مصر الناعمة أكثر مما يجب
لا شيء يهين مصر أكثر من أن يعتبرها شخص ما ضئيلة وصغيرة إلى الحد الذي يخشى عليها معه من أن تسقط بضربة إعلامية.
ليس أكثر إهانة لمصر العظيمة من أن تصبح "الإنسانية" فيها فعلاً مجرماً، وتصير "الفاشية" عقيدتها السياسية، و"المكارثية" مذهبها الاجتماعي.
أن تكون "إنساناً" في مصر الآن، أو خارجها، فهذه جريمة جنائية، أن تدين القتل والقمع والتعذيب، فهذه جريمة خيانة عظمى لوطن صار أشبه بعربة طائشة يقودها مجموعة من المراهقين سياسياً.
تردد مصر "الرسمية" الآن نشيداً واحداً، هو "نشيد المؤامرة" تقرأه في صحف صفراء فاقع لونها، وتسمعه وتشاهده على شاشات أكثر اصفرارا، تقترب من لون الدم من كثرة التحريض على قتل الخصوم واستعذاب محو المختلفين والمعارضين.
غير أن الأكثر إهانة من كل ذلك لمصر "الكبيرة" أن يأتي شخص مسكون بالأحلام والنبوءات المفبركة، ويحبس شعبها داخل زنزانة الفزع من "الخارج" الذي لا يؤيد ويعضد أحلام الزعيم، فيصبح برنامج تلفزيوني ناقد مهدداً لترابها الوطني، وتصير مقالة معارضة خطراً على مياهها الإقليمية، ويكون خروج مشروع إعلامي أو ثقافي جديد تهديداً لـ"قوة ناعمة" لا تعترف بعوامل الزمن وأفاعيله.
والمدهش هنا أن أحدهم لا يشعر بالخجل وهو يناقض نفسه على نحو فادح وفاضح حين يصرخ مذعوراً من صحيفة أو قناة تلفزيونية، وفي الوقت ذاته يهرف بكلام مضحك عن تلقين الأسطول السادس الأميركي درساً، وإصابة الإدارة الأميركية بالرعب من غضبة زعيم مصر الجديد.
إن الصياح الطفولي عن أن هناك من يطمح لخطف دور مصر أو اقتسامه معها ليس أكثر من نكتة سخيفة، تلوكها ألسنة الصغار من هنا وهناك، ليس إيماناً بقيمة مصر وحجمها، وليس دفاعاً عن مكانها ومكانتها، بل دفاعاً عن شرعية ــ أو بالأحرى لا شرعية ــ وجودهم .
وتدرك مصر الحقيقية أن غضب المحبين الحقيقيين أنبل وأرقى وأكثر فائدة لها من رضا النصابين المحترفين، لذا يظل أوغادها ودجالوها حريصين طوال الوقت على تجريفها إنسانياً، وإحراقها فكرياً وعقلياً، كي يبقى شعبها غارقاً في بحيرات الخرافة، لا تهزه رائحة الدم ومشاهد القتل والتنكيل.
أذكر أنه في عام 2010 بكى مصريون وعرب، وهم يتابعون ملحمة إنسانية في جمهورية "تشيلي" لإنقاذ عمال مناجم ابتلعتهم الأرض، غير أن سلطة 2014 نجحت في تحويل قطاع منهم إلى راقصين في ساحات القتل المنصوبة في الشوارع والميادين.
تحضرني "التجربة التشيلية" دائماً كلما رأيت سلطة الانقلاب في مصر توغل في الدم والعنف، جامعة حولها "نخبتها السياسية التي تخاف عليها من إعلام تموله قطر وتركيا، يوشك أن يلتهمها"، وتحضرني كلما سمعت من يبرر لإبادة الشعب السوري على يد نظامه، ومن يفرح من العرب المتصهينة لحصد أرواح الفلسطينيين على يد الاحتلال.
في مذبحة القرن "فض رابعة" جاءت مشاهد عمال المناجم، حيث كان رئيس"تشيلي" في ذلك الوقت سباستيان بينيرا قد قطع على نفسه عهدا بإنقاذ 33 من عمال المناجم الذين ابتلعتهم الأرض على عمق سبعمائة متر، واجتمع علماء تشيلي على قلب رجل واحد للتوصل إلى طريقة علمية لانتشال العمال أحياء، وشارك الأخصائيون النفسيون وخبراء الاجتماع بخطة للإبقاء على روح المواطنة داخل المنكوبين، والاحتفاظ بثقتهم في أنهم سيعودون إلى الحياة.
وفي تفاصيل عملية الإنقاذ كانت أشياء بديعة منها مثلاً أن علماء النفس ابتدعوا من الأساليب والوسائل، ما يحافظ على الحالة النفسية للعمال المنكوبين عن طريق إشغالهم بأنشطة تنقذهم من البقاء محاصرين تحت فكرة الموت الذي ينتظرونه، نجحوا فى إدخال الصحف والمجلات والكتب إلى عمق المنجم كي يقرأ المحاصرون ويتابعوا ما يجري في الخارج، ويفكروا في قيمة الحياة.
وعلى مدار 40 ساعة حبس العالم أنفاسه وابتهل إلى الخالق أن تنجح العملية..
سمعت عبر مداخلات الإذاعة وقتها مواطنين عربا من السودان والعراق يقولون إن أعينهم دمعت مع الإعلان عن عودة عامل جديد من المنجم إلى الحياة، رأيت مصريين يتسمرون أمام الشاشات فى انتظار نجاح العملية والدمع يترقرق في الأعين.
ووقتها تساءلت: هل كان هؤلاء يبكون فرحاً بالانتصار على الموت في "تشيلي"، أم حزناً على أوضاع المواطن في وطنه العربي السعيد؟
كانوا يبكون.. أما الآن فقد صار البكاء على الإنسانية جريمة.. شفاك الله يا مصر!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق