السبت، 14 فبراير 2015

لا بواكي لهم

لا بواكي لهم

تمنيت لو أن العرب والمسلمين عبروا عن غضبهم لمقتل المسلمين الثلاثة في الولايات المتحدة بمقدار يعادل ربع الغضب الذي أعلنوه حين قتل اثنان من المسلمين ١٢ من الفرنسيين العاملين في مجلة شارلي ابدو.
لم أتطلع إلى حملة غضب مماثلة، سواء كانت مسيرة كبرى يتقدمها زعماء العالم، أو تغطية إعلامية واسعة النطاق تسبر الأغوار وتتحرى الخلفيات، أو تصريحات لكبار المسؤولين تتنافس في الاستنكار وتدعو إلى التدبر والمراجعة، أو بيانات للمؤسسات الدينية تعلن البراءة من الجريمة وفاعليها. 
لم أتوقع شيئا من ذلك، لأن القتلى مسلمون من ذوي الدم الرخيص في بورصات السياسة العالمية، ولأن القاتل أمريكي ينتمي إلى الجنس الأبيض موفور المكانة ومغفور الذنب، ولأن الإعلام الغربي في مجمله ما عاد يجد في قتل المسلمين خبرا مثيرا، بعد كل الدم الذي لم يتوقف عن النزف في بلادهم.
ناهيك عن أنهم في أوروبا يستنفرون هذه الأيام للتخلص من المسلمين بأي وسيلة، بدعوى أنهم باتوا يهددون هوية القارة. لهذه الأسباب فقد استبعدت فكرة التماثل في الأصداء، ووجدت أن المقاربة العددية قد تؤدي الغرض.
فقلت إنه إذا كان قتلى الفرنسيين ١٢ شخصا، والمسلمون الذين قتلوا ثلاثة فقط، فربما كان مفهوما أن يكون نصيب الأخيرين من الغضب ربع حظ الأولين، ولأجل ذلك أبديت استعدادا لغض الطرف عن أن الفرنسيين لهم سجلهم الحافل بالطعن في نبي المسلمين وعقائدهم، الأمر الذي يشكل إهانة للضمير المسلم ما كان ينبغي أن يرد عليها بقتلهم. 
كما غضضت الطرف عن سجل المسلمين الثلاثة يسر ورزان وضياء، الذين شاهدنا صورهم وهم يوزعون الطعام على الأمريكيين الفقراء.
وقرأنا عن إسهامهم في جمع التبرعات للاجئين السوريين، وفي غير ذلك من أنشطة الإغاثة والبر.
الشاهد أنني تفهمت تواضع ردود الأفعال في الولايات المتحدة وأوروبا. واقتصارها على فعاليات نظمها زملاء القتلى في كارولينا الشمالية وأعضاء الجاليات الإسلامية في الولايات المتحدة وأوروبا، إضافة إلى حملات التضامن من جانب أعداد من المواطنين الغربيين العاديين الذين لا يزالون يحتفظون بيقظة الضمير ونقاء السريرة.
في حين أن البعض الآخر حاول التستر على الجريمة بدعوى أن الكراهية لم تكن سببا لها، وإنما كان سببها عراكا حول مكان إيقاف السيارات.
أيا كان رأينا في ردود الأفعال الغربية فإنها تظل مفهومة، أما غير المفهوم وغير المبرر فهو التواضع الذي اتسمت به الأصداء في العالم العربي على الأقل.
فنحن بإزاء جريمة بشعة أنهت حياة ثلاثة من الشبان الأبرياء، الذين امتدحهم جيرانهم وكل من عرفهم، ولم يكن هناك سبب لقتلهم سوى كراهيتهم باعتبارهم مسلمين.
في تفسير محدودية ردود الأفعال العربية خطرت لي عوامل عدة. منها أن المسيرة الكبيرة التي شهدتها باريس إثر مقتل الفرنسيين الاثني عشر دعت إليها الحكومة وتقدمها رئيس الجمهورية. وهو عامل ليس متوافرا في الحالة التي نحن بصددها.
وفي حدود علمي فإن السلطة في رام الله لم يصدر عنها شيء يستنكر عنصرية قتل الفلسطينيين الثلاثة.
من تلك الأسباب أيضا أن أغلب أقطار العالم العربي تعيش حالة شديدة من الانكفاء على الداخل، حيث لكل قطر معركته الخاصة، الأمر الذي أدى إلى تراجع أولوية الهموم القومية.
 من تلك الأسباب أيضا أننا لم نعد نلمح وجودا يذكر للغضب العربي الذي تمنيته في قاموس الأنظمة العربية المعاصرة.
فما تفعله إسرائيل من تهويد وافتراس في القدس وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة ما عاد يغضب أحدا، وكذا تدمير غزة وتجويعها وخنقها بالحصار. وعربدة الطائرات بغير طيار في اليمن التي ما عادت تبالي بقتل الأبرياء مقابل اصطياد واحد من المطلوبين، وهو ما بات أمرا مقبولا يتم بموافقة بعض الحكومات، وبراميل المتفجرات التي أصبحت تلقى فوق رؤوس السوريين الذين قتل منهم أكثر من ٢٠٠ ألف، هذه بدورها أصبحت أخبارا عادية، مثل تلك الجرائم الكبرى ما عادت تفجر شيئا من الغضب.
في مثل هذه الأجواء التي تعتبر فيها المذابح وحملات الإبادة أمورا مألوفة وغير مستغربة، فإن قتل ثلاثة من المسلمين في الولايات المتحدة لأسباب عنصرية يكاد يفقد أهميته.
لدي سببان آخران أخجل من ذكرهما، أحدهما يتعلق بكرامة وقيمة الإنسان في العالم العربي، والثاني يخص عقدة النقص الشائعة في بعض أوساطنا أمام الغرب والغربيين. ولأن القيمة سابقة الذكر متواضعة إلى حد كبير لأسباب لا تخفى على فطنتك، في حين أن قيمة المواطن الغربي لا تزال تحتفظ بمكانتها الرفيعة، سواء في نظر حكومته أو في نظر أنظمتنا، فإن ذلك له انعكاساته على الحالة التي نحن بصددها.
أعني أنه يبرر اللامبالاة وعدم الاكتراث بمصير الأول، في الوقت الذي يفسر الغضب والاستنفار لأي مكروه يصيب الثاني خصوصا إذا كان مصدره عربيا أو مسلما.
لم يشفع للمسلمين الثلاثة الذين قتلوا في الولايات المتحدة أنهم يحملون الجنسية الأمريكية، لأن جذورهم العربية ــ الفلسطينية خصوصا ــ حسبت عليهم وكانت سببا في تواضع أصداء الغضب جراء قتلهم. يرحمهم الله ويلهم أهاليهم صبرًا من عنده.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق