الثلاثاء، 24 ديسمبر 2024

أحجار الشتاء.. أبواب الشرق الموصدة

أحجار الشتاء.. أبواب الشرق الموصدة



 يسقط الأسد وفي عنقه آلاف المهجرين والمغيبين، ويفرُّ كسابقه بن علي بعد أكثر من عقد على انطلاق الربيع العربي إلى حليفه الروسي، في لحظة تاريخية مفعمة بذكريات تراجيدية عن شعب عانى ويلات التعذيب والبراميل المتفجّرة.

يرحل الأسد كما لو كانت بداية تساقط أحجار الدومينو التي رفضت التنحي عن عرشها، أو تلك التي انقلبت على إرادة شعوبها، تسومهم القهر والخذلان؛ فالشرق برمته على صفيح ساخن، تقوده الصهيونية في حرب إبادة مستميتة ضد إرادة شعبية لتحرير أرض فلسطين، تلك الجغرافيا التي طوّقتها "أنظمة" تحمي أجواء ومرابض المستوطنين، وتقطع عن الفلسطيني أدنى تضامن إنساني.

ليست سوريا استثناء في سجل الربيع العربي وانتفاضات شعوبه، لكنها أيقونة الشرق وهو يرابط لإزاحة أعتى الأنظمة وحشية وظلمة في تاريخه، وما سوريا الأسد إلا صفحة موجعة في ذاكرة الشرق وهو يجاهد لاستعادة ريادته في التخلص من الاستعمار بشتى أشكاله الوظيفية والمباشرة

ومثلما أُقفلت أبواب سوريا في وجه الحرية والعدالة الانتقالية، أُغلقت أبواب كثيرة في وطننا العربي الحالم بأدنى مستويات العيش الإنساني، إذ لم تعد الديمقراطية التحدي الرئيسي لأمة تلاحقت عليها المؤامرات الغربية والخيانات الداخلية، بقدر ما استدعت الأصوات المقهورة "الحق في التغيير"، كطريق أوّل لتحرير الشرق من أعتى أدوات الاستعمار الغربي ووكلائه.

الشرق المستعصي على الخضوع

تمثل اللحظة التاريخية لأمة ما مرحلة صعبة في ذاكرتها الاجتماعية، إذ إنها تحمل في طياتها صور الماضي المسجون في الخيبات والمؤامرات، وهواجس المستقبل المرهون بقدرة الفاعلين على تحقيق آمالهم في الحرية والعدالة الإنسانية.

إعلان

فاللحظة التاريخية ليست البداية في عمل ثوري تقوده حناجر المنتفضين أو تسرده حكايات الميادين، ولا هي مجرد تضحيات عابرة تسوقها بنادق الثوار نحو قصر الطاغية، بل استفاقة ذاتية من وهم الماضي القابع في سراديب الوطنية الهشة والمجتمعات المتضخمة والهويات العابرة.

إنّها لحظة تتجاوز الارتباط الاجتماعي والواقع الجغرافي المتأزم، ومن نظر إليها على أنّها ساعة من سلسلة ثورية ضد الآخر بعينه، كونه طاغية قطع الطريق على طموحات الشعب في التغيير والحق في الحياة، فقد ضيق واسعًا، ولم يستطع الخروج من علاقة الاحتواء والأزمة التي فرضتها البورجوازية الحاكمة تحت دعاية الدولة الوطنية، وتشدد الخناق على الأسئلة المهمة لمآلات الثورة، وما تمثله رمزية الانسياق خلف قيادتها وفصائلها، من دون تقديم مراجعات جدية للفعل الثوري وتبعات اللحظة التاريخيَّة.

فالربيع العربي في بداياته رسم خطًا واضحًا لنهوض الأمة، مرهونًا بإزاحة ما اعتبرته قوى التغيير أبوابًا موصدة في وجه طموحات الأمة، إذ عززت خطابات التخويف من "سقوط الدولة في الفوضى الخلاقة"، والتهاوي نحو قاع مرهون لأنظمة مخابراتية، قد تجلى في صور سجن صيدنايا ومآسيه الملغية لأيّ التزام أخلاقي وسياسي، ليوضح بكل جلاء أنّ الذين سعوا للتعذيب والتهجير والقتل الممنهج، لم يكونوا سوى نازيين في ثوب شرقي يرفع شعار استعداء الغرب، فلا كانت دولة ذات سيادة تحفظ لشعبها كرامته وحريته، ولا اسطاعت البورجوازية الحاكمة أن تتصالح مع تاريخ منطقتها وحاضرها المتأزم ببقايا الاستعمار.

ليست سوريا استثناء في سجل الربيع العربي وانتفاضات شعوبه، لكنها أيقونة الشرق وهو يرابط لإزاحة أعتى الأنظمة وحشية وظلمة في تاريخه، وما سوريا الأسد إلا صفحة موجعة في ذاكرة الشرق وهو يجاهد لاستعادة ريادته في التخلص من الاستعمار بشتى أشكاله الوظيفية والمباشرة.

إعلان

ومع أنّ الأحداث الأخيرة في سوريا تبعث على الفرح والنشوة بانتصار سوري ضد مجرمي الحرب وسادة البراميل المتفجرة، فهي كذلك إيذان ببداية مرحلة تاريخية للمنطقة بأسرها، ولعلها – حقيقة – الحلقة المترابطة في سلسلة طوفان الأقصى، الذي غيّرت تداعياته أشكال التمثيل السياسي والتحالف العسكري بين الأنظمة في الشرق.

لا يزال الربيع العربي يمثل "انتفاضة ثالثة" في وجدان الأمة، وقد تعلقت راياته على مدى سنوات بانعتاق شعوبنا العربية من قبضة البورجوازية، وبأرض فلسطين تجوب ألوانها الميادين والشوارع

وقفت سوريا بشعبها المهجر والمغيب في سجون الأسد الموصدة سنوات التيه العربي، تناضل لاستعادة وطن يجمع شتات العوائل والمهمشين في بقاع الأرض، وهي تفتح اليوم سجونها المملوءة بأسماء غيبتها آلة القهر والخذلان العربي والدولي، في صورة لم تكتمل فصول تراجيديتها بعد، ولم تسرد مآسيها المخبأة في زنازين الأنظمة المتبقية.

ففي اللحظة التي دخل فيها الثوار العاصمة السورية دمشق، وفتحت فيها السجون والزنازين، أُطلقت صفارات الإنذار في الشرق معلنة بداية مرحلة ربيع آخر مثقل بمشاريع التقسيم وحروب الإبادة، لن تسكت معه البنادق ولن تخمد معه نيران التغيير، إلا إذا أسقطت اتفاقيات التطبيع؛ فالتاريخ قد سجل هروب بن علي وفرار الأسد وإعادة إنتاج الدكتاتوريات العربية، لكنّه احتفى بالبوعزيزي والسّاروت ومحمد مرسي كأيقونات لن تخمد سيرتها ما لم يتنفس الشرق الحرية، وتقرع معه أبواب العدالة الانتقاليّة.

شتاء دافئ

تقف الأنظمة الوظيفية بعد سقوط مملكة الأسد على قدم واحدة، كما لو أنّ التالي مرهون بالإشارة إليه باسمه، وهو في الحقيقة معلوم هوان حكمه وهشاشة عرشه، وبدل السعي لتجنب شعوبه تبعات التغيير العنيف، يستجدي بالمستعمر لينقذ ما تبقى في سبيل الحفاظ على أمن المحتل، إلا أنّ عقدًا من القتل والتهجير لم يأذن باستباحة الأرض والعرض إلا من أولئك الذين اختاروا أن ينحازوا للغرب ويغلقوا أبواب الانتقال السلمي.

واليوم، كما الأمس الموجع بفقد البوعزيزي والسّاروت ومحمد مرسي والآلاف من المدنيين، يشهد الشرق شتاء دافئًا بفرحة السوريين، وزوال سلطة راهنت على الحماية الخارجية، وسقوط نظام ترك عاهات تاريخية وآهات تنادي بمحاكماته.

إعلان

لا يزال الربيع العربي يمثل "انتفاضة ثالثة" في وجدان الأمة، وقد تعلقت راياته على مدى سنوات بانعتاق شعوبنا العربية من قبضة البورجوازية، وبأرض فلسطين تجوب ألوانها الميادين والشوارع.

لكن مع التغيرات الطارئة، واستغلال إسرائيل الظروف الراهنة لتوسيع رقعتها الجغرافية، نقترب أكثر من الدوافع والأسباب الحقيقية لسقوط الدولة بدل الأنظمة في دوامة الفوضى والعنف، إذ إنّ العقلية الأمنية والحلول الإقصائية تمثل الأبواب التي تكسرها الثورة، لتتخلى عن صورتها وتماثيلها في الميادين تجثو فوقها الملايين المنتفضة.

فالنظام الأمني لطالما لم يكتفِ بالسجن والتغييب فحسب، بل أسس لمنظومة الخوف والقهر، لتكون نهايته في صورة مخزية وكاشفة هوان الدولة الأمنية، فالحرية والعدالة بقدر الألم والمعاناة اللذين يدفعان لطلبهما، إلا أنّ ثمارهما لن تكون إلا لجيل قام يقارع ظلم المستعمر ووكلائه، من معسكرات الخيام إلى قصور وجنات الشام.



سهام الشمال وتأبين الجامعة العربية


مصارع الطغاة وتحرير المستضعفين

 

مصارع الطغاة وتحرير المستضعفين

أستاذ جامعى متخصص في أصول الفقه، عميد الكلية الأوروبية للعلوم الإنسانية، ورئيس لجنة الفتوى بألمانيا


إن يوم الثامن من ديسمبر/ كانون الأول، الذي شهد انتصار الثورة السورية، وزوال النظام الأسدي المجرم الذي قتل وشرّد الملايين من شعبه، لهو آية من آيات الله في مصارع الطغاة والمستبدين وتحرير المستضعفين. والفرح بهذا اليوم واجب إنساني وشرعي وفطري؛ قال تعالى: ﴿فقُطِع ‌دابِرُ القومِ الّذِين ظلمُوا والحمدُ لِلّهِ ربِّ العالمِين﴾ [الأنعام: 45].

هلاك الطغاة والظالمين يستوجب حمد الله وشكره، والفرح بنعمته وفضله، نفرح لأن الله تعالى منّ على المستضعفين بالحرية والكرامة؛ قال تعالى: ﴿‌ونُرِيدُ أن نمُنّ على الذِين استُضعِفُوا فِي الأرضِ ونجعلهُم أئِمّةً ونجعلهُمُ الوارِثِين﴾ [القصص: 5].

إن أزمة أمتنا اليوم ومصائبها كلها ناتجة عن الاستبداد السياسي.. تخريب الأوطان، وتدمير الإنسان، ونهب الثروات، والتحالف مع الأعداء، ومأسسة الفساد، كل ذلك أُسُّه ورأسه الاستبداد والطغيان

فالحمد لله الذي منّ على المستضعفين بالتحرير، وحكم على الطغاة والظلمة بالصغار والذلة، ولا يصح أبدًا أن يُختلف حول ما يجب الاتفاق عليه، أو التعامل مع الحدث العظيم والفتح المبين بسلبية وتشاؤم، وظن أو تصور أن ما هو قادم على سوريا وأهلها يمكن أن يكون أسوأ مما مضى، فهل هناك ظلم وفساد وإجرام أعظم وأقبح مما رأينا؟

إن مشهدًا واحدًا من مشاهد القتل والتعذيب والظلم كفيل بالثورة الأبدية لإنهائه.. شاهدتُ سجينًا أُفرج عنه، فقد الذاكرة من هول التعذيب، حتى إنهم سألوه عن اسمه فلم يعرفه! إن الإنسان في عُرف هذه الأنظمة لا شيء، تراه نفايات تكبس وتطحن، وتُذاب جثته، لا يستحق التكريم حيًا بالحياة الكريمة، أو ميتًا بالدفن والإقبار في الأرض.. وهل نسينا البراميل المتفجرة؟!

إعلان

ولا شيء يقشعر له بدني ويسيل معه دمعي كمشاهد وقصص اغتصاب الحرائر العفيفات؛ فهذه امرأة حرة عفيفة دخلت السجن وعمرها 19 سنة، ثم خرجت وعمرها 32 سنة، ومعها ثلاثة أطفال لا تعرف آباءهم، اغتصبها المجرمون القتلة.. وهذه امرأة تُغتصب أمام زوجها فيموت بأزمة قلبية حسرة وكمدًا، وما زالت فصول الإجرام والدموية تتوالى وتُكشف.

لقد أفسدت تلك المواقف والمشاهد الدموية المؤلمة عليّ فرحة الخلاص من الطاغية، وتحرير عاصمة عربية كبرى من الاستبداد والطغيان.. أبعدَ هذه المآسي والجرائم يمكن أن يُختلف على أنّ زوال هذا النظام المجرم هو خير ورحمة للناس أجمعين؟!

وهذه جملة من الرسائل والعبر المهمة من الحدث:

مقاومة الطغيان وتحرير المستضعفين رسالة الأنبياء والمصلحين:

إن أزمة أمتنا اليوم ومصائبها كلها ناتجة عن الاستبداد السياسي.. تخريب الأوطان، وتدمير الإنسان، ونهب الثروات، وخيانة الأمة، والتحالف مع الأعداء، ومأسسة الفساد، كل ذلك أُسُّه ورأسه الاستبداد والطغيان.

ولقد كانت رسالة الأنبياء جميعًا مقاومة الطغيان والاستبداد، وتحرير المستضعفين، خاصة في قصة سيدنا موسى، عليه السلام، أكثر قصة لنبي تكررت في القرآن الكريم على الإطلاق؛ إذ يركز الخطاب القرآني على قضية الطغيان والتحرير؛ قال تعالى: ﴿اذهب إِلى فِرعون إِنّهُ ‌طغى﴾ [النازعات: 17]؛ وقال تعالى: ﴿اذهبا إِلى فِرعون إِنّهُ ‌طغى﴾ [طه: 43].

فالثمن الكبير الذي دفعه الشعب السوري لمقاومة الطاغية وتحرير المستضعفين، هو سير على نهج الأنبياء والمرسلين؛ وعاقبته خير للأمة، في الدنيا تحريرًا وانعتاقًا من ربقة الاستبداد والطغيان، وفي الآخرة جنةً ونعيمًا وملكًا كبيرًا إن شاء الله.

والقرآن الكريم يعتبر نعمة الحرية حياةً، وذل العبودية موتًا؛ 

قال تعالى: ﴿وما كان لِمُؤمِنٍ أن يقتُل مُؤمِنًا إِلّا ‌خطأً ومن قتل مُؤمِنًا ‌خطأً فتحرِيرُ رقبةٍ مُؤمِنةٍ﴾ [النساء: 92]. والعلاقة بين القتل الخطأ وتحرير الرقبة هنا؛ أن من قتل نفسًا خطأ عليه أن يعوضها بإحياء نفس أخرى بالعتق، فيخرجها من ذل العبودية إلى نعيم الحرية، فالحرية حياة، والعبودية موت.

جاء انتصار الثورة السورية بعد سنوات من الصبر والتضحية والتهجير، ليعيد الأمل في الإصلاح والتغيير، ويكون التأكيد على أن سنن الله وقوانينه في الكون جارية لا تستثني أحدًا

الدنيا ليست دار جزاء، والعقوبة التامة للطغاة والمجرمين في الآخرة:

إعلان

لقد سيطر على كثير من المسلمين في السنوات الماضية اليأس والإحباط، وسقط بعض الشباب المسلم في ظلمات الإلحاد والشك في وجود الله وعدله؛ لأن أمد الظلم طال، وتمادى المجرم في إجرامه والطاغية في طغيانه، والحقيقة التي يجب الإيمان بها هي أن الدنيا ليست دار الجزاء والفصل؛ قال ابن تيمية (رحمه الله): "الدنيا ليست دار الجزاء التام، وإنما فيها من الجزاء ما تحصل به الحكمة والمصلحة".

فالله تعالى يُعجِّل ببعض العقوبات الظاهرة للمجرمين في الدنيا لحِكمٍ وعبر حتى يوقن المسلم في موعود الله، ولكن الجزاء التام يوم القيامة؛ قال تعالى: ﴿إِنّ ربّك هُو ‌يفصِلُ ‌بينهُم يوم القِيامةِ فِيما كانُوا فِيهِ يختلِفُون﴾ [السجدة: 25].

وما رأيناه هو تعجيل لقدر ضئيل جدًا من عقوبة الدنيا؛ قال صلى الله عليه وسلم: "ما من ذنب أجدر أن يعجِّل اللهُ تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدّخر له في الآخرة، مثل البغي وقطيعة الرحمِ" [أبو داود بسند صحيح].

سنن الله على الخلق جارية، فثقوا بالله وانصروه ينصركم، ولا تفقدوا الأمل:

جاء انتصار الثورة السورية بعد سنوات من الصبر والتضحية والتهجير، ليعيد الأمل في الإصلاح والتغيير، ويكون التأكيد على أن سنن الله وقوانينه في الكون جارية لا تستثني أحدًا، وصدق الله العظيم القائل: ﴿وفِرعون ذِي الأوتادِ الّذِين طغوا فِي البِلادِ فأكثرُوا فِيها الفساد فصبّ عليهِم ربُّك سوط عذابٍ إِنّ ربّك ‌لبِالمِرصادِ﴾ [الفجر: 10-14].

وليت بقية الطغاة يأخذون العبرة، ويتعظون مما وقع لغيرهم قبل فوات الأوان؛ قال تعالى عن عقوبة فرعون على طغيانه وإجرامه: ﴿فأخذهُ اللّهُ ‌نكال الآخِرةِ والأُولى إِنّ فِي ذلِك لعِبرةً لِمن يخشى﴾ [النازعات: 25-26]، وليت الشعوب التي بدأت مسيرة التحرير والتحرر تتعلم من الشعب السوري الاستمرار في مقاومة الطغيان، وأن عاقبة أمرها أبدًا إلى خير إن شاء الله.

واجب الوقت على أهلنا وإخواننا في سوريا الحبيبة:

يا أهلنا وإخوتنا في سوريا الأبية الفرحة الحبيبة.. هنيئًا لكم ما أنجزتموه، ولكن ما ينتظركم من تحديات ومؤامرات على ثورتكم وتضحياتكم كبير جدًا، يتطلب منكم الاتحاد والتراص والتكتل، وتغليب مصلحة الوطن، وتجاوز الأهواء والحسابات الجزئية؛ قال تعالى: ﴿ولا ‌تنازعُوا فتفشلُوا وتذهب رِيحُكُم ﴾ [الأنفال: 46].

إعلان

عليكم بالوعي قبل السعي، والوعي مطلوب من الجميع في الداخل والخارج، الوعي بتاريخ الثورات وإجهاضها، والسنن وطبائع الشعوب، وطبائع المراحل الانتقالية، عليكم بالصبر وطول النفس، والتعاون والتناصر والتآخي، وتقديم النموذج الحي لقيمة الحرية والكرامة.

وعلينا جميعًا ألا ننشغل في غمرة الفرح بسوريا ونصرها عن غزة ومحنتها، فجرحنا واحد وهمنا واحد، وكلنا أمل أن يكون تحرير سوريا هو مقدمة التحرير لبيت المقدس وبقية العواصم العربية، وما ذلك على الله بعزيز.





أحمد الشرع «الجولاني» بين التصنيف الظالم والتوصيف الواجب

 

أحمد الشرع «الجولاني» بين التصنيف الظالم والتوصيف الواجب


مضر أبو الهيجاء




في ظاهرة سلوكية سياسية غير مستغربة على قادة أمريكا، ينتقل شخص الجولاني من المطلوب والمنبوذ والملاحق رقم واحد، إلى سوبر ستار الأول في المنطقة الأكثر سخونة وحساسية في العالم!

لا شك بأن أمريكا لا تبتعد كثيرا عن نموذج حافظ وبشار الأسد، غير أنها نموذج متوحش بحجم القارة، فيما يشكل الأسدين وحشين بحجم الفئران والعقارب السامة.

وبغض النظر عن التصنيف الظالم الذي تستخدمه أمريكا المجرمة والمغرضة كأداة ناجعة ووسيلة قذرة لعضل مشروع أو استخدام آخر، فإن ما يعنينا نحن كمسلمين رساليين هو أن يكون توصيفنا الواجب للمشاريع ومناهجها وقياداتها، عدل وقويم يعكس سوية عقولنا وبصيرة قلوبنا ويحقق مصالح شعوب أمتنا ويمكن لدين الله في الأرض.

ومع كل فجر يوم جديد في سورية الشام، باتت تتوسع الصورة حول أحمد الشرع من حيث تاريخه السابق، وحاضره القائم، ومستقبله الواعد، الأمر الذي يوجب علينا توصيفه بشكل أمين دقيق واعيا وعدلا، وذلك بمعزل وبعيدا عن تصنيف أمريكا المغرضة والمتلاعبة، والتي لا يثق فيها إلا جاهل أو منافق.

وفي هذا السياق يمكن الإشارة الى جوانب رئيسية تتصل بالجولاني أحمد الشرع وتوصيفه:

أولا: التصنيف الأمريكي.

ثانيا: منهج وسلوك القاعدة.

ثالثا: التجربة العمرية والخبرة السياسية.

رابعا: الاستقامة وحب الرئاسة.

أولا: التصنيف الأمريكي المغرض والظالم

من نافلة القول أن أحدا في التاريخ المعاصر لم يقتل كما قتلت أمريكا شعوبا بأكملها وأنهت أعراقا كاملة، واشتهرت بقتل وتعذيب السجناء، واستباحة الأعراض، وقتل وصهر الأطفال، الأمر الذي يؤكد أن تصنيفاتها السياسية ما هي إلا نوع من أنواع العهر السياسي الباحث عن مصالحها الظالمة وعلى حساب شعوب الأرض.

ومن الملاحظ والمشهود اليوم أن أمريكا قد فتحت وشرعت القنوات السياسية أمام أحمد الشرع -بعد الحظر والتصنيف- ليلتقي به الاخوة والأصدقاء والحلفاء والأعداء بلا خوف ولا موانع ولا محاذير!

إن زيارة عميد السياسة العربية -الذي يملك بين يديه ميزان ريختر الذي يقيس به توجهات السياسة الغربية- وليد جنبلاط لأحمد الشرع في قصر الرئاسة بدمشق، والتي أعقبها زيارة وزير خارجية الدولة العازلة، علامة فارقة ومنعرج سياسي حقيقي في العلاقة، ويمكن القول أن التصنيف الأمريكي والحظر قد رفع في واقع الحال دون المقال عن الجولاني، الأمر الذي يجعل اللقاء والتواصل والتعامل مع أحمد الشرع دون محاذير سياسية، طالما لم تقلب له أمريكا ظهر المجن.

ثانيا: منهج وسلوك القاعدة

لعل أبرز ما يعبر عن اختلال منهج وتصور وسلوك تنظيمات القاعدة وأخواتها، هو استباحة دماء المسلمين وعدم قبول الآخر حتى لو كان من المسلمين المجاهدين، ومهما كانت مساحة الخلاف معه ضيقة وفي الفروع دون الأصول!

اذهبوا فأنتم الطلقاء

لقد فاجأت هيئة تحرير الشام وقائدها أحمد الشرع المسلمين وغير المسلمين على حد سواء، وذلك عندما قالت لجميع الخصوم اذهبوا فأنتم الطلقاء، بعد أن كانت ترى في تجربتها بالعراق أن قتل المرتد -بحسب توصيفها الفاسد- أولى من قتل الكافر، فقتلت من المسلمين العاملين والمجاهدين ونخب العلماء الربانيين ما لم يستطع قتله الأمريكان!

كما أذهل أحمد الشرع الجميع إذ تراه مقبلا بتدفق وحميمية على كل المخالفين المحليين والدوليين، حتى بتنا نركض أمامه لندفعه للتمهل في سياسة الانفتاح والمسامحة التي انتهجها مع المعادين من غير المسلمين والذين يختلف معهم في الأصول، فزادت خطواته عن حدها المعقول!

وفي هذا السياق يمكن القول أن المنهج القائم والتصور الحاكم لسلوك أحمد الشرع السياسي اليوم لم يعد يشبه سلوك القاعدة بالمطلق، بل ويخالف منهج الشيخين بن لادن والظواهري، ومضاد ومعاكس لمنهج الزرقاوي، وهو لهم اليوم بات مفارق، ومن العدل والانصاف ألا ينسب الشرع الى مدرسة القاعدة من حيث التصور والمنهج بعد حلوله قائدا فاتحا في دمشق، وبكلمة يمكن القول إن منهج وتصور وعقل وسلوك أحمد الشرع في سدة الحكم بدمشق مختلف ومغاير ومفارق للشيخ الجولاني في عموم تجربة العراق، وجزء هام من تجربة سوريا قبل الفتح.

ثالثا: التجربة العمرية والخبرة السياسية 

لا يمكن لمن بلغ الأربعين عاما وانحصرت تجربته بالأعمال القتالية والجهادية في أطر خاصة مليئة بالعقد، أن ينتقل من حالة أمير حرب الى أمير دولة بحجم سورية ذات التاريخ العريق والواقع المرير والتنوع الكبير والتشابك المتعدد في كل مناحي الاجتماع والسياسة، ما يجعل التدافع على أرض الشام شديد الحساسية ويحتاج الى خبرات سياسية ومستويات عمرية تستوعب تجربة فردية واسعة!

وبغض النظر عن مستوى الفطنة والذكاء والدهاء الذي مكن الجولاني من أن يسود ويصبح أحمد الشرع، فإن الواقع الموضوعي الذي اقتحمه من أوسع وأعقد أبواب السياسة في دمشق سيفرض عليه أن يكون متفاعلا أكثر من فاعل، وهو ما تعكسه محاولة استرضائه للجميع -بغض النظر عن صوابيتها من عدمه-، الأمر الذي يجعل احتمال ادارته من قبل المشاريع الكبرى راجحا لحد كبير، لاسيما في الخطوط العريضة للسياسة الدولية المفروضة والإقليمية المطلوبة.

 السروريون والإخوان المسلمين 

وفي هذا السياق فإنني أطرح مقاربتي لتدارك تلك الثغرة باعتبار التهديدات المحيطة والمرتبطة بها، وأرى وجوب ادماج فاعل وحقيقي لمكون أصيل في الحالة السورية،

وهو مكون سياسي عريق وخبير وجزء من النسيج السوري وينتمي لنفس الهوية الثقافية ويحمل نفس الأهداف العلية، هو تنظيم السروريين وتنظيم الاخوان المسلمين السوري -بغض النظر عن ملاحظاتنا النقدية-،

فقد شكل الاخوان المسلمون في سورية تجربة تراكمية ضخمة، لا يقارن عمرها بعمر تجربة هيئة تحرير الشام وأحمد الشرع، لا من حيث العمر ولا الكم ولا النوع، لاسيما أنها تأسست قبل ولادة أحمد الشرع بنصف قرن، خاضت خلالها ولا تزال معتركات دعوية وعلمية وقتالية وجهادية وسياسية عويصة في فترات ظلام حالك،

الأمر الذي أكسبها وأكسب قياداتها خبرة لا يملكها الشرع حتى لو جمع حوله جميع محبيه وأنصاره ورفاق دربه -وبغض النظر عن فوارق سوية قياداتها-.

إن المسؤولية الشرعية والأخلاقية والسياسية عن بلد بحجم سورية والمتصلة بمستقبل شعب الشام المتنوع والعريق والذي عانى ويلات القرن،

يوجب على المكون القيادي المرشح لسورية أن يضم اليه كل خير ويحرم عليه اقصاؤه، لاسيما من ينسجم معه في هويته الثقافية وأهدافه الإسلامية بغض النظر عن الأخطاء وجوانب القصور المتوفرة في جميع التجارب ولدى كل الشخصيات،

والتي لا يمنع الاندماج الحقيقي والفاعل من بحثها ونقدها وتصويبها، لاسيما إذا انتصرت روح العمل الجماعي عند الجميع في سورية على روح الانتماء العصبي الحزبي الكريه المنتن والقبيح.

التحصين من الكهنة السياسيين المحيطين بالشام

ولعل مقاربتي في ضرورة ادماج الاخوان في التشكيلة الجديدة -رغم أنني لم أكن يوما إخواني الانتماء التنظيمي- يأتي في سياق تحصين الجسم الناشئ الطري والغض سياسيا، في ظل كهنة سياسيين يحيطون بالشام ويتداخلون عبر قنواتهم الخاصة واختراقاتهم العميقة مع كل الأجساد القائمة، الأمر الذي يفيد تنوع الانتماء وتعدد الخلفيات في احباط هيمنة الأخطبوط القادم لابتلاع سورية ووضعها في بطنه، إضافة الى أن موقف الاخوان المسلمين السوريين كان سويا مستقيما وثابتا في عناوين رئيسية خمسة هي:

1/ السعي لإقامة الشريعة وتمكين الدين.

2/ رفض علمنة المفاهيم والأحكام الشرعية.

3/ الموقف من النظام الطائفي ومنظومته الطاغوتية.

4/ الموقف من المشروع الإيراني والشيعة والتشيع في البعدين الفقهي والسياسي.

5/ الموقف من الثورة والتفاعل الكامل معها ابتداء وانتهاء في الوقت الحاضر وماضي سورية.

رابعًا: حب الرئاسة والاستقامة

تحدث مجدد الدين والعالم الرباني ابن تيمية عن الشهوة الخفية وحب الرئاسة، وكذلك أشار تلميذه ابن قيم الجوزية، وقد تناقل هذا العلماء والمصلحون حتى أفرد فيه معان كثيرة العالم الرباني محمد الغزالي، رحمهم الله أجمعين.

إن إشكالية شهوة التفرد وحب الرئاسة لا يتنزه عنها بشر إلا من أعانه الله على نفسه وعصمه من زلاتها، لاسيما وهي مفسدة للأعمال مهلكة للصالحين من الرجال.

حب الرئاسة وشهوة التفرد

وعندما نتحدث عن حب الرئاسة وشهوة التفرد في سياق حكم دولة وشعب، فإننا لا نتوقف عند حدود جزاء الأفراد في الآخرة، بل نقصد الاستقامة في قضايا الشأن العام والتي تتأثر بشكل مباشر وحاد وفاعل بتلك الشهوة الخفية، والتي يعمل عليها الأعداء بأكثر مما تعمل وتنجز فيها شياطين الجن والعياذ بالله!

وبغض النظر عن الحاكم كائنا من كان خلفيته وانتماؤه، فإنه لا عاصم -بعد الله- من ذلك الانحراف الراجح الا دور العلماء الربانيين الغيورين على دين الله، وهل يوجد في سورية خير من الحالة العلمائية ممثلة بالمجلس الإسلامي السوري وعلى رأسه الشيخ الرفاعي، وما يمثله بشخصه الكريم من فهم واستقامة وخلق ومحل اجماع من قبل جميع المكونات السورية، لاسيما والشيخ الرفاعي يحتل منصب مفتي الجمهورية العربية السورية.

اللهم إياك نعبد وبك نستعين


الاثنين، 23 ديسمبر 2024

هل ستسمحون للنَّاس بشرب الخمر؟!


 هل ستسمحون للنَّاس بشرب الخمر؟!


أدهم شرقاوي


خمسون عاماً من حكم البعث!
أربعون ألفاً قتلهم حافظ الأسد في حماةٍ وحدها!
نصف مليونٍ قتلهم ابنه!
وثلاثة ملايين هجَّرهم في أصقاع الأرض!
ضربهم بالأسلحة الكيماوية، والبراميل المتفجرة!
قصفهم في الخيام وبؤس اللجوء!
أكثر من مئتي ألف مفقود لا أحد إلا الله يعرفُ عن مصائرهم شيئاً!
فُتحتْ أبواب سجن “صدنايا” فاكتشف العالم أنَّ ما كتبته البشرية جمعاء عن أدب السُّجون لا يبلغُ فصلاً واحداً من فصوله!
ورغم هذا بقي بشَّار الأسد رئيساً لا يُثير ذعر أحدٍ في الغرب!

وفي الشَّرق كان يُدعى إلى القمم كرئيس دولة! وكان يعتلي المنبر ليحدِّثنا عن جرائم إسرائيل في غزَّة، هذه الجرائم التي لا تختلفُ كثيراً عمَّا ارتكبه في حقِّ شعبه!
ولكنَّه بقي لا يثير ذعر أحدٍ، رغم أنَّ الجميع كان يعرفُ أنه أحد أكبر مصاصي الدماء في العصر الحديث!

حمى حدود دولة الاحتلال بكفاءة، وتاجرَ بالمقاومة التي لم يمارسها في الجولان ولو بطلقةٍ واحدة من باب على عينك يا تاجر! وحلفاؤه يتهامسون سراً أنه أسلمَ إحداثياتهم، فقد عرفوا بعد فوات الأوان أنَّه لم يكن له من صاحبٍ إلا عرشه، فلا هم كسبوا الأُمة، ولا هم سلموا منه!
ولكنَّه بقي حتى صبيحة هروبه لا يثيرُ ذعراً عند أحد!

ثمَّ انتصرت الثَّورة، عاد أصحاب الدَّار إلى بيوتهم وعائلاتهم وذكرياتهم!
كانوا متحضِّرين جداً، وفتحُهم واحد من أكثر الفتوحات رحمةً في التَّاريخ الحديث!
لم يعتدوا على قلّة أذاقتهم الويلات طوال خمسين سنة!
لم يهدموا مرقداً أو يمنعوا أحداً من أداء شعائره!
ورغم هذا دبَّ الذُّعرُ في الكوكب!
صارت دمشقُ مَحَجًّا للدبلوماسيين من كل حدب وصوب، الكل يريدُ أن يعرف كيف سيحكمون بلدهم!
تحدثت عنهم قنوات التلفزة، وتصدَّروا نشرات الأخبار!
قناة ال BBC أجرت مقابلةً مع أحمد الشَّرع، سيلٌ من الأسئلة التي تُثير القرف!
كان الرَّجلُ متَّزناً في إجاباته، دبلوماسياً حين يُحشر في الزَّاوية ليقدِّم إجابة قد تُستخدم ضدَّه، عارفاً بما يريدُ هذا العالم أن يسمع، على ما يبدو أنَّ فترة إدلب أتاحت له لملمة أوراقه، وتجهيز إجاباته!
ولكن أكثر سُؤالين وجدتهما مثيرين للقرف هما :
هل ستسمحون للمرأة بأن تتعلم؟
وهل ستسمحون للنَّاس بشرب الخمر؟

فجأة صار هذا العالم قلقاً على حقِّ النِّساء في التعليم في سوريا!
ولكنهم لم يقلقوا على حقِّ النِّساء في الحياة!
ثلاثة عشر عاماً وهُنَّ يُقصفنَ بالبراميل المتفجرَّة والكيماوي!
ثلاثة عشر عاماً وهُنَّ يُرمَّلنَ، ويُقتلُ أولادهُنَّ!
ثلاثة عشر وهُنَّ يُسجنَنَّ ويُغتصبنَ!
لا أحد في هذا العالم حرَّكَ ساكناً!
لم تعقد النَّسويات لأجلهنَّ مؤتمراً واحداً!
ولا هبَّتْ أوروبا تنصُرهُنَّ كما فعلت في أوكرانيا!
حتى البكاء استكثروه عليهنَّ فلم يبكِ عليهنَّ أحد!
أمَّا الآن فهذا العالم قلقٌ جداً ويتساءل: 
هل ستحصل نساء سوريا على حقِّ التعليم؟!
لم يبكِ هذا الغرب الكاذب نساء أفغانستان وهُنَّ يُقتلنَ على يد أمريكا، ولكن بمجرد انسحابها من أفغانستان، اكتشفَ العالم أنَّ في أفغانستان نساءً يجب أن يحمي حقوقهُنَّ!
وممن سيحمون حقوقهنَّ؟!
من آبائهنَّ، وإخوتهنَّ، وأزواجهنَّ، وأبنائهنَّ!

هل بكى أحدٌ في هذا الغرب العاهر نساء غزَّة وهُنَّ يُبدنَ منذ 440 يوماً؟!
ولكن بمجرد أن تنتهي الحرب سيصبح لنساء غزَّة حقوق يجب أن يُطالبوا بها!

هل ستسمحون للنَّاسِ بشرب الخمر؟!

أين كنتم حين كان السَّفاح يشربُ دماءهم أمام أعينكم؟!
أين كنتم حين كان الرِّجال يذوقون الإذلال في السُّجون؟!
أين كنتم حين كانت النساءُ تشربُ القهرَ والمُرَّ؟!
أين كنتم حين اختنقَ الأطفال بدموعهم؟!
تركتموهم لجلاديهم خمسين سنةً يفعلون بهم ما شاؤوا، وحين ثاروا، أرسلتم أساطيلكم لقتلهم، وقواتكم لحراسة مصافي النَّفط!
ثم الآن تأتون لتسألونهم عن تعليم النِّساء وشرب الخمر!
هذا الغرب لا يستحي!


القصة الغامضة للأستاذ سعد الديناري.. يوميات معتقل (19)

القصة الغامضة للأستاذ سعد الديناري.. يوميات معتقل (19)



ماهر البنا


 رخو، رقيع، مخنث، وضيع، حظيرة موبقات، أشباه رجال.. هذه عينة من قاموس الأوصاف التي كان "الأستاذ سعد" يطلقها على مجموعة من شباب السويس السجناء في العنبر..


لم أتعرف على الأستاذ سعد، ولم أشاهده في الأيام الثلاثة الأولى بعد نقلي من "عزل الوارد" إلى العنبر، لم يشارك في استقبالي كما فعل بقية السجناء، ولم يهدني أي شيء حتى التحية، ولم يكن لديه أي فضول لينتقل من سريره في الثلث الأخير من العنبر إلى سريري في المنتصف ليسأل عن أي شيء، أو يناقش أي شيء..

بعد أسبوع تقريبا، توقفت جلسات التحقيق معي في نيابة أمن الدولة، وبدأت أقضي نهاري في المحبس، بدلا من العودة ليلا للعشاء والنوم، وبدأت أتعرف أكثر على طبيعة المعيشة في العنبر، وشخصيات السجناء، وأحفظ الوجوه والأسماء.

ذات صباح كنت في طريقي على دورة المياه في نهاية العنبر، فشاهدت لأول مرة رجلا فارعا متجهم الوجه يقف صامتا في ممر بين سريرين قرب نهاية العنبر، وأمامه صندوق صغير من الكرتون مكدس بعبوات صغيرة في حجم "زجاجات القطرة"، لكنها من البلاستيك.

فوجئت بوجود الرجل الذي لم أعرفه من قبل، واندهشت من وقفته الصامتة الجامدة، التي تضفي عليه مسحة من المهابة المخيفة والهيئة الأسطورية، لكن اندهاشي لم يمنعني من إلقاء تحية الصباح بود:

قلت وأنا أنظر ناحيته بابتسامة خفيفة: صباح الخير..

رد دون أن يرفع وجهه عن الصندوق: سلام ورحمة الله.

أكملت طريقي إلى الحمام، وفي طريق عودتي شاهدته يقف مكانه يرتب الزجاجات الصغيرة في الصندوق ببطء شديد، ولا يبدي اهتماما بالحركة الصباحية وأصوات السجناء الذين يتبادلون التحية وصيحات الإيقاظ، والنداء على زملاء المعيشة المتأخرين للحاق بالإفطار "ياللا انجز".. "لو اتأخرت عن كده مش هتلاقي لقمة لحد الغدا".. "انت حر بقى"... "حد عااااوز ميه سخنة".. "الشينجي يشيل الشيلة".

عدت إلى مكاني وجلست وسط مجموعة المعيشة لتناول الإفطار، وبعد لحظة من الصمت وعدم المشاركة في التعليقات المعتادة على الإفطار سألت: فيه مسجون جديد دخل العنبر بعد نقلي هنا؟

قالوا: لأ..

قلت: أصلي شوفت حد جديد أول مرة أشوفه

- فين؟

* واقف بين السراير قدام سرير جاسر.

قال عادل ساخرا: آه.. قصدك الأستاذ رقيع؟

قطبت حواجبي للتعبير عن الاعتراض والدهشة وعدم الفهم، وقلت: اسمه كده؟

رد سالم: اسمه عم سعد.. مدير مدرسة وأستاذ فيزياء.

* إيه الكرتونة اللي قدامه دي؟ وبيقف ساكت كتير قدامها يعمل إيه؟

- قال عادل: ده حالة خاصة، عموما سكوته أحسن، عشان لما بيتكلم ما بيحصلش من ورا كلامه غير المصايب.

زادت الدهشة، وبدلا من أن تفسر لي الإجابات حالة الأستاذ سعد، زادتها غموضا.

مرت أيام، وذات ليلة شعرت بالتعب فاستأذنت من زملاء السهر طلبا لقليل من الراحة، وذهبت إلى سريري ونمت وقتا لا أعرفه (ساعة أو أقل) واستيقظت مختنقا لا أستطيع التنفس، أزحت الستارة وأنا أشهق شهقات مسموعة محاولا التنفس بالصعوبة، وانقلب العنبر وسادت حالة من الهرج والصخب والانزعاج وبدأ الشباب في الطرق بشدة على الباب والنداء على الحراس.

يا عم سعيد.. افتح يا عم سعيد.. العيادة يا عم سعيد.. عندنا واحد بيموت.

كنت أسعل وأشهق وتعتز الصور في عيني وخارت قواي وكدت أسقط على الأرض لولا الشباب الذين يحيطون بي ويسندون جسدي المتهاوي، والكل في حالة "خضة" وانزعاج شديدين، فجأة ظهر عم سعد يشق الزحام من حولي بتؤدة، ودون أن يتخلى عن هدوئه وصمته وتجهمه، أمسك بيد سالم الذي كان يحتضنني في رعب، وفتح كفه ووضع فيه عدة نقاط من زجاجة صغيرة في يده وقال بصوت عميق خافت، ارفع قميصه وادعك صدره جامد بالزيت ده، وعاد إلى مكانه.

انهمك سالم في تدليك صدري بالزيت المجهول، بينما يواصل الشباب الصراخ على الحراس والطرق على الباب الحديدي بشدة، ويتبادلون الأسئلة والأجوبة مع الزملاء في العنابر الأخرى.

جاء الحارس بعد أكثر من ربع ساعة، ولم يفتح الباب، بل وقف على النضارة يستفسر عن الحالة وسط توبيخ السجناء له على تأخيره: الراجل ممكن يروح فيها وانتو نايمين ولا يهمكم حياة بني آدم.

الحارس يبرر: مش بإيدي والله.. لما بنقفل عليكم المغرب بنسلم المفاتيح للإدارة، ومقدرش أجيبها إلا بإذن الضابط النبطشي وإجراءات وإمضا.. خير فيه إيه؟

قاطعه هشام الحسيني: اخلص وافتح الباب عشان الراجل يروح العيادة.

قال الحارس: أروح أصحي الدكتور الأول.

رد عليه صوت غاضب: يعني كلكم نايمين في نبطشياتكم واللي يموت يموت.

قال الحارس: أنا بعمل كده للمصلحة، الدكتور مش في العيادة وهيخرج يستناه في البرد ويتعب أكتر، قلت يفضل معاكم في الدفا لحد ما أصحي الدكتور، وواحد منكم بس يخرج معاه يسنده..

الحياة في السجن لا تستجيب عادة لرغبات السجين، ولا تجيب بسهولة على أسئلته، المعيشة في السجن لها قوانينها الذاتية التي تمضي بها البرامج وفق قاعدة "السجين مسير وليس مخيرا". يمكنك أن تفكر مع نفسك في أي شيء وكل شيء، لكن تنفيذ أفكارك لا يعتمد على إرادتك وحدك، لا بد أن تتوفر له شروط كثيرة من خارجك.. الظروف.. اللوائح.. الإدارة.. مواقف السجناء الآخرين

كنت قد تحسنت وبدأ التنفس ينتظم والسعال يقل، فأشرت بظهر يدي ناحية الحارس لما معناه: خلوه يمشي.

سألني سالم: يروح يصحي الدكتور وتخليك هنا، وللا اخرج معاك ونستناه قدام العيادة؟

قلت: خلوه يمشي، مش عاوز منهم عيادة ولا دكاترة، أنا بقيت كويس الحمد لله.

انتهت أول أزمة تنفس في السجن على خير، أعد لي الزملاء مشروبات ساخنة وسهروا في جواري حتى استغرقت في النوم، ولما استيقظت عدت لاسترجاع ما تحفظه ذاكرتي من مشاهد وكلمات في "ليلة الخنقة"، وسكنتني رغبة وسؤال:

الرغبة أن أتوجه إلى سرير الأستاذ سعد وأشكره على ما فعل.

والسؤال: أن أعرف ما هو الدهان الذي وضعه الأستاذ سعد في كف سالم ليعيد لي القدرة على التنفس؟

لم أفعل شيئا من هذا في ذلك اليوم، فالحياة في السجن لا تستجيب عادة لرغبات السجين، ولا تجيب بسهولة على أسئلته، المعيشة في السجن لها قوانينها الذاتية التي تمضي بها البرامج وفق قاعدة "السجين مسير وليس مخيرا". يمكنك أن تفكر مع نفسك في أي شيء وكل شيء، لكن تنفيذ أفكارك لا يعتمد على إرادتك وحدك، لا بد أن تتوفر له شروط كثيرة من خارجك.. الظروف.. اللوائح.. الإدارة.. مواقف السجناء الآخرين.

تآلفت مع المعيشة في العنبر، وحفظت كل الأسماء والوجوه، وبدأت الأيام والمعاملات تنسج شبكة من الود والمعاملات حسب ثقافة ومزاج وميول كل سجين، إلا الأستاذ سعد، برغم انشغالي به، ظل لغزا مغلقا أرغب في معرفة حكايته وأسلوبه الفريد في المعيشة منفردا داخل السجن، بينما الجميع مقسمون على مجموعات تتعاون في تدبير المعيشة ومشاركة الزيارات ومهام النظافة وجلسات السمر والألعاب الجماعية ومسؤوليات الدعم المتبادل للإحساس بالأمن والتكافل والمواساة وقت الشكوى والأزمات.

سألت عادل: انت ليه لما سألتك عن عم سعد قلت عنه "الأستاذ رقيع"؟

قال: دي كلمته المشهورة.. راجل كاره لكل شيء.. فاكر نفسه لسه ناظر مدرسة، وكل اللي حواليه تلاميذ يشتمهم ويعاقبهم، كل ما يتكلم عن حد يقول: رقيع.. مخنث.. حثالة.. وأوصاف باللغة العربية الفصحى كأنه عايش في مسلسل تاريخي، بيدعي الفضيلة مع أنه راجل سِمّاوي.

شعرت أن عادل لا يحب الأستاذ سعد ويتحامل عليه لاختلاف الأمزجة، أو نتيجة لخلاف سابق، لكنني لم أتمادَ في سؤال آخرين عن الأستاذ سعد، لما في ذلك من أثر سلبي في الانطباعات، واشتباه في النميمة والاغتياب.

وكما قلت من قبل: لا تأتي الأشياء في السجن بالرغبات، بل تحدث من تلقاء نفسها نتيجة عوامل خارجة عن إرادة السجين، ففي مساء أحد الأيام بعد صلاة المغرب، كان الشتاء يلم صقيعه الليلي ويترك للدفء مكانا في ليل العنبر، ووجدتها فرصة للاستحمام قبل النوم، فوضعت الملابس النظيفة ومستلزمات الاستحمام في كيس من البلاستيك ووضعت الفوطة على كتفي واتجهت إلى الحمام، في الطريق وجدت الأستاذ سعد يجلس على حافة سريره فاتحا المصحف بين يديه.

قلت: السلام عليكم.

سمعت الأستاذ سعد يرد بصوت مختلف يميزه الود والحرارة: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ولمحته ينهض من سريره، فأكملت طريقي، فإذا به يلحقني ويضع يده على كتفي من الخلف، ويقول: اسمح لي أعزمك على كوباية شاي مخصوص جدا.

قلت بامتنان: ربنا يعزك يا أستاذ سعد.. متشكر جدا.. أنا بس هاخد حمام وأصلي العشا وأنام بدري الليلة عشان مرهق شوية.

قال بثقة: لا.. هتشرب شاي معايا حالا، ومش هتاخد حمام.. تعال اسمع الكلام.

اندهشت جدا وقلت مستفسرا ومستغربا: ليه.. فيه مشكلة في الحمام؟

ضحك ضحكة خفيفة وهو يقول: لا.. المشكلة في المستحم وليس في الحمام..

نظرت ناحيته ولم أجد كلاما سريعا يعبر عن دهشتي، فأكمل كلامه بود: خلّي الحمام بكره الصبح والشمس طالعة، دلوقتي داخلين على برد الليل وممكن تاخد لطشة برد بسهولة، الصبح أضمن عشان صدرك.

قال ذلك وهو يمسك بالكيس البلاستيك من يدي ويصطحبني إلى حيث يجلس. بدأ في إعداد الشاي بطقوس مرتبة ومتأنية كأنه صيدلي منغمس في تركيب دواء، أو مدرس كيٍمياء منهمك في تجارب معملية.

فضولي في اكتشاف الشخصية ساعدني على الاستجابة لمبادرة الأستاذ سعد برغم التحفظ في كلامي وعدم التلقائية التي سيطرت على تصرفاتي في التعامل معه، تحسبا لتأثير ذلك على الرجل الغامض.

كان ودودا بكبرياء، ورقيقا بوقار، ومجاملا بلا تزلف، عبّر عن احترام وتقدير قديم لشخصي قبل أن يفاجأ بي في السجن، وقال إن دخولي السجن زاد من مكانتي في قلبه: بصراحة لا أثق في العلمانيين كلهم، وبرغم تقديري لمواقفك السياسية وشجاعتك، كنت أنتظر اللحظة التي ترتمي فيها في أحضان السلطة مثل غيرك من المثقفين، لكن الحمد لله أني رأيتك معي هنا ولم أشاهدك في مناصب الدولة وتلفزيونها!

رغم خشونة كلماته وسوء ظنه بالآخرين، استشعرت صدقه ومباشرته في التعبير عما بداخله.

سألته: ليه بتقول عليّ علماني ومنتظر سقوطي في نفاق السلطة، مع أني بكتب وأقول دايما إني ضد التصنيفات السياسية وضد الثنائيات المتعارضة.

قال: الكلام سهل.. سمعنا كلام كتير عظيم من مثقفين معروفين واحترمناهم، ثم صدمتنا حقيقتهم الملوثة وكراهيتهم للإسلام.

انت إخوان؟ (سألته).

قال مازحا: أعوذ بالله.. إخوان إيه بس؟.. دي ناس "مرئة" (تعبير يعني الليونة والسيولة)، أنا والحمد لله من قيادات الجهاد.. الجيل الثاني في تنظيم الجهاد، والراجل مننا بألف من أي تيار تاني، لأننا أهل عزم وعقيدة وتضحيات.. أهل جهاد.

سألته: مسجون على ذمة قضية لتنظيم الجهاد؟

قال: مسجون على ذمة نظام حثالة مع آخرين بلا قضية وبلا عقيدة، عقوبتي هنا ليس السجن بل السجناء، شباب تافه رقيع بلا أخلاق ولا نخوة، أنا أعيش هنا في ماخور موبقات، أسمع طول الليل هؤلاء الشباب الإمعة من حولي يحكون عن مغامراتهم الجنسية والخيانات بأقذر الألفاظ.. اللي يحكي عن زوجة جاره، واللي يحكي عن خطيبة صاحبه، ويتفاخرون بأفعال تتحرج منها الشياطين.

حاولت أن أغيّر الموضوع فسألته: بمناسبة طعم الشاي الرائع ده.. انت عامله ازاي؟

قال: السر في الطريقة والتحويجة.

سألته: تحويجة؟ الشاي له تحويجة زي القهوة؟

قال: كل شيء في الطعام والشراب يلزمه نكهة خاصة وطريقة في تحضيره..

سألته: انت مهتم بالأعشاب؟

قال: أنا خبير متخصص وبنتي من أشهر أطباء العلاج بالأعشاب في العالم، وأنا اللي علمتها وساعدتها على دراسة هذا النوع من الطب.

وجدتها فرصة لإجابة السؤال القديم الذي شغلني فترة: بالمناسبة عاوز أسألك عن نوع الدهان اللي استخدمته ليلة أزمة التنفس اللي اتعرضت لها.

قال: مزيج من زيت القرنفل ونباتات عطرية توسع الشعب الهوائية وتزيل الاحتقان.

أكملت المهمة الناقصة بالتعبير عن الرغبة المؤجلة ووجهت له الشكر.

رد بصراحته الخشنة: الشكر لله، أنا عملت ده عشان بحبك في الله، عمري ما قمت من مكاني عشان أي حد من الحثالة دول.. هؤلاء المخنثون سبب البلاء الذي أصاب الإسلام والمسلمين.

مددت يدي وأمسكت بكيس الملابس، وأنا أقول له: سهّرتك وتعبتك، متشكر على الشاي والحديث الشيق ونصيحة عدم الاستحمام ليلا..

قال: خليك قاعد معايا شوية، أنا بنام هروبا من التعامل مع اللي حواليا، وما صدقت وجدت إنسان محترم أتبادل معه الحديث والرأي بعيدا عن الابتذال اللي حبسوني فيه.

قلت: بإذن الله تتكرر.

ولما عدت إلى سريري تحلق حولي كثيرون يسألون عن سر الاستضافة العجيبة، وما دار فيها من حديث، وحرصت أن أكون مقتضبا حتى تتكشف لي بقية الجوانب الناقصة في الحالة الغامضة للسجين المحير سعد الديناري.

وفي المقال المقبل أستكمل الجانب الآخر من القصة العميقة للأستاذ سعد مع السجن والسجناء.

maher21arabi@gmail.com