نحب الجيش فنهتف "يسقط حكم العسكر"
لماذا لم يظهر جنرال الكفتة في احتفالات انتصار أكتوبر العظيم؟
أين ذهبت وعود جيش السيسي بعلاج المصريين والعالم من الفيروسات والأمراض الفتاكة، باختراعهم جهازا لم يتوصل إلى مثله أحد؟
كيف يحتفل الذين مرّغوا العسكرية المصرية في وحل فضيحة جهاز الكفتة بانتصارات جيش المحاربين العظيم في أكتوبر/تشرين الأول 1973. كيف كان شعورهم أمام قبر الجندي المجهول، وهم الذين امتهنوا الجندية، حين جاءوا بشخص مجهول، وألبسوه زي الجيش ومنحوه رتبة لواء وطرحوه في الأسواق كمخترع عظيم، ثم أفاق العالم على فضيحة علمية برعاية القوات المسلحة؟
أستغرب كثيراً هؤلاء الذين يغضبهم هتاف "يسقط حكم العسكر"، على الرغم من أن هذا الهتاف لو أبحرت في وجدان الذين يرددونه ستجدهم الأشد حبا للجيش، والأكثر حرصاً على حماية الجندية من عبث جنرالات السلطة الذين ورطوا الجيش في معارك مع الشعب.
إن أجيالا متعددة، كل خبرتها بالجيش أنه القوة الباطشة التي تطارد المتظاهرين (أعداء الوطن) في الشوارع، أو توزع لحوم السيسي وبقولياته وزيوته على الناس أمام كاميرات التلفزيون، أو تنافس القطاعين الخاص والعام في الصفقات والمقاولات..
كل ذلك لأن العسكر يحكم، وبالتالي، هذه هي صورة الجيش في أذهان الناس الآن.
لقد صار ابتزاز من يعارض حكم الجنرالات، ويرفض بيزنس الجنرالات بأنهم أعداء الجيش والوطن نغمة ممجوجة، في ظل هذا الانسلاخ التام من العسكرية الحقيقية.
وفي ذكرى انتصار أكتوبر من كل عام، تقتحمني تلك الصورة الرائعة القديمة عن الجنود، ولا أملّ من روايتها:
كان ذلك قبل عبور أكتوبر 1973 بفترة.. وضع أحمد رفعت مدافع الزمالك كل غضبه في كرة ثابتة من منتصف الملعب تقريباً، وسدد صاروخا استقر في سقف شبكة فؤاد بخيت، حارس مرمى فريق غزل المحلة المخيف في ذلك الوقت.
كنت في عامي الثامن، وكان هو زمالكاويا عتيدا، جلست أشاهد معه المباراة على تليفزيون "نصر" أبيض وأسود بالطبع، قبل أن يجهز حقيبته، ويعود إلى الجبهة.
كان الشهيد محمد وحيد قنديل ضابطاً صغيراً في سلاح الطيران في ذلك الوقت، وأذكر أني طلبت منه أن يشتري لي كرة، مثل تلك التي مزق بها أحمد رفعت الشبكة، فوعدني أن يحضرها معه عندما "ينزل" الإجازة القادمة.
الذهاب إلى الجيش ارتبط في ذهني منذ ذلك الوقت بالصعود، والعودة منه تعني "النزول".. سافر "وحيد"، وتبعه شقيقي "قنديل" ضابط الحربية الشاب، أيضاً، وبدأت المعركة، وجلست أنتظر "كرة أحمد رفعت" التي كانت، ولا تزال، في مخيلتي أجمل وأقوى من كرة برشلونة، والانتصار.
في الأيام الأولى من الحرب، جاء خبر استشهاد "وحيد"، وانقطعت أخبار "قنديل"، لأسابيع كانت أمي خلالها منقسمة إلى اثنين، قسم يحتضن خالتي الثكلى، الأصغر منها، رحمهما الله، والثاني ينفطر قلقا وانتظارا على الابن الأكبر الذي سافر للحرب، ولم يعد.
وذات فجر بارد، أفقنا على صرخة أمي تحتضن "قنديلها" العائد من الجبهة.. أتذكر جيداً أنها طلبت مني مساعدته في تطهير جروح استطالت في ظهره، مثل شقوق محفورة بسكين، لا تزال غائرة في ذاكرتي حتى الآن، وبعد ساعات من نومه، تناول معنا الغداء، وهو يقص علينا طرفاً من ملحمة النصر.. وقال لنا إنه استأذن في هذه الساعات لطمأنة أهله، حيث كان مكلفاً بتسليم جثمان شهيد إلى أهله، في إحدى قرى الصعيد.. ثم ارتدى زيه العسكري، وعاد إلى جبهة القتال في سيناء.
تلك هي صورة العسكرية المصرية في ذهني، وأزعم أنها كذلك في وجدان المصريين، فالجندية مجالها القمم العالية، وليس السفوح المنخفضة، مكانها البراح، وليس الأزقة والحواري الضيقة.
ومن هنا، كانت فترة التشظي النفسي والحزن العميق هي تلك الفترة التي أنزلوا فيها الجيش إلى قاع مستنقعات السياسة بعد الثورة، الأمر الذي أوجع الجميع، وخدش تلك الصورة النقية عن "الجند".
ولأننا نحب الجيش، ونعرف قدره، نهتف من القلب "يسقط حكم العسكر".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق