اليمن ومحنة المشهد السوري
مهنا الحبيل
أكمل الحوثيون الإجراء التنفيذي الأخير لانقلابهم والذي في الأصل يُجيّر لمصلحة الاحتلال السياسي لإيران، الذي يبسط نفوذه اليوم في بلد عربيٍ مشرقي جديد لا ينتزعه من استقلاله فقط، ولكنّه يُفجّر فيه كل عناصر التوتر والصراع الطائفي والانقسام الاجتماعي المسلح، رغم أن اليمن منذ مئات السنين كما أقطار أخرى لم يكن فيه الاختلاف الطائفي أو المذهبي مصدر حروب وصراع دموي قبل صعود الثورة الإيرانية وإطلاق مشروع التشيّع الجديد، وتمدد أذرعته الحركية في المشرق.
وأحد أكبر عناصر الفشل للخلاص الوطني من هذه الكوارث، هو تحوّل دورة الغبن الجديدة في الوطن العربي لتفاعل نفسي عاطفي مضطرب، وخاصة الحاضنة السُنية التي كانت قاعدة الأمة تاريخيا وراعية الأقليات فأصبحت اليوم وكأنها أقلية طريدة ينهش بها النظام الرسمي العربي وتُنهكها تقاطعات إسرائيل والغرب وروسيا وإيران في حين تضرب داعش خاصرتها، وتقفز على جسدها مجموعات طائفية أيدلوجية صنعها التشيع الإيراني الجديد، الذي يمزّق علاقات الطوائف وعناصر الوحدة والتعايش والمصير المشترك.
فيُصبح الرأي العام والمثقف العربي على حقيقة نفاق هذه المجموعات التي شملها في خطاب الحقوق الدستورية ودافع عن حقوقها السياسية والإنسانية كمواطنين ولكن ظلّت تعزف على حقوق المظلومية الطائفية لها، في حين ترفع شعار الحق الديمقراطي الجمعي والشراكة الوطنية، التي تبددت فور وصولها لقوة القمع والنفوذ شراكة او أصالة، كما جرى في إيران ثم العراق وسوريا ولبنان واليوم يُدحرج اليمن الى قبضتها.
ولا فائدة من إعادة ظروف وعناصر الدعم للإيرانيين الذي مكنّهم من اسقاط اليمن فقد سبق أن ذكرناه مُفصلاً، ولكن اليوم تحتاج الثورة والقوى الوطنية الحليفة في اليمن، الى الحذر الشديد والتأمل والمراجعة في المشهد بعمق، واستحضار التجربة السورية المروّعة والصفات المشتركة التي ممكن أن تُستنسخ فتضرب اليمن مجدداً.
هذا الحذر اليوم يستدعي ضرورة التروّي وفصل أحاديث التعبير الشخصي وتغطيات الإعلام الجديد الملتهبة، عن توجهات التفكير المرحلي والاستراتيجي للثورة، إن كانت قررت وكما صدر في بيانها الأول بعد بلاغ الحوثيين الانقلابي من القصر، مقاومة هذا الاستبداد الداخلي وردائه الإيراني.
إن هناك عدداً من الجوانب المهمة تحتاج قوى اليمن الوطنية الرافضة للاحتلال وعي ما آلت اليه في سوريا جيداً، كما عليها أن تُدرك الفروق المهمة في أرضها الوطنية
وأول ذلك الأمر عدم التخلي عن الوحدة الوطنية الاجتماعية والرابط الإسلامي المتين المشترك بين مدرستي الامام الشافعي والإمام زيد، وأن التطرف الطائفي وجانبه المسلح، إنما وُلد تحت ثقافة أيدلوجية جديدة للتشيع الإيراني المتشدد وليس عبر علاقة خصومة بين الزيود والشوافع أخذاً بالاعتبار قضية مهمة وخطيرة.
وهي أن إيران ستعمل بقوة وبمد اعلامي وثقافي وتحشيد الاحتقان الطائفي، وخلال سنوات محدودة لصناعة بعث طائفي تقسيمي عنيف في الوجدان اليمني عبر نزع مدرسة الإمام زيد من صدور أكبر عدد ومساحة ممكنة وباسم الزيدية لكن يتم إحلال معتقدات الشيعية السياسية المتطرفة والمرتبطة بالغلو التاريخي التكفيري ضد المسلمين الذي بعثته الثورة الإيرانية وقاتلت شعوب المنطقة عليه.
فالتمسك برابط الوحدة الأممية الإسلامية مهم جدا لأبناء اليمن وعدم تمكين مشروع الانقسام، الذي يسعى لتحويل الحشد الطائفي لذراع أمنية تُنهك اليمن بميلشيات قمعية تضرب الوحدة باسم الجيش بعد أن اخترقته كليا، أو باسم المؤسسة الامنية.
أما الدرس الثاني فهو عدم المراهنة على موقف دول الخليج العربي، واستنزاف الرأي وانتظار المعونة عبرهم، فهذا سيُنهك الثورة والمقاومة الشعبية ويُعرّضها لانتكاسات كبرى، كما جرى في سوريا، وهناك فرق بين أن تَمد الثورة الشعبية جسورها لكل من يدعمها باستقلالها بما فيهم دول الخليج العربي، خاصة في ظل المخاوف الحقيقية لما بعد سقوط اليمن، وبين قياس الخطوات أو المسارات وفقاً لضجيج إعلامي لا يُحوَّل للواقع التنفيذي.
خاصة أن دعم أطراف خليجية لا يزال قائما لتحالف بين الحوثي وأحمد علي صالح سفير اليمن حاليا في أبو ظبي ونجل الرئيس المخلوع، وهو ما أكده في قناة العربية من استديوهاتها في الامارات عبد الله حميد الدين حفيد الحكم الإمامي المتخلّف المتحالف مع الحوثيين، وهذه معلومة وتصريح مهم يجب أن يؤخذ بالاعتبار، فبكم سيموّل هذا الحلف وكم من دماء الشعب ستُسفك لتمكينه.
وفي الجهة الأخرى فإن تواجد أجنحة السلفية الجهادية في داعش والقاعدة في اليمن، ودخولها على خط المقاومة الشعبية يُعزز قضية تفتيت الميدان الذي ضرب الثورة السورية، كما أن انتقال مشايخ دين متشددين من الخليج العربي الى اليمن لتوجيه بعض المعارك أو صناعة بعض الجبهات في أرضه لحساب تحالفات عشوائية مهيأ أكثر من سوريا.
وهنا الثورة والقوى الوطنية والشعب اليمني ليسوا مسؤولين عن تعزيز حضور هذه التيارات المتطرفة، التي استدعاها الاحتلال الإيراني وسيترتب عليه مواجهات وانضمام المغبونين من القهر الحوثي لها، لكن المشكلة أنّ هذا الدخول سيُعزز الدعم الأميركي القوي للحوثيين واحمد صالح، وينسج الغرب مفاصل سياسية يضرب بها الثورة والمقاومة الشعبية باعتبار أن الحوثي الإيراني حليف المرحلة الأكبر للنظام الدولي.
إن كل هذه العناصر حين تلتقي ضعف البناء الوطني الموحد للرافضين للاحتلال الإيراني السياسي والانقلاب الذي يحول اليمن الى إقليم بائس تحكمه الخرافات والمآتم، واستدعاء الصراع الطائفي التاريخي، وتَسقط كل التضحيات ليس اليوم بل منذ عهد المقاومة للإنجليز والاستبداد الإمامي وما ورثه علي صالح منه، كل ذلك يجعل بناء المقاومة هش، ولا يقوّيه ضجيج في تويتر، أو عمليات محدودة تستهدف الحوثي وميلشياته، فمعادلة الاحتلال لن تتخلى عن مشروعها وحلمها التوسعي لضربات وإن تعددت، ولكن سيبقى الزحف والتغول الاستراتيجي في حين تنزف الدماء من الشعب اليمني.
ولذلك فإن صناعة نظرية سياسية واضحة للمرحلة ومن ثم تصور استراتيجي شامل، يُنظّم هذه المقاومة الشعبية، ويتقي ما آلت له أوضاع الشعب السوري، ويوسّع دائرة الرأي ولا يقطع أوصاله السياسية بناء على خلاف موقف أو تصريح، هي رسالة مهمة لرافضي هذا العهد.
وتَصعد فرص الإنقاذ، مع تعزيز صناعة كتلة الرفض بقوة ممانعة صلبة بين التجمع اليمني للإصلاح والقوى الوطنية وشباب الثورة والقبائل والضباط المستقلين عن الجيش على أساس يمني وعربي وليس مذهبي، مع الوعي بأن الحوثي لن يُسلّم شيئاً في أي حوار وطني مالم يُضغط على الأرض، وكل ما يُسلمه ورقاً يسحبه ميداناً، هذه هي حصيلة التجربة معه، فضلاً عن كل برامج الأذرع الإيرانية في المنطقة، وطريقة طهران في إدارة نفوذها الذي تُغازله واشنطن اليوم، وتقصف خصومه من القبائل بطائراتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق