هكذا ضيعوا “سيناء”.. وهكذا تعود
إحسان الفقيه
“لماذا تركت الحصان وحيدا؟
- لكي يؤنس البيت يا ولدي؛ فالبيوت تموت إذا غاب سُكّانها“.
أطلقها الشاعر محمود درويش وصدق، ولو أراد لزاد عليها:
وتموت إذا غاب عنها دفء العائلة،
وهكذا ماتت سيناء.. إكلينكيًا.
*نعم ماتت عندما فصلتها أُمها عنها، ثم عزلتها وهمشتها، بل وأظهرت لها الجفاء بعدما عادت إلى سيادتها (الشكلية) بعد حرب العاشر من رمضان.
لا أبالغ إن قلت إن هذه السطور تمثّل تفسيرًا لكل ما يجري على أرض الفيروز والتي صارت أرض الأشلاء أو هكذا صيّروها.
فكالعادة، تتجه الذهنية العربية إلى الآثار والتداعيات، وتغضّ الطرف عن أصول وجذور المشكلة ولبابها، وللحديث بداية.
البداية كانت سيناء التي تجري في عروقها الدماء المصرية، شأنها كأي قطعة في الجسد المصري، لكنها وجدت مصر الدولة والنظام -لا الشعب والجماهير- قد فرطت فيها، وتركها اللاهثون وراء صناعة المجد الشخصي نهبًا لبني صهيون.
*نعم ضاعت سيناء أولًا، بعد أن مكّن عبد الناصر للصهاينة في المضايق منذ عدوان 1956، ليأتي بعدها بـ 11 عامًا ويخوض حربًا ضد إسرائيل لم يسخر التاريخ المعاصر من معركة كما سخر من معركة أو نكسة 67، بعد أن بدد عبد الناصر طاقة جيشه في اليمن لتحقيق حلم الزعامة العربية، فواجه اليهود بجيش منهك، وبقيادات لا تمتلئ عقلياتها العسكرية باستراتيجيات الحرب بمثل ما تمتلئ به من فنون التآمر وأدوات القمع والتسلط واقتحام الحياة السياسية بالتلاعب، لتكون النكسة التي قصمت ظهر المسلمين والعرب، والتي شهد العالم خلالها أسوأ صور الانسحاب، حيث ارتوت رمال سيناء من دماء شباب أرض الكنانة، لتضيع القدس، وقطاع غزة، والجولان، وتضيع سيناء.
وضاعت سيناء ثانيًا بعد حرب أكتوبر 1973 والتي وهبت العدو المنهزم من المكاسب أكثر ما كان يحلم به حال انتصاره، بعد كامب ديفيد التي لم تتسلم بمقتضاها مصر من سيناء سوى اسمها.
تاهت سيناء عن الحضن المصري بعدما صارت السلطة على سيناء شكلية، حيث تم تحديد عدد وشكل وتسليح وتمركُز القوات المصرية بما يتلاءم مع مصالح الأمن الإسرائيلي ولتذهب أرض الفيروز إلى الجحيم.
وكان لهذه السلطة الصورية دورها المحوري في أن تكون سيناء مرتعًا لتجارة السلاح والمخدرات، ومسرحًا للعمليات الاستخباراتية والجاسوسية، ومأوى كذلك للأفكار المنحرفة.
وضاعت سيناء عندما تم تهميشها وإهمالها في شتى المجالات: التنمية والخدمات والصحة والتعليم والأمن؛ فتنامت فيها مشكلات الهوية والقبلية.
فلا إعمار ولا خدمات ولا توعية ولا تنمية، بل كان ذلك المكوّن المصري في حالة عزلة عن بقية الأراضي المصرية.
وضاعت سيناء عندما أُهينت الشخصية السيناوية البدوية التي لا تعرف الضيم، وسلّطت عليها آلة القمع الأمني عقب تفجيرات طابا 2004، فمارس وزير الداخلية حبيب العادلي هوايته في إذلال الشعب واقتاد الآلاف من أبناء سيناء لاستصدار اعترافات منهم بشأن منفذي الهجوم.
كان من الطبيعي أن تشتعل نيران العداوة تجاه السلطات من قبل نظام قبلي حر بعيد عن سطوة الأجهزة الأمنية.
الحقيقة تقول:
إن العقيدة العسكرية في الجيش المصري قد تغيرت تجاه أرض الفيروز، فسل أي جندي على الحدود وأنت تحتسي معه كوبًا من الشاي عن نظرته تجاه أهل سيناء، ستكتشف أنه كان ضحية رؤية عسكرية جديدة تجعل من هؤلاء البدو خونة وأهل غدر وجواسيس للصهاينة.
وكان نتيجة لكل هذا أن ظهرت نزعات العنف التي تحركها روح العداوة للسلطات من قبل القبائل السيناوية.
في ظل سياسة التهميش والإهمال هذه، ظهرت الجماعات المسلحة والتنظيمات الجهادية التابعة لتنظيم القاعدة وغيرها، نتيجة هذا الاحتقان الذي اختلط بالتضييق على قطاع غزة وحماية الأمن الإسرائيلي، واستفزتهم العمليات العسكرية الصهيونية ضد القطاع، في القيام بعمليات داخل حدود القطر المصري في طابا وشرم الشيخ.
تلك الجماعات التي نمت ولا تعرف عنها السلطات شيئًا، قد خففت من نشاطها بعد ثورة 25 يناير، لتعود إليه مرة أخرى بصورة أكثر ضراوة بعد انعدام أفق الحلول السياسية واستهداف الإسلاميين وهيمنة الاتجاه العلماني والدولة العميقة.
لقد أدرك الرئيس محمد مرسي أهمية احتضان سيناء وعودتها إلى البيت المصري بصورة فعلية، ووجّه إلى إعمارها، وتنميتها، وتواصل مع قياداتها المحلية، إلا أن مشروعه تجاه سيناء لم يكتمل بسبب انقلاب الثالث من يوليو وما سبقه من إعداداتٍ عرقلت مسيرته.
وكانت القرارات الكارثية السيساوية من خلال الرئيس الصوري المؤقت عدلي منصور، حين اعتبرت سيناء منطقة عسكرية بهدف السيطرة وفرض الهيمنة وإقرار الأمن، والقضاء على بؤر الإرهاب الذي صنعوه بأيديهم.
فمارس الجيش أساليب القهر ضد المجتمع السيناوي، وأذلّ ناصيته، وجثم على صدره وفرض حظر التجوال، وأدت عملياته العسكرية إلى قتل العديد من المدنيين وهدم المنازل، دون أن تكون هناك رؤية لأي حلول سياسية، فقط أمنية قمعية.
وبلغ الأمر ذروته مع الربط المتعمد بين عمليات العنف في سيناء وبين حركة حماس وذراعها العسكري كتائب القسام، وتحت هذه المظلة التي صنعها السيسي بالتفويض الغاشم، تم تهجير أهالي رفح من مساكنهم بعد أن قام إعلام مسيلمة ومرتزقة المحللين والخبراء العسكريين بعمل اللازم من خلال التوطئة والدعوات المتلاحقة لإقامة شريط حدودي وتهجير السكان ليتسنى للجيش هدم الأنفاق وحفظ الأمن (الإسرائيلي).
ومن المضحكات المبكيات، أن السيسي وزير الدفاع في حكومة هشام قنديل، قد أكد في 2012 أن الحل الأمني في سيناء لا يولّد إلا العداوة والثأر، وسيؤدي إلى انفصالها على غرار انفصال الجنوب السوداني.
إلا أن السيسي نفسه -والذي وصل الى القصر الجمهوري المصريّ عبر دبابته العسكرية وبعد أن استبدّت به شهوة المُلك- ينتهج الحل الأمني في التعامل مع أزمة سيناء.
وما تلك العملية الأخيرة التي استهدفت نقطة أمنية للجيش في سيناء وغيرها، ما كانت لتتم إلا بوجود حاضنة شعبية للجماعات المسلحة، تجعلها تتحرك في أريحية وتنفذ مثل هذه العملية الخطيرة بهذه الدقة، الأمر الذي يعني أن سيناء لم تعد على الخارطة المصرية.
لقد أنشأ السيسي وحدة خاصة لمكافحة الإرهاب وزودته أمريكا بالأباتشي لاستخدامها على أرض سيناء لا ضد الصهاينة، وفي ذلك صرّحت (جين بساكي) المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية قائلة:
“لمصر الحق في اتخاذ خطوات لتحقيق أمنها و تأمين حدودها، و قدمنا لها مروحيات الأباتشي دعمًا لجهودها“.
نعم، استجاب السيسي بصورة كاملة لتغيير العقيدة القتالية للجيش المصري لكي تكون أولويّاته محاربة الإرهاب، وهو ما دلت عليه وثيقة ويكليكس المسربة عام 2008 التي تؤكد أن المسؤولين الأمريكيين طالبوا بتغيير عقيدة الجيش المصري القتالية لتكون الأولوية في محاربة الإرهاب والعمل خارج الأراضي المصرية، وهو ما يعطينا تفسيرًا لعمل الجيش المصري في ليبيا والسودان وحدود العراق والسعودية.
هذا الاحتقان المستمر في سيناء، واتخاذ الحل الأمني سبيلًا أوحد للتعامل مع أزمة سيناء، لن يؤدي إلا إلى مزيد من العنف يدفع ثمنه أهالي سيناء، وقد يدفعنا للاتجاه بالقول إن سيناء لن تكون على الخارطة المصرية في التخطيط الجديد للدولة المصرية التي يريدها السيسي، بحسب ما ذكر بعض المحللين والمراقبين.
وأؤكد في هذا المقام على أن قبلة الحياة التي ستمنح سيناء العودة إلى العائلة المصرية، لا تتمثل في معالجة سياسية أو أمنية بمعزل عن الأوضاع الحالية في الداخل المصري، فهما ورقتان في ملف واحد.
ومن وجهة نظري فإن أزمة سيناء لن تُحلّ طالما استمرت الحكومة الانقلابية التي تخدم أكثر ما تخدم الكيان الصهيوني والتي حوّلت جيش أرض الكنانة إلى مرتزقة، ولن يكون هناك حلّ طالما السيسي وفريقه الذي يُزيّن له سوء عمله هم من يملكون زمام الأمر في مصر.
وقالها البلتاجي القيادي الإخواني سابقًا، عندما أكد أن نزيف الدم في سيناء لن يتوقف حتى يسبقه ذلك في الداخل المصري وتعود الشرعية، واتّهم -بتأويل متعسف لكلامه- بسبب هذا التصريح ( بالتحريض على العنف والإرهاب) وأن جماعة الإخوان المسلمين تقف وراء عمليات العنف في سيناء.
التفريط في سيناء على هذا النحو أكبر جريمة تُرتكب بحق الشعب المصري وأمنه القومي؛ لذلك، فلن يستعيد سيناء إلا الشعب المصري، والذي سوف يستكمل ثورته ويُصحّح المسار، وهكذا أرى المشهد في مصر.
الحراك الثوري مستمر ينتظر الاصطفاف، وتكتّل (30 يونيو) انهار فعليًا، والظهير الشعبي بدأ جزء كبير منه ينفضّ وأيقن أنه كان ضحية خديعة كبرى، وأحلام الفقراء والبسطاء تبدّدت وتُنذر بثورة جياع، وحماقات السيسي وقراراته الكارثية تتوالى داخليًا وخارجيًا.
فعما قريب تعود الثورة، ويعود الثوار إلى الميدان، وسترجع أرض الفيروز، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق