دروس غزة.. من التباكي إلى التعالي
تركي الجاسر
الهزة النفسية الهائلة التي تصنعها أحداث غزة خلخلت كثيرا من المسلمات والاعتقادات، بما يجعلها دورة مكثفة في تثقيفٍ عاجل وجماعي للشعوب العربية. هذه القفزات النفسية لشعوب كاملة في أيام قليلة، لم تكن لتحصل لولا معطيات الحدث الاستثنائية، وصدق الرجال الذين يصنعون هذا الحدث.
تجربة غزة أزاحت المفاهيم البائسة التي تهوي بالإنسان إلى حضيض الذل والمهانة، وثبتت بدلا منها المفاهيم العظيمة التي ترفعه إلى قيم العزة والكرامة. هذه المفاهيم لا يمكن إدراكها بقراءتها مكتوبة، لأنها مرتبطة بشبكة تفاعلية كاملة، وتجربة حياتية، وخليط من الوجدان والفكر والمعايشة مع الأحداث. ومسيرة غزة بمساحتها الصغيرة وشعبها المحاصر ووضعها المواجه لمؤامرة عالمية غير مسبوقة، هي الأمثل لأن تغرس في النفوس مثل هذا التغيير في المفاهم.
ميتة الربح وحياة الخسارة
فقدنا في غزة شهداء كثير (نحسبهم والله حسيبهم) والناس يعرفون الشهادة في سبيل الله، ويعظمون ويقدسون مفهوم الشهادة لكن غزة علمتنا كيف أن الشهادة ليست حدثا معزولا يعظم ويقدس لوحده. فرض علينا الواقع مقارنة إجبارية بين غزة بمقاييسها، وعالمنا العربي بمقاييسه، ففهمنا معنى قوله تعالى “ويتخذ منكم شهداء”. هذه المقارنة لا نستطيع تحاشيها ليس لأن أحداث غزة تملأ الإعلام، لكن لأن واقعنا العربي السيء فيه ما يخجلنا أمام هذا التفوق الغزاوي العظيم.
تعلمنا من غزة أننا نفقد القتيل فيرتقي شهيدا في الجنة (نحسبه كذلك)، فيكون الآلاف الذين ارتقوا كأنهم نجحوا بدرجة كاملة في دورة غزة الحياتية العظيمة. أما عندنا فإننا نفقد الإنسان من الاستقامة إلى الانحراف، ومن السلامة والانضباط إلى الخمر والمخدرات. فيُران على القلب فيفشل قبل نهاية الامتحان. ثم يتراكم الران فينتقل من الإيمان إلى اللامبالاة بالدين، أو العلمنة الصريحة، أو الإلحاد الصريح، ومن الالتزام إلى ترك الواجبات، فنفقد الآلاف والملايين في دورة الحياة، في بلداننا لحضيض جهنم والعياذ بالله.
تعلمنا في غزة أن الشهداء يرتقون، وقد مهدوا السبيل لإنجاح الكثير من أقرانهم في هذه الدورة الحياتية العظيمة، لأنهم فرضوا واقعا إيمانيا وعقديا ومنهجيا وحضاريا يرفع شأن الأمة كلها. أما عندنا فيتراكم الانحراف ويصنع جوا يستمرئ المنكر ويطبّع الفساد ويستثقل الاستقامة. أما التضحية والتحدي والمسؤولية الجماعية، فهذه مطموسة من القاموس، ولا يستطيع المترف أن يدركها فضلا عن أن يفهمها. من هنا كان فقدان الشهداء نعمة لهم ونعمة لمجتمعهم، بل نعمة لنا لأننا تعلمنا أننا نخسر بحياتنا وهم يربحون بموتهم. ومن هنا كانت خسارة الأحياء وهم أحياء، كارثة نخجل بها أمام أساتذتنا الشهداء.
متعة التحدي ولذة النضال
تعلمنا من غزة أن البيوت هدمت، والخدمات عطلت، والقطاع حوصر سبع سنوات عجافٍ، فماذا أنتج هذا الحصار؟ أنتج تقنية وسلاحا متطورا، وتنظيما متماسكا، وتدريبا راقيا، وتخطيطا متكاملا، وقدرات قتالية فائقة. لكن هل علمتنا غزة لماذا؟ نعم علمتنا غزة أن الروح التي تسري في الناس هي روح التحدي والنضال والإصرار على الفوز في هذا التحدي. وعلمتنا أننا بعيشنا المترهل والمتثاقل إلى الأرض، في حالة العجز والكسل والجبن والبخل وغلبة الدين وقهر الرجال.
بماذا ترزأ الأمة؟
الأمة لا ترزأ بشخص عامي يتجرع الهزيمة فيستمرئها، أو بمرتزق بقلمه يوطن الهزيمة والتبعية، أو بعالم خائن معروف بخيانته يلوي أعناق النصوص الشرعية ليرسخ منهجية الهزيمة. إنما ترزأ الأمة بمن تظنهم أصحاب رسالة يعون ظرفهم، ويعرفون تماما موقعهم في المكان والزمان والحدث، ويدركون تميزهم العقدي والفكري والحضاري والتربوي، تُرزأ بهم حين تراهم لا يكتفون بإعلان الهزيمة، بل يجعلون الهزيمة قدر الأمة المحتوم.
سبحان الله، كل نصوص هذا الدين المثقلة بمعاني الاستعلاء، والمليئة بالمبشرات بالسمو والانتصار والتمكين، تختفي ويصبح المرء رهينة تجربته الحياتية المحدودة. والأسوأ من ذلك أن يصّر من يعيش حالة الهزيمة المرّة، على جر المجتمع المسلم مع تجربته الذاتية ليُلزمه بعيشها.
نزعة الدواء ثقيلة
الغرض المطلوب نواله عند التعامل مع منهجية التباكي ليس سهلا، وجرعة الدواء قوية وثقيلة لا بد فيها من آثار جانبية مؤلمة. نهج التباكي والسلبية وتجرع الهزيمة وتقريرها وتحويلها إلى قدر محتوم، نهج قبيح مللنا منه وتجاوزناه والحمد لله، وينبغي أن نربي أنفسنا على رفضه والتضايق منه، وأن ننسفه بقوة وعنف وبلا هوادة. وإن صدر عن أناس لهم تلك المصداقية، فينبغي أن تزداد عبوة النسف، ويبالغ قصدا في تأنيب من يروّج له.
لقد استعادت الأمة والحمدلله محبة لغة الاستعلاء، وأصبحت لا تستلذ إلا بمن يحدثها بخطاب استنهاضي، فيه بشائر التمكين والظهور لأهل الحق وخطاب التحدي والمواجهة، سواء لطغاة الباطل الجاثمين على صدور المسلمين، أو لرؤوس الكفر الصريح. والمتصدون للكتابة والحديث للجمهور لا يسعهم أن يتجاهلوا التأييد العارم، والكاسح لصمود أهل غزة وإبداعاتهم، وتلذذ الناس بطريقتهم في تحدي الصهاينة. هم وأمثالهم يدركون ذلك قطعا، سواء أقروا به أم لم يقروا، فإن أقروا فقد قالوا الحقيقة، وإن لم يقروا فهي مغالطة مكشوفة.
الذات هي القضية
الحقيقة المؤلمة، والمؤلمة جدا ربما تكون أسوأ من تأكيد منهجية التباكي وقدرية الهزيمة. هذه الحقيقة هي استغراق الشخص الرمز، في السياق الذي يعيشه حتى يتحول مع ضغط الواقع، والمعاناة الشخصية، ومع متابعة الناس لنشاطه، وتجميده هو لرقابة “التجرد” إلى حالة ووضع ودور جديد، تسوقه لها هذه الضغوط والمعاناة. هذه الحالة الجديدة هي أن يعتقد الرمز أن مشاعره الشخصية، وحالته الذاتية، هي قضية الأمة، وليس أن حالة الأمة هي قضيته. بمعنى أن يصل الحال بالرمز أن يعتقد بأن تضايقه من حال المسلمين، حالة شاعرية عامة، يجب أن يصفها ويكتبها ويسهل قراءتها من قبل الناس، لأن هذه بحد ذاتها هي القضية، وأن المسلمين في حالة انتظار وترقب لما يكتب من حالات شاعرية لأمثاله حتى يتقمصوها ويعيشوها.
انتهازية المصداقية
هذا الاستغراق في السياق، الاستغراق الذي يؤدي إلى نقل مركز القضية من الأمة لذات الرمز شخصيا، يتطور عند بعض الرموز وخاصة عند غياب التقويم وغلبة المجاملة بينهم، إلى إعادة تشكيل لمشروع الرسالة. حين يتكئ بعض الرموز على ما لديهم من رصيد من المصداقية، وينساقون مع متابعة الناس لما يصدر عنهم من الكتابات والتصرفات، دون كابح من رقيب “التجرد” يحسبون أنهم أمسوا هم القضية، فيتحدثون ويكتبون من هذا المنطلق شعروا أو لم يشعروا. ونظرا لانتشار ثقافة الذات والذاتية، فإن التيار العام مع الأسف الشديد، ليس فيه ما يكفي من أدوات التقويم والتنبيه التي تعيد وضع الرمز إلى السياق الأصلي، وتذكره بأن ذاته هي التي في خدمة القضية وليس العكس.
متى ينهزم الأقوياء؟
في تأمل عميق لنوعية التحديات التي تواجه الساعين للتغيير الاجتماعي والتاريخي، يمكن تمييز ثلاث تحديات تكاد تسقط أكبر الصامدين:
- القدرة على التجرد والإخلاص والعدل ومقارعة جواذب ومؤثرات الحياة المختلفة.
- الاستعداد للصبر والمصابرة وطول النفس والإصرار على المطلب بكامله دون تنازلات.
-الثبات على المنهج والمنطلقات والموازين التي يحكم بها الساعي للتغير، حياته وتصرفاته.
التجرد التجرد
أما التجرد فسلعة مستحيلة، مهما زعم من زعم أنه قد حازها، والإنسان يعيش تحت نوازع ومؤثرات هائلة إن أخطأه أحدها حرفه الآخر. هذه النوازع والمؤثرات بعضها مكشوف وظاهر، يستطيع المرء أن يتجنبه بسهولة، لكن الكثير منها غير مكشوف ولا ظاهر، ولا يفطن له إلا من رزق العدل والبصيرة. بل إن بعض النوازع المكشوفة والظاهرة يأتي المرء ليتجنبها فيبالغ في ذلك، حتى ينحاز في الاتجاه المعاكس.
ربما يظن البعض أن مشكلة التجرد هي التخلص من حظوظ النفس فقط، لكن الحقيقة أن نوازع الحياة التي تحرف عن التجرد كثيرة، وتضخيم قوة العدو مثلا ليس إلا نموذجا من نماذج هذه النوازع الخارجة عن نطاق حظ النفس. وغالبا ما يعاني الذي يميل مع هذه النوازع ويفشل في التجرد، من شعور خفي قوي بأنه على غير الحق، خاصة إن كان معدنه في الأصل نظيفا.
هؤلاء تقرأ في عباراتهم المكتوبة أو المسموعة الكثير من الدفاع عن الذات، على شكل تزكية للنفس، تأتي في بعض الأحيان بدون مناسبة، وكأن الأصل هو الاتهام. ورغم أن الميل مع النوازع والفشل في التجرد أمر ليس محبوبا، لكن الأمة تقدره وتتفهمه، إن كان الفرد الذي عانى منه قد أبقى أثره على نفسه، لكن الأمة لا تقبل من يريد أن يلبّسها ميله وانحيازه، ويحرفها معه بعد أن فشل في العدل، ولم يتمكن من حيازة التجرد.
النفس الطويل
طول النَفَس والصبر والمصابرة مطلب صعب آخر، لا يناله إلا فئة قليلة من الناس رُزقت الثبات والعناد والتحدي على ما تؤمن به. والقرآن في مواضع كثيرة يثبت هذه الحقيقة من ناحيتين، ناحية حتمية تعرض من يسعى للتغيير لصعوبة في المسيرة وكثرة العقبات والتحديات والمحن أمامه، وناحية أن الذين يثبتون أمام هذه المحن فئة قليلة جدا، وأما الغالبية فينهارون في مراحل مختلفة من المسيرة. وفي قصة طالوت يثبت القرآن أنه قد يكون المرء مؤمنا بالله، ومع ذلك يضعف نفسيا، لأن الإيمان لم يصل به لمرحلة اليقين بملاقاة الله ((فلما جاوزه هو والذين آمنو معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين)).
والأمة تعذر من يتعب ويكل ويمل ويقصر به الزاد، فيتنحى فاتحا المجال لغيره ومتمنيا له النجاح، وداعيا الله له بالثبات، بل ربما تقدر الأمة من يتنحى معترفا بالتقصير والضعف، خاصة إن حرص على أن لا يؤثر تنحيه على مسيرة التغيير. لكن الأمة لا تعذر من يريد أن يوقف المسيرة مع وقفته، أو يريد أن يجعل ما حصل له قدرا محتوما للأمة كلها، وكأن التاريخ يستأذنه وكأن عجلة الزمن توقفت عنده.
الثبات على المنهج
أما الثبات على المنهج فمسألة ليست مستقلة عن التجرد ولا عن طول النَفَس، فغالبا ما يكون الشك بالمنهج منبعثا من الميل مع النوازع والعوارض المختلفة، أو مع الملل والهزيمة بسبب طول المسيرة وكثرة العقبات. لكن يبقى وضوح المنهج ابتداء، وقوة قناعة الساعي للتغيير به، أمرا أساسيا يمنع هذا الشك مهما كانت المؤثرات.
وكثير من الساعين للتغيير يقتحمون المهمة دون وضوح لمعالم مسيرة التغيير، لا من حيث الهدف ولا من حيث المنطلقات، ولا من حيث السياسات التي تحكم حياتهم وتصرفاتهم، ولذلك تهزهم الأحداث والتحديات ومن ثم تهز قناعاتهم بالمنهج الذي يحكم حياتهم. وبعد تتابع الصدمات القوية على من لا يتكئ على منهج متماسك، خاصة مع تخلخل التجرد والنَفَس القصير تظهر على الرمز أو الساعي للتغير -عن قصد أو دون قصد- تنازلات منهجية غريبة تتعارض أصلا مع بدايات المسيرة.
بعضهم مثلا أصبح يتحدث بلغة لا تختلف كثيرا عن اللغة العلمانية بنسختها الليبرالية، وآخرون بلغة لا تختلف عن القُطرية العنصرية، وغيرهم تحولوا إلى أسرى التأسيس الفكري للإعلام الغربي، أو حتى الإعلام العربي المتخلف. لكن الأسوأ من ذلك أن يرفض الساعي للتغيير، أو الرمز أن يُحمّل نفسه الخطيئة أو التقصير أو الضعف أو قلة الصبر، ولا يريد أن يتنحى ويتركها لغيره، فيلقي باللوم على المنهج، وكما يقول بسبب أخطاء بنيوية في المنهج كان الفشل!! والأمة ربما تعذر من يعترف أن ليس لديه وضوح منذ البداية في المنهجية، وأنه ليس كفؤا لأن يتحمل مسؤولية التغيير بسبب هذا الغبش، لكنها لا تعذر من يريد أن يدخل الأمة معه في اضطراب منهجي وتنازلات مبدئية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق