الثلاثاء، 10 فبراير 2015

«الرز» مقابل «البتاع»!


«الرز» مقابل «البتاع»!


أحمد بن راشد بن سعيّد


روت لي أمي أن الرئيس جمال عبدالناصر سخر ذات يوم (في عام 1963 تقريباً) من «نحول» الملك فيصل بن عبدالعزيز قائلاً إنه لا يملأ عباءته، وفي المساء خاطب مذيع في راديو إسرائيل عبدالناصر بقوله: أيها الرئيس المصري، إن العاهل السعودي الذي لا يملأ عباءته، يملك تحت كوفيته ما لا تملك.
لم يكن المشهد إلا أحد تجليّات الاحتقار للملكيات الخليجية (لاسيَّما السعودية) في ثقافة النخبة العسكرية المهيمنة في مصر منذ انقلاب 23 يوليو 1952؛ لذا، لم يكن مدهشاً ولا مفاجئاً التسريب الذي بثته قناة «مكملين» عن حديث دار بين عبدالفتاح السيسي، قبل عام إبّان كان وزيراً للدفاع، وبين مدير مكتبه عباس كامل، ورئيس المخابرات العسكرية حينها محمود حجازي (رئيس أركان الجيش حالياً)، وسخر فيه من دول الخليج وشعوبه بطريقة لا تصدر عن متعلمين، فضلاً عن قادة لأكبر دولة عربية.
من أبرز ما ورد في التسريب ما يلي:
السيسي: «...إحنا محتاجين عشرة (بلايين دولار من السعودية) يتحطوا في حساب الجيش، والعشرة دول ساعة ما ربنا يوفق وينجح هيشتغلوا للدولة. وعايزين من الإمارات عشرة زيّهم، والكويت عشرة برضه، ده بالإضافة لقرشين يتحطوا في البنك المركزي، ويكمل حساب السنة بتاعة 2014».
عباس كامل: «هههههه ويغمى عليّا ويغمى عليّا».
السيسي: «بتضحك ليه؟ يا عم الفلوس عندهم زي الرز، يا عم».
كامل: «ما أنا عارف يا أفندم».
ثمة اتفاق على أن فلوس الخليج كثيرة كالرز، لاسيَّما ليلة عيد الفطر، عندما تمتلئ المدن والقرى بمتجولين يبيعون أكياس رز بأحجام مختلفة يشتريها الناس للزكاة.
أثرياء جداً هم الخليجيون؛ جيوبهم وحساباتهم ملأى، ولا يعرفون ماذا يصنعون بكل هذه الأموال الهائلة «المتلتلة».
 قبل سنوات ركبت سيارة أجرة من مطار القاهرة بعد اتفاق على الثمن، وعندما وصلت الفندق، طلب السائق زيادة في الأجرة، فقلت: هذا ليس اتفاقنا، فقال: «هوّا كتير عليك يعني»؟
في مطلع الثمانينيات قال لي عامل حجر لبناني في الرياض وهو يقنعني بزيادة أجرته: «دا جلدك محشي فلوس حشي!».
بالطبع، لا يمكن تعميم هذين المثالين، كما أن كلا الرجلين، فيما بدا لي، لم ينالا حظاً من التعليم، وهما ليسا في مناصب قيادية عليا يُفترض في أصحابها الوعي والمسؤولية وتمثيل الشعب والحرص على كرامة الوطن واستقلاله.
 كنت أيضاً قد سمعت في الثمانينيات من زملاء دراسة أميركيين عبارات مثل: «أنتم معشر السعوديين تعومون على بحيرات نفط».
سألني بعضهم مراراً: «هل لديك برميل زيت بجوار بيتك؟».
قلت مرة لأستاذ كان يدرّسني: أنا ذاهب في إجازة إلى السعودية، هل توصيني بهدية ما؟ أجاب ضاحكاً: «أحضر لي بعض الرمل!».
طالب أميركي قال لي ذات مساء في لقاء خارج الجامعة: «بلدك في نظري ليس إلا: صحراء، نفط، وحرب». كان ذلك عام 1987، قبل نشوب أي حرب في الخليج.
ما الهدف من سرد هذه الذكريات؟
إنه التنبيه إلى خطورة «القولبة» أو «التنميط» الذي يغتال الشخصية، ويعيق العلاقات بين الأفراد والأمم، ويشكل حاجزاً يشل التفاهم المشترك والاحترام المتبادل.
وولتر لِبْمن (أبو الصحافة الأميركية) هو أول من أورد مفهوم «الصور النمطية» (stereotypes) في كتابه «الرأي العام» (Public Opinion) الذي صدر عام 1922.
 استعار لِبْمن المصطلح من عالم الطباعة (يعني الصفيحة التي تُستخدم لإنتاج نسخ مطابقة للأصل)، ليصف به ميل الإنسان إلى اختزال المعلومات والمواقف، ووضع الأشخاص والأفكار والظواهر في «قوالب» عامة، مريحة، ومتجانسة؛ من أجل فهم أسهل. تمثّل الصورة النمطية رأياً مُبسّطاً، أو موقفاً عاطفياً، أو حكماً متسرّعاً، وتتسم بالتعميم والتشويه والضحالة والاستعصاء على التغيير.
 يقول أستاذ الاتصال السياسي، دنِس ديفِس (كان المشرف على برنامجي للماجستير): عندما نُشكّل انطباعاً نمطياً عن شعب ما، فإن هذا يعني عدم اكتراثنا به، وأنه ليس جديراً منا باهتمام يكفي لفهمه وإقامة علاقات معه. إذا قلت مثلاً إن أهل قرية ما «بُخلاء»، فهو تصوير نمطي، وإن كان قد يستند إلى تجارب حقيقية تبلغ نسبتها في القرية %10 مثلاً.
 وإذا وصفت أهل بلد ما بأنهم «قُساة»، فهي نمطية/قولبة تخلو من التبعيض، وتتجاهل التفاصيل والاستثناءات.
لغة «الفلوس المتلتلة اللي زي الرز» قولبة ساذجة؛ صادرة عن تفكير نمطي سطحي، يسقط من حسابه العمليات الإنسانية والاجتماعية المعقدة والمتشابكة، ويختزل أمماً وأنظمة في أعداد لا تُحصى من حبّات «البسمتي». هنا يتوارى الإنسان الخليجي بثقافته وفكره وعاطفته خلف تلال من «الرز» متجرداً من الهوية والكرامة كعبد دان لسيده، أو جارية وهبت نفسها لمولاها.
في استعارة «الرز» أيضاً دلالة على «النهم» و «الشّرَه»، فالخليجي «أكول» لا يقاوم إغراء «الكبسة»، وربما كانت «كرشته» أكبر من عقله.
دول الخليج في المخيال العسكري المصري هي «البقرة الحلوب» التي يدر ضرعها الحياة في أفواه العسكر، ليواصلوا سلب اللقمة من أفواه الكادحين، والدوس بأحذيتهم الغليظة على رؤوس «الغلابة».
«الرز» مقابل «البتاع». هكذا أشار عباس كامل في التسريب إلى الدور المنوط بمصر المحروسة التي قزّمها الانقلابي إلى «بندقية للإيجار» (hired gun)، وارتضى لجيشها أن يكون قطعاناً من المرتزقة ينفذون مَهَمّات قتالية خارج الحدود بمبالغ تُحوّل إلى حسابات خاصة لقادة الجيش، وليس للغلابة؛ ليس لمصر.
«بغض النظر عن الوطنية والقومية العربية.. كان لازم وبمنتهى البتاع زي ما سوريا عملت.. وكان لازم.. في كل المواقف الرئيسية هات خد... أنا جايلك عام 90 عشان أعمل لك البتاع... هات... على طول، مافيهاش فصال.»..
هكذا قال كامل في التسريب، مشيراً إلى حرب الكويت. السبب أن دول الخليج ليست سوى «أنصاف دول» بحسب تعبيره، و «أنا ورايا شعب جعان ومتنيّل بنيلة، وظروفي أنيل، وأنتو اللي عايشين حياتكو بالطول والعرض، وفلوسكو متلتلة قد كده». يا للعار! 
مصر التي شكلت قاطرة النهضة للأمة العربية عبر السنين في التعليم والآداب والفنون تختطفها في غفلة من التاريخ طغمة فاسدة جاهلة، تقتات بالسلب والابتزاز، وتوغل في سفك دماء المصريين وانتهاك أعراضهم،وكما غرّد الشاعر المصري، محمود سامي البارودي:
 أبى الدهرُ إلا أن يسود وضيعُهُ/ويملكُ أعناقَ المطالبِ وغدُه.
 كان نصيب قطر، من الأذى كبيراً في التسريب. لا غرو، فقطر أول دولة رفضت انقلاب3 (يوليو) 2013 وما أسفر عنه من فظائع.
بعض الخليجيين الذين طالما تشدّقوا بالوطنية سارعوا إلى نفي صحة التسريب. «فبركة إخوانية»؛ هكذا عبّر الليبروفاشي الخليجي مردداً صدى الليبروفاشي المصري، محجماً حتى عن كلمة غضب يتيمة على كل هذه الإهانات للخليج شعوباً وقادة. أحدهم حمزة السالم، أكاديمي سعودي في الاقتصاد، كتب في تويتر أن التسريب «لا شيء فيه»، و «لا يأبه له إلا السفهاء»، فكل «رجل يعمل لبلده»، و «كلّ يبحث عن مصلحة بلاده» (هل شتم السعودية والخليج أمر مقبول؟)، «والتجاوزات في الألفاظ... لا يسلم منها أحد»، «ومصالح الدول وأخلاق الملوك لا تنزل لحديث خلوة شخصي، وأثبتت الجزيرة أنها قناة شوارعية».
مرة أخرى يطل البارودي منشداً: 
يرى الضيمَ يغشاه فيلتذّ وقعَه/كذي جرَبٍ يلتذّ بالحكِّ جلدُهُ.
لكن كثيراً من دول الخليج تتحمل قسطاً كبيراً من المسؤولية عن نشوء الصورة النمطية عنها، وعن تغذيتها وسرمدتها، من خلال المراهنة على «النخب» الفاسدة لا على الشعوب التي هي العمق الحقيقي للعلاقات والمصالح.
 الإقبال بنية صادقة على إصلاحات حقيقية لا شكلية تتضمن المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار، وتصحيح أخطاء الماضي، ومنها التعامل مع الملف المصري، كفيل بفرض احترام هذه الدول على المستويين الإقليمي والدولي.
العهد الجديد في السعودية بقيادة الملك سلمان، وما شهده من تغييرات واسعة أثارت موجة من التفاؤل، يفتح نافذة أمل كبيرة. الوقت يضيق، لكنه لم يفت بعد.

• @LoveLiberty

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق