صواريخ غزة تردع العدو
عامر عبد المنعم
لأول مرة يشعر العرب والمسلمون بالفخر والعزة وهم يتابعون الصواريخ وهي تنطلق من غزة لتضرب المستوطنات والمدن الإسرائيلية من الشمال إلى الجنوب في فلسطين المحتلة.
لقد شاهدنا الصهاينة يسيطر عليهم الرعب والفزع مع صفارات الإنذار وهي تدوي، وينبطحون أرضاً، ويختبئون تحت الأرض يومياً، ليلاً ونهاراً، يبحثون عن الأمن من صواريخ المقاومة.
لم تترك المقاومة بلدة صهيونية إلا وقصفتها، فالصواريخ دكت بئر السبع وأوفاكيم وأشكول وكرم أبو سالم وسيدروت وكريات ملاخي وعسقلان في الجنوب، وضربت أسدود والقدس المحتلة في الوسط، وانطلقت الصواريخ إلى تل الربيع ونتانيا والخضيرة وزخروف يعكوف وحيفا ونهاريا في الشمال.
لو كانت حكومة الكيان الصهيوني تعلم ما سيحدث ما كانت أقدمت على شنّ هذا العدوان الأحمق، لكن هي الأقدار التي تكشف لنا أن الأمة على موعد مع فجر جديد سيغيّر الكثير من المعادلات التي ظن الناس أنها لن تتغيّر، ومع توازنات جديدة تفرضها المقاومة الصامدة تحت القصف والقتل والتدمير الجنوني.
هذه الحرب هي الثالثة ضد غزة خلال خمس سنوات، ولثالث مرة تفشل العسكرية الإسرائيلية في تحقيق أي إنجاز، وفي كل مرة تنتهي الحرب بطلب إسرائيلي للهدنة.
في المقابل، وفي كل حرب، يخرج الفلسطينيون من تحت القصف بخسائر بشرية قليلة لا تتناسب وأطنان المتفجرات التي تلقى عليهم، وكأن الله جعلها برداً وسلاماً على المسلمين الصامدين المحبّين للشهادة.
منذ الحرب السابقة في 2012 التزم الفلسطينيون باتفاق الهدنة الذي تم بطلب إسرائيلي وبوساطة الرئيس محمد مرسي – فك الله أسره -، ولم يلتزم الطرف الإسرائيلي، وصبر أهل غزة على التضييق والحصار إلى أن بدأ الإسرائيليون العدوان من جديد.
تصاعدت الأحداث يوم 12 يونيو عندما قام مجهولون باختطاف ثلاثة من المستوطنين اليهود في الخليل يدرسون في معهد ديني، فانقلب الكيان الصهيوني من هذه العملية خوفاً ورعباً، فهي تعد تهديداً نوعياً في الضفة المسيطر عليها بمظلة أمنية محكمة.
لقد كانت عملية جريئة تتسم بالتخطيط المتقن والتنفيذ المحكم في سرية تامة، كما أن اختيار المنطقة له دلالات مهمة لدى غلاة اليهود، وهي مستعمرات «كفار عتسيون» شمال مدينة الخليل المحتلة.
لم تعلن أي جهة فلسطينية عن العملية، ولم يتبنَّ أي فصيل في الضفة أو غزة اختطاف المستوطنين الثلاثة، ما زاد الأمر غموضاً، وتسبب في حالة من الهيستيريا الأمنية داخل الكيان الإسرائيلي كله.
لقد تم استدعاء الاحتياط والدفع بفرقتين منه بجانب وحدة شمشون من قوات النخبة، وقاموا بعملية تفتيش واسعة شاركت فيها الطائرات، ولم يتركوا مكاناً من دون اقتحام، حيث تم التفتيش من بيت إلى بيت، وأغلقوا الضفة بالكامل، ومشطوا المدن والقرى، في أكبر عملية بحث لم يعهدها سكان الضفة.
وكشف نادي الأسير الفلسطيني عن أن الجيش الإسرائيلي اعتقل منذ اختفاء المستوطنين الثلاثة نحو 1004 فلسطينيين من الضفة الغربية والقدس وأراضي فلسطين المحتلة.
وشملت الاعتقالات 12 نائباً في المجلس التشريعي الفلسطيني، على رأسهم: رئيس المجلس عزيز دويك، ليرتفع بذلك عدد النواب المعتقلين إلى 23.
وأعيد اعتقال 60 أسيراً محرراً كان قد أفرج عنهم ضمن صفقة وفاء الأحرار «شاليط» عام 2011، وغالبيتهم ممن قضوا سنوات طويلة في سجون إسرائيل.
السلطات الإسرائيلية أصدرت، أيضاً، 218 أمراً إدارياً خلال الحملة، ليرتفع عدد المعتقلين الإداريين بنسبة 100% تقريباً.
وفي 2 يونيو عثر جيش الاحتلال على جثث المستوطنين الثلاثة مدفونة غربي مدينة حلحول قرب الخليل.
طوال هذه المدة كانت الحكومة الإسرائيلية تتهم حماس بالمسؤولية عن قتل المستوطنين الثلاثة، رغم أن الضفة الغربية تحت سيطرة السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس.
من جهتها، نفت حماس أي صلة لها بالعملية، مع تأكيدها أن القمع الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني في الضفة والظلم هو الدافع لمثل هذه العملية.
قتل أبو خضير والانتفاضة الثالثة
بعد العثور على جثث المستوطنين الثلاثة، قامت مجموعة من المستوطنين اليهود يوم 2 يونيو 2014 بقتل الصبي الفلسطيني محمد أبو خضير من حي شعفاط بالقدس، حيث تم اختطافه وتعذيبه وحرقه وهو على قيد الحياة.
وأعقبت عملية الخطف والقتل موجة احتجاج واسعة في مناطق عديدة بمدينة القدس، ثم توسعت التحركات الاحتجاجية في كل الضفة، واشتعلت المدن الفلسطينية بالمظاهرات والاشتباكات مع القوات الإسرائيلية، وبدأت تظهر إرهاصات انتفاضة ثالثة في الأراضي المحتلة، ما جعل حكومة نتنياهو في مأزق من انقلاب الساحة الفلسطينية ضدها، وتسارع المواجهات، فذهب الإسرائيليون إلى ضرب غزة لإبعاد الأنظار عن انتفاضة الضفة وامتصاص الغضب الداخلي ضد الحكومة من المستوطنين.
الانتقام من غزة
كان واضحاً أن حكومة الكيان لا تعرف كيف ترد على قتل المستوطنين الثلاثة، فلا أحد يعرف من الذين قاموا بعملية الاختطاف، ولا توجد في الضفة أهداف فلسطينية يمكن قصفها بسبب السيطرة الأمنية المزدوجة، الإسرائيلية والجهاز الأمني لأبي مازن، وهذه السيطرة الثنائية تحاصر أي عمل علني فلسطيني مقاوم.
وللطبيعة العدوانية الصهيونية، دارت عجلة الحرب ضد غزة، فبدأ القصف الجوي على القطاع في العملية التي أطلقوا عليها «الصخر الصامد»، وأطلقوا الصواريخ العمياء القاتلة على المدنيين.
لم يكن أمام حركة حماس والفصائل الأخرى، مثل: سرايا القدس، وألوية الناصر صلاح الدين؛ غير الرد على العدوان بالصواريخ وقصف العمق الإسرائيلي، وهنا كانت المفاجأة، وهي تطور الصواريخ الفلسطينية ليصل مداها إلى كل المدن والمستوطنات في الكيان، فسقطت الصواريخ الفلسطينية على الإسرائيليين في القدس وتل الربيع (تل أبيب)، ووصلت إلى حيفا على بُعد 160 كم، ثم نهاريا على بُعد 170 كم. وتسابق مقاتلو المقاومة في إطلاق رشقات الصواريخ، ودوت صفارات الإنذار في كل مكان داخل الكيان، ونزل الصهاينة تحت الأرض يختبئون في الملاجئ في أكبر عملية رعب تضرب الكيان منذ تأسيسه عام 1948.
عجزت القبة الحديدية عن صد الصواريخ الفلسطينية، ووقف الإسرائيليون عاجزين أمام تساقط الصواريخ في كل مكان به صهاينة، وعجزت الطائرات بكل أشكالها وأنواعها التي تحوم فوق غزة عن ضرب منصات الصواريخ.
وفي تحدٍّ من المقاومة واستعراض للقوة، أعلنت كتائب القسام عملية قصف لتل أبيب يوم 13/7 في التاسعة مساء، وطالبت وسائل الإعلام بتصوير عملية القصف، وبالفعل كان مشهداً له دلالات مهمة وحقق مكاسب استراتيجية كبيرة؛ فالقصف يتحدى سلاح الجو الإسرائيلي في رصد أماكن الإطلاق، ويتحدى القبة الحديدة في منع الصواريخ من الوصول إلى أهدافها، فشاهد العالم عملية القصف على الهواء بما فيهم الإسرائيليون الذين غطت فضائياتهم المشهد، بل لأول مرة يخرج الفلسطينيون في المدن المحتلة فوق منازلهم يشاهدون الصواريخ المضيئة وهي تسبح في الفضاء منطلقة إلى أهدافها.
الإسرائيليون وأمام العجز عن تدمير صواريخ المقاومة من الجو، فكروا في الغزو البري بقوات على الأرض لتحقيق أي نجاح يحسب للعسكرية الإسرائيلية والهيبة التي ضاعت رغم القتل والإبادة، لكن التجارب السابقة جعلتهم يتقدمون خطوة ويتراجعون خطوتين، فالسياسيون يريدون التدخل البري، بينما قادة الجيش لا يتحمسون.
لم تترك لهم حماس مساحة للتفكير، ووجهت للعسكرية الصهيونية ضربات نوعية تؤكد أن المقاومة هذه المرة ليست كسابقاتها، فقامت بعملية نوعية بإرسال وحدة كوماندوز بحرية تسللت من البحر إلى القاعدة العسكرية الإسرائيلية « زيكيم» التي كانت صادمة للعقل الصهيوني.
وفي عملية أخرى استخدمت الصاروخ الروسي كورنيت لتدمير آليات إسرائيلية، منها: الدبابة الميركافا القوية التدريع، من مسافات بعيدة.
وعندما حاول العدو اختبار القدرة الفلسطينية بتسلل بري محدود، حيث قامت البحرية الإسرائيلية بعملية إنزال على شمال غزة؛ كانت كتائب القسام تنتظر في كمين محكم تدخلت فيه المروحيات الإسرائيلية لإنقاذ الجنود المتسللين، وأعلن الجيش الإسرائيلي فيما بعد إصابة 5 جنود فقط في العملية، وحدث تسلل آخر بري من الحدود الشمالية الشرقية وتم صده ببسالة وسرعة.
الصواريخ ومستقبل الصراع
كشفت حرب غزة عن أن الصواريخ أصبحت سلاحاً فاعلاً؛ لعدم وجود سلاح مضاد لها، فالترسانة الإسرائيلية المتقدمة لم تكن لديها القدرة على وقف هذه الصواريخ، الأمر الذي جعلها تنشر الفزع والرعب في كل الكيان الصهيوني بلا استثناء.
لقد بدأت خطورة الصواريخ تظهر منذ حرب الخليج عام 1991 عندما أطلق صدام حسين 39 صاروخاً على «إسرائيل»، ويومها فشلت منظومة باتريوت التي صاحبتها حملة دعائية كبيرة؛ فشلت في التصدي لصواريخ سكود، ورغم التعتيم الذي تم على خسائر عملية القصف حينذاك، إلا أن الموضوع شغل الأمريكيين وسعوا للبحث عن حل، لكن توقيع أمريكا على اتفاقيات مع روسيا لوقف برامج الصواريخ جعلها تقوم بتنفيذ برامج مضادة للصواريخ من خلال الكيان الصهيوني للهروب من التزاماتها الدولية، فشرعوا في تصنيع منظومات للصواريخ بعيدة ومتوسطة المدى وأخرى قصيرة المدى، لكن الفشل كان نتيجة تجارب هذه البرامج، وحتى الآن تشكل الصواريخ تهديداً ليس له حل.
مكاسب استراتيجية
حرب غزة هذه المرة حققت كثيراً من الإنجازات العسكرية والاستراتيجية المهمة، وهذه المكاسب هي التي جعلت العدو الصهيوني يزيد من حجم الانتقام والتدمير الواسع للبنية الأساسية في قطاع غزة، وتوسيع دائرة الأهداف التي تقصفها الطائرات الإسرائيلية.
وهذه أبرز المكاسب التي تحققت:
- إنهاء أسطورة التفوق العسكري الإسرائيلي وممارسة العدوان دون رد فلسطيني، فقد أحدثت الصواريخ الفلسطينية الردع المطلوب، فأي عدوان صهيوني لن يمر دون عقاب، وهذا يحقق التوازن الذي لم يكن موجوداً في السابق.
- زوال فكرة الأمن التي بُني عليها الكيان الصهيوني، والتي كانت عامل جذب لهجرة اليهود من كل دول العالم للاستيطان في فلسطين، فوصول الصواريخ إلى كل مكان في «إسرائيل»، وحالة الرعب التي عاشها 6 ملايين مستوطن إسرائيلي، والحياة في المخابئ لأيام متواصلة؛ نسفت الأوهام التي عاشوها منذ 1948، وسيمتد تأثيرها إلى يهود العالم.
- الترويع الذي عاشه الإسرائيليون سيكون له انعكاسه على حركة الهجرة من يهود الخارج إلى ما كانوا يظنون أنها الأرض الموعودة، بل سيكون بداية لتفكيك البؤر الاستيطانية وبداية الهجرة المعاكسة للهروب إلى الخارج.
- الصمود الفلسطيني وكسر العسكرية الإسرائيلية سيكون له انعكاس سلبي على طموحات بعض الحكومات العربية التي وافقت على ضرب غزة لتنصيب حكومة غير إسلامية بدلاً من حماس، وسيضعف موقف هذه الحكومات المنقلبة على ثوابت أمتها أمام شعوبها، وسيشكل ضغوطاً كبيرة ستفقدها الكثير وتضعفها، وفي هذا مكسب للأمة في جهادها ضد المشروع الصهيوني - الصليبي.
- هذا الإنجاز الكبير سيعطي الأمة وشبابها دفعة قوية ويرفع المعنويات، بما يسهم في شحذ الهمم، وبث الأمل، وتبديد الإحباط والانهزام، الأمر الذي يسهم في الانتقال من خندق الهزيمة إلى خنادق النصر، وهذا له آثاره الإيجابية في مستقبل الأيام.
- انكسار العسكرية الإسرائيلية أمام المقاومة في غزة رغم الحصار والتخلي العربي والتآمر الدولي؛ ستكون له آثاره المدمرة على الروح المعنوية في الكيان الصهيوني، وسيكسرهم داخلياً، وسيدفعهم دفعاً للتفكير ألف مرة قبل أن يكرروا هذه الاعتداءات.
- الدول الغربية التي كانت في السابق تؤيد العدوان وتعطي الكيان الفرص للاعتداء وتحميه وتعطيه الغطاء الدولي؛ أصبحت الآن لا تحتمل استمرار المعارك وظهور العجز الإسرائيلي الذي يزيد الحماس العربي والإسلامي، وهذه الدول تبنّت بعد أسبوع واحد من الحرب قراراً لمجلس الأمن بوقف إطلاق النار؛ لإنقاذ «إسرائيل» ووقف الخسائر.
- كثرة الاعتداءات على غزة ولّدت لدى الفلسطينيين مناعة ضد الخوف، فالفلسطينيون لا يخافون الموت، ولا يتركون منازلهم، وكل أسرة تقول: «نعيش معاً أو نستشهد معاً». والإسرائيليون يخافون الموت ويعشقون الحياة، ويختبئون تحت الأرض في الملاجئ خوفاً ورعباً.. أي أن العالم يشاهد إرادة استشهادية وإرادة مذعورة، ولا يمكن للثانية أن تنتصر على الأولى.. وهذا يقدم صورة إيجابية للإسلام وينقل صورة دعائية ممتازة عن قضية الشعب الفلسطيني أمام الرأي العام العالمي.
- هذه الحرب وحّدت الصف الفلسطيني وقطعت الطريق على المؤامرات لإثارة الانقسام، بل أوقفت مؤامرات الإطاحة بحماس التي كانت تراود بعض المتعاونين مع إسرائيل.
- جددت الحرب الأخيرة الثقة بحماس كقائدة للجهاد الفلسطيني، ليس في غزة فقط، وإنما أيضاً في الضفة، وسيظهر هذا في الانتفاضة التي بدأت الآن في الضفة وكسر الشباب الفلسطيني القيود التي تفرضها الأجهزة الأمنية لسلطة أبي مازن.
ستكشف الأيام القادمة أن الحروب الإسرائيلية ضد غزة أفادتها وقوّتها وأعطت القضية الفلسطينية زخماً جديداً وصححت الكثير من الاعوجاج الذي أصاب الجسد الفلسطيني بسبب ترك الجهاد والجري وراء التفاوض الذي لم يدفع ضراً ولم يجلب نفعاً منذ أوسلو حتى الآن.
هذا الإنجاز العسكري الفلسطيني سينقل الأمة نقلة نوعية إلى الأمام، وسيبدد الكثير من المخاوف التي صورت الكيان الإسرائيلي بأكبر من حجمه الحقيقي، والتي جعلت الكثير من الحكومات والنخب تستسلم دون مقاومة.
ما أنجزته المقاومة في غزة يستحق التحية والتقدير لهذا الجيل الفلسطيني الذي تحدّى كل الصعاب، وتحمّل كل العناء؛ ليهدي الأمة نصراً عزيزاً في مرحلة تاريخية فاصلة، ليكون أجمل هدية تفتح الأبواب أمام التحرير الحقيقي الذي ينتظره المسلمون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق