾ [طه: 43].
فالثمن الكبير الذي دفعه الشعب السوري لمقاومة الطاغية وتحرير المستضعفين، هو سير على نهج الأنبياء والمرسلين؛ وعاقبته خير للأمة، في الدنيا تحريرًا وانعتاقًا من ربقة الاستبداد والطغيان، وفي الآخرة جنةً ونعيمًا وملكًا كبيرًا إن شاء الله.
والقرآن الكريم يعتبر نعمة الحرية حياةً، وذل العبودية موتًا؛
قال تعالى: ﴿وما كان لِمُؤمِنٍ أن يقتُل مُؤمِنًا إِلّا خطأً ومن قتل مُؤمِنًا خطأً فتحرِيرُ رقبةٍ مُؤمِنةٍ﴾ [النساء: 92]. والعلاقة بين القتل الخطأ وتحرير الرقبة هنا؛ أن من قتل نفسًا خطأ عليه أن يعوضها بإحياء نفس أخرى بالعتق، فيخرجها من ذل العبودية إلى نعيم الحرية، فالحرية حياة، والعبودية موت.
جاء انتصار الثورة السورية بعد سنوات من الصبر والتضحية والتهجير، ليعيد الأمل في الإصلاح والتغيير، ويكون التأكيد على أن سنن الله وقوانينه في الكون جارية لا تستثني أحدًا
الدنيا ليست دار جزاء، والعقوبة التامة للطغاة والمجرمين في الآخرة:
لقد سيطر على كثير من المسلمين في السنوات الماضية اليأس والإحباط، وسقط بعض الشباب المسلم في ظلمات الإلحاد والشك في وجود الله وعدله؛ لأن أمد الظلم طال، وتمادى المجرم في إجرامه والطاغية في طغيانه، والحقيقة التي يجب الإيمان بها هي أن الدنيا ليست دار الجزاء والفصل؛ قال ابن تيمية (رحمه الله): "الدنيا ليست دار الجزاء التام، وإنما فيها من الجزاء ما تحصل به الحكمة والمصلحة".
فالله تعالى يُعجِّل ببعض العقوبات الظاهرة للمجرمين في الدنيا لحِكمٍ وعبر حتى يوقن المسلم في موعود الله، ولكن الجزاء التام يوم القيامة؛ قال تعالى: ﴿إِنّ ربّك هُو يفصِلُ بينهُم يوم القِيامةِ فِيما كانُوا فِيهِ يختلِفُون﴾ [السجدة: 25].
وما رأيناه هو تعجيل لقدر ضئيل جدًا من عقوبة الدنيا؛ قال صلى الله عليه وسلم: "ما من ذنب أجدر أن يعجِّل اللهُ تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدّخر له في الآخرة، مثل البغي وقطيعة الرحمِ" [أبو داود بسند صحيح].
سنن الله على الخلق جارية، فثقوا بالله وانصروه ينصركم، ولا تفقدوا الأمل:
جاء انتصار الثورة السورية بعد سنوات من الصبر والتضحية والتهجير، ليعيد الأمل في الإصلاح والتغيير، ويكون التأكيد على أن سنن الله وقوانينه في الكون جارية لا تستثني أحدًا، وصدق الله العظيم القائل: ﴿وفِرعون ذِي الأوتادِ الّذِين طغوا فِي البِلادِ فأكثرُوا فِيها الفساد فصبّ عليهِم ربُّك سوط عذابٍ إِنّ ربّك لبِالمِرصادِ﴾ [الفجر: 10-14].
وليت بقية الطغاة يأخذون العبرة، ويتعظون مما وقع لغيرهم قبل فوات الأوان؛ قال تعالى عن عقوبة فرعون على طغيانه وإجرامه: ﴿فأخذهُ اللّهُ نكال الآخِرةِ والأُولى إِنّ فِي ذلِك لعِبرةً لِمن يخشى﴾ [النازعات: 25-26]، وليت الشعوب التي بدأت مسيرة التحرير والتحرر تتعلم من الشعب السوري الاستمرار في مقاومة الطغيان، وأن عاقبة أمرها أبدًا إلى خير إن شاء الله.
واجب الوقت على أهلنا وإخواننا في سوريا الحبيبة:
يا أهلنا وإخوتنا في سوريا الأبية الفرحة الحبيبة.. هنيئًا لكم ما أنجزتموه، ولكن ما ينتظركم من تحديات ومؤامرات على ثورتكم وتضحياتكم كبير جدًا، يتطلب منكم الاتحاد والتراص والتكتل، وتغليب مصلحة الوطن، وتجاوز الأهواء والحسابات الجزئية؛ قال تعالى: ﴿ولا تنازعُوا فتفشلُوا وتذهب رِيحُكُم ﴾ [الأنفال: 46].
عليكم بالوعي قبل السعي، والوعي مطلوب من الجميع في الداخل والخارج، الوعي بتاريخ الثورات وإجهاضها، والسنن وطبائع الشعوب، وطبائع المراحل الانتقالية، عليكم بالصبر وطول النفس، والتعاون والتناصر والتآخي، وتقديم النموذج الحي لقيمة الحرية والكرامة.
وعلينا جميعًا ألا ننشغل في غمرة الفرح بسوريا ونصرها عن غزة ومحنتها، فجرحنا واحد وهمنا واحد، وكلنا أمل أن يكون تحرير سوريا هو مقدمة التحرير لبيت المقدس وبقية العواصم العربية، وما ذلك على الله بعزيز.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق