الأحد، 5 أبريل 2015

عودة إيران لحراسة الجيران 1/2

عودة إيران لحراسة الجيران 1/2
 د. محمد بن حامد الأحمري 

بقلم: د. محمد بن حامد الأحمري 
مدير منتدى العلاقات العربية والدولية
*عن هذه النسخة من البحث:


هذا مقال سبق نشره عام 2000م أو بداية 2001م، وجدت تاريخ كتابته بحسب برنامج ويندوز يؤرخ: "16\10\2000م" نشر في مجلة: الصراط المستقيم، وكان موضوع غلاف المجلة آنذاك، ولأن المجلة لا توجد لدي الآن فلم يكن من الممكن التأكد من النسخة المطبوعة، وكم تم نشره من المقال، كما لم أجده مصححاً ولا مراجعاً، ولا أدري هل خضع المقال لتصحيح أو تحرير من المجلة فكان أحسن تحريراً من هذه النسخة.

فقد وجدت أني تركت بعض فراغات تستكمل، وهوامش لم تتم، فتركتها تقريبا على حالها، لتوافق المنشور سابقا أو وضعتها بين [ ..]، وهو مشروع كتيب عن ظروف تلك الفترة، وقد راجعه الدكتور عبد الله النفيسي آنذاك بعد نشره، وأبدى بعض الملاحظات، [لم تغير هنا] وأخبرني حينها أنه سينشر كتابا في الموضوع فأجلت نشر كتابي، ولما أرسل لي كتيّبه مطبوعا عن مشكلات تلك الفترة، عزمت على توسيع البحث وأن أعود للموضوع بشكل مفصل.

وكما يرى القارئ، فإن هذا البحث منه أجزاء كانت وقتية لتلك الفترة، ومنه أجزاء فكرية وسياسية يمكن أن يستفاد منها دون زمن، ومنها استشرافات جاءت كفلق الصبح.

ملاحظة العصر: هذه المقدمة كُتبت في النشر الثاني للمقال سنة 2007 تقريبا.


* أمريكا والخليج:
 قال المتنبي:
جوعان يأكل من زادي ويمسكني    لكي يقال عظيم القدر مقصود

ويلمها خطة ويلم قابلها               لمثلها خلق المهرية القود

وعندها لذ طعم الموت شاربه       إن المنية عند الذل قنديد


قبل قرابة خمسة وعشرين عاما [أي في منتصف السبعينيات]، خرجت دراسة إستراتيجية في الولايات المتحدة، تتحدث عن أن العقود القادمة لن تحمل للولايات المتحدة أي مفاجآت، وبعد أقل من خمس سنوات جاءت المفاجأة الكبيرة الثورة الإيرانية، وبارت التقديرات والمحاولات الكبيرة للإمساك بعنان الشعوب وأقدارها، فالله وحده هو من يملك كل شيء ويفعل ما يشاء ويقدر، ولا يضيع عمل عامل يجد لتغيير ما به.

أما الناس فيحاولون ويقدرون ويغفلون، وقد أذن الله لهم وفطرهم على البحث والمحاولة وأرشدهم لطرق العمل والحركة والتفكير والتغيير، ولكن منهم من يقف حائرا فيجعل الحركة لغيره.

تقفون والفلك المسير دائر *** وتقدرون فتضحك الأقدار

فما أحوجنا أن نغادر الوقوف، ونسعى للتفكير ثم العمل على صناعة مستقبل لنا دينا ودنيا، كما نرى الأمم غيرنا تصنع مستقبلها فوق رؤوسنا، وكأننا مواد بناء جامدة لهم يصنعون بها مستقبلهم كيف أرادوا.

وعلينا أن نحدد لنا أهدافا نعمل لبلوغها. فالناس قطعان هائمة حتى تجد هدفا وغاية فتنقلب طبائعها، وتتحرك فيها طاقات ما كان يراها الإنسان في نفسه ولا أمته قبل لحظات الوعي.

في طريق البحث عن مادة هذا المقال، وجدت نصاً لأحدهم يرثي مستقبل القوة الأمريكية، ويقول: "أمر محزن ألا يكون لدينا تحد كبير، وأكبر منه أن يمر زمننا بهدوء ورغد وسهولة، إن ذلك علامة هرمنا وبعث حياة جديدة في مكان آخر من العالم!"

تلك ملاحظات قوم إحساسهم بالتاريخ السارب من اليد عميق، يتتبعون مرور الزمان، ويدرسون ملامح الحضارات وسحنة وجوهها في زمن الشباب والكهولة والشيخوخة. ويبحثون بكل جد عن وسائل تحافظ على حياة حضارتهم أشد من حرصهم على برنامج كومبيوتري جديد، أو على صناعة علاج لداء خطر.
ومسكين من يفد من عالمنا ليقرأ في هذا الكم الهائل عندهم الذي يبحث في الإستراتيجية أو فلسفة الحضارة، أو مستقبل علاقاتهم بنا أو بغيرنا، لضخامة المادة المتوفرة التي تتجاوز قدرة فرد أو أفراد على الإحاطة بها.

وقد نبالغ في تقدير قولهم ودراساتهم ونغر أنفسنا بتتبع آرائهم المتضاربة، أو قول بعضهم ضد بعض. ويخيل لنا أننا بتحيزنا لمدرسة أو فكرة نكون قد حسمنا الصراع لصالح آرائنا العاطفية.

فمرة نصطف مع شبنجلر طربين فرحين بـ"تدهور الغرب"، أو مؤمنين على قول فوكوياما: بأن العالم قد انتهى تاريخه (صراعه في التطور الفكري والعملي) عند الرأسمالية والديمقراطية الليبرالية، ولم يعد للفكر مستقبل خارج هاتين الفكرتين. ولكل من الفكرتين جذورهما الدينية التي يعوزنا التحقيق فيهما. كما أننا لا نروض طرق البحث بأنفسنا، بما نعرفه من حالنا وحال غيرنا. ويلحق نتيجة لذلك، ألا يكون لنا دور في رسم مستقبل الحدث.


* حيوية على الشاطئ الآخر:

ومنذ فترة ليست قصيرة، وبعد متابعة تلك الدراسات والمقابلات الطويلة مع أو عن كتاب ومفكرين من إيران، يهتم بهم غربيون كثيرون من أمثال: يوان كول وروبين رايت، ونكي كيدي، وغيرهم.

ومجمل هذه البحوث والدراسات تتعرض لدراسة الحركة الفكرية الكبيرة التي تتفاعل في المجتمع الشيعي. ومستقبل الحكومة والشعب، الذي يضطرب بما يزيد عن مائة وخمسين منظمة أو نقابة اجتماعية وسياسية، وما يزيد عن ألف ومائة مطبوعة ما بين يومية وفصلية. وحركة فكرية لم تعشها تلك البلاد منذ قرون، وينشر في إيران ما معدله عشرون ألف عنوان، أقل من ثلث ما ينشر في بريطانيا من الكتب. وبها عدد من المجلات والصحف تنشر بطبعات عربية، مثل التوحيد والوفاق، والطاهرة للنساء، والهدى للأطفال، وجريدة كيهان تصدر يوميا بالعربي، وهناك بعض الجامعات التي تدرس باللغة العربية فقط (1)، وهناك مؤسسة الفكر الإسلامي والثقافة، تصدر عشر مجلات بغير الفارسية، وعدة سلاسل من الكتب تصل إلى نحو مائة بلد إسلامي وغيره (2).

وهذه ظاهرة عامة في حركية الفكر الشيعي المعاصر في إيران وغيره، يقول شيخهم محمد حسين فضل الله: "إن التشيع يشهد حركة اجتهاد لم يسبق لها مثيل إلا حركة الاجتهاد عند السنة في القرن الثاني الهجري"، وهذا إلى جانب الصراع بين اليمين والوسط واليسار السياسي؛ في مجتمع أقر بمبادئ دينية أو دنيوية يراها حقا ـ حسب مذهبهم بانحرافاته ـ وهو سائر عليها أحبها الناس في الخارج أم كرهوها.

ويرى المراقبون في هذه الحيوية الفكرية والسياسية صفحة جديدة قد يكون لها أثرها على تاريخ العالم. فلم يجد مع هذه الثورة عزلها ولا حربها، ولا حصارها ولا نقدها، فهي تهرب كل يوم من يد الممسك بها. وتتلون في طريق سيرها نحو ما تريد.

وكان مما قرأنا عنه منذ نحو عام، أن هذه الثورة الإيرانية ستستعيد النفوذ الذي كان للشاه في الخليج العربي، وأن أمريكا تبحث عن شريك قوي في المنطقة. وإيران لم تعد تلك الدولة الخطيرة المتزمتة ولا ذات الموقف المتشدد في علاقاتها نحو جيرانها، وأنه يسودها الانفتاح والوضوح والتقدم في مسيرة الإنسانية، وكلمات كثيرة من الترويج لا طرف لها، مما أوحى بأن كل شيء يتجه للانفراج بين الخصمين.

وهذه العلاقات تدخل فصلا مهما من فصولها، فهي من أغرب النماذج التي تستحق البحث والتأمل في دراسات العلاقات الدولية. فكل طرف له معاناته مع الآخر، وحرصه على بقاء خطوط للتعامل، ولعل من المناسب أن نعطي صورة للأزمة في العلاقة على الجانب الإيراني أولا:
خرج في إيران منذ سنوات فيلم بعنوان: "رجل الثلج"، يبدأ هذا الفلم، كما لخصه كتاب "الخاتمية"، بإظهار ممثل ساخر وهو يقف أمام شباك المراجعات داخل السفارة الأمريكية في أنقرة، متقدما بطلب للحصول على تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة، ووجه طلبه بالرفض كما يحدث لمعظم الطلبات، وأثار موقف السفارة الأمريكية حنق المواطن الإيراني، ويظهر عصبيته وغضبه، وتنفجر وطنيته ويصرخ بوجه موظفي السفارة، قائلا ماذا تريدون مني حتى تمنحوني التأشيرة المطلوبة؟ هل يلزمني أن أنظم إلى المعارضة الملكية المؤيدة لعودة ابن الشاة؟ أم لا بد أن أتحول إلى جاسوس يعمل لديكم؟ هل يجب أن أبيع وطني؟ وتتدفق أسئلة كلها تعدد الأسباب التي يمكن لصاحبها الإيراني أن تقبل به أمريكا ولا بد أن يكون ضد بلده.

وهكذا تدور بقية مشاهد الفيلم حتى اللحظة الأخيرة منه، وهي تشرح المشاعر المزدوجة والحائرة للمواطن الإيراني العادي، بين رغبته الجامحة في زيارة أمريكا وبين إصراره الدفين على المحافظة على كرامته وعزته، وشخصيته المتميزة أو الوطنية، وأنفته التي ترفض شروط الحصول على التأشيرة القاضية بأن يتحول بطل الفيلم إلى امرأة، في إشارة إلى تشويه صورة المواطن الإيراني، حتى يتمكن "تتمكن" من الزواج بأمريكي، وليربح حق الدخول إلى الولايات الأمريكية.

ويسافر بعد ذلك لأمريكا بعد أن غير جنسه. وينتهي الفيلم بأن يعود الممثل من أمريكا ويستعيد شخصيته الحقيقية. وقد عبر الفيلم بدرجة عالية من الحساسية والشفافية حقيقة المشاعر المتداخلة في أعماق العديد من الأوساط الإيرانية تجاه الولايات المتحدة، التي تشترط المسخ قبل العلاقة.

وقد أثار الفيلم مشكلات كثيرة، ورفض عرضه لمدة ثلاث سنوات في طهران، ولكن خاتمي وحزبه سمحوا بإخراجه وعرضه. وإن كان الفيلم يمثل شخصا ومعاناته، ولكنه يشرح بوضوح طبيعة العلاقة التي تريدها أمريكا من التعامل مع إيران، وشروطها العسيرة والمدمرة لكيان من يريد أن يتعامل معها من موقع إنسانيته واستقلاله، أو من خلال إبقاء مصالحه
(3).

كان هذا الفلم يمثل نوعا من الرد غير المباشر على فيلم "ليس بدون ابنتي"، والذي صور الفرس والإسلام بصورة الخاطفين وغير الإنسانيين وذوي العنف والشراسة، وأن الأمريكي يصل في النهاية لأخذ حقه منهم مرغمين مقهورين، وتستطيع الأم أن تأخذ ابنتها من الأب الإيراني.

والصورة أو المشهد الذي ظهر في "رجل الثلج"، لم يعد كله تمثيلا، بل فيه من الحقيقة ما يعرفه من يراقب تزمت أمريكا في العلاقات وعجرفتها؛ ثم إن الأيام لم تلبث أن تمر غير بعيدة حتى وجدنا وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين البرايت يوم 17 مارس 2000م، تقف على شباك العلاقات الإيرانية تقدم طلب العلاقة والمودة أو كادت، وتخطب عن حضارة إيران "التي هي من أقدم حضارات العالم الحية"، كما قالت.

وتنفخ الفخر والغرور في عظمة شعب فارس! وقد وصلت هذه المحاضرة أو الخطبة نكدة للسامعين، فقد مرت بطريق طويل من التمهيد وترتيب المكان أو المركز الإيراني الأمريكي، الذي تصرح فيه بخطوتها وخطبتها الطويلة عن العلاقة العسرة.

وبدأت بالمدح والقصص والاعتذار عن خطأ أمريكا في إحباط ثورة مصدق، وامتهان شعب إيران بتلك الثورة المضادة التي أعادت تحكم الشاة وأمريكا في الشعب. ثم اعتذرت عن موقف أمريكا ومحاولتها قهر الثورة ومساندة صدام في الحرب التي عدتها أمريكا حربها على الثورة.

وقد سبق موقف وزيرة الخارجية ألبريت، حملة لإعادة العلاقة قامت بها الشركات البترولية الكبيرة وعدد من السياسيين والاقتصاديين، وقد تبين أن الذي خسر حرب العزلة ليست إيران فقط، بل أمريكا أيضاً.

وما ذكرته الولايات المتحدة من أنها تفتح العلاقات التجارية مع إيران حرصا على التبادل في مجالات:
"الفستق والسجاد والكافيار والثمار المجففة"، ليست هذه البضائع هي كل المشكلة والمكسب، وليس نقص الفستق والسجاد في أمريكا، ولكن هناك أسباب دولية كبيرة تجعل العلاقة الجيدة والانفتاح بين أمريكا وإيران قضية إستراتيجية مهمة.

ويحمل الخبر لإيران بشائر عديدة ومخاطر، فمن البشائر إمكان حصول إيران على ما يزيد عن عشرين مليار دولار هي الودائع الإيرانية منذ زمن الشاة كما تقول إيران، وتعترف أمريكا بأكثر من النصف من هذا المبلغ. والتصدير للبضائع الإيرانية، والأهم من كل هذا النفوذ للخليج العربي بشكل أكبر، ولمناطق وتجارات تمارسها إيران بطرق ملتوية.

وقد قابل خامئني الخبر بالشك والتحذير وبعبارات حانقة، أما خاتمي فلم يقل مهما من القول في هذه المناسبة. وظهر القبول منه، والقبول الحذر من رفسنجاني، أما وزير الخارجية، فبادر للترتيب التنفيذي للعلاقة، ويبدو أن هذا هو الموقف العملي المقرر، وتبقى كلمات للإعلام والاستهلاك العام معادية عند الجهتين تظهر خلاف الحقيقة، ولكنها تساعد دائما في التحولات السياسية، ويهم وجودها للمناورين.


* أسباب للتوجهات الجديدة:

من هذه الأسباب ما هو معلن معروف ومنها ما هو مسكوت عنه أو متوقع، ولكنه مهم أيضا: فمن الأسباب المعلنة أهمية إيران في أمن الخليج "بتروله" ومستقبله، وقد سمته ألبرايت بـ"الخليج" فقط، ولم تقل: "الفارسي"، كما يغلب على الأدبيات الأمريكية، أمر "الأمن" في الخليج وهذا معلن. ثم الأسباب التجارية التي أشارت إليها.

ومن الأسباب المتوقعة التي يتحدث عنها المراقبون، وأظهرت مواقف الإيرانيين توجسهم وشكهم منها: أن أمريكا تريد بهذا الانفتاح والعلاقة: إثارة أزمة داخلية وصراع بين المحافظين والإصلاحيين في إيران. وتأليب الحرب بين المعسكرين مما يعيد إيران إلى مرحلة التبعية التي سبقت الثورة، من خلال إثارة النزاع وعدم الاستقرار، أو سيطرة المعسكر المتغرب التابع الذي يجد لذّته في التبعية للغرب، والهرب من الدين والذات. ويكتفي بالسفور والجينز والمكدونلد ومظاهر التحلل والخذلان، كما هو مسيطر على عقول بقية المتغربين في العالم الإسلامي.

ومن الأسباب غير المعلنة في الخطاب: أزمة العلاقة الأوروبية الأمريكية والخلاف التجاري، ودخول فرنسا والصين ميدان الاستثمار البترولي في إيران رغم المعارضة الأمريكية لهذا التوجه.


* العامل الإسرائيلي وحزب الله والسلام:

أيضا هناك رغبة أمريكية في إتمام عملية السلام وإنهاء العداء والإثارة الإيرانية ضد إسرائيل وتعويق مصالحها، في العالم العربي والإسلامي ووسط آسيا الذي تشهد جمهورياته الإسلامية استثمارات إسرائيلية فاحشة في التقنية، والسياحة، والتجارة العامة والعقارات.

ومن أهم توابع الخلاص من عداء إيران لإسرائيل، الخلاص من حزب الله في لبنان، فهو عنصر إرهاق لإسرائيل، وهو مثير للعداء ولنزعة الحرب والمواجهة في البلاد العربية، ومهيج للحرب ضدها، وأثبت رغم تواضع إمكاناته أن الحل هي الحرب، وهي اللغة الوحيدة التي تفهمها وتحترمها إسرائيل. وهو الجبهة الوحيدة المفتوحة ضد اليهود في عالم العرب والمسلمين.

ثم مشكلة الجواسيس اليهود المعتقلين في إيران وما يمكن أن يلقوه من مصير؛ و بالرغم من صغر القضية الأخيرة. ولكن لإسرائيل الأولوية في العلاقات الأمريكية الخارجية. وهي قادرة على تحريك أمريكا لخدمة قضايا صغيرة كهذه.


* حلف عسكري وإنذار مبكر:

لكوهين وزير الدفاع الأمريكي رحلتان سنويتان لمنطقة الخليج والدول العربية الحليفة، قام خلال رحلتيه الأخيرتين بالتسويق لمبادرة للدفاع المشترك، تشترك فيها الولايات المتحدة ودول الخليج ومصر والأردن، لتبادل المعلومات والإنذار عن أي خطر صاروخي لحماية المواطنين. (واشنطن بوست 7 محرم 1421هـ الموافق: 11/4/2000م)، وتستعمل الولايات المتحدة صدام كخطر للترويع، وإلزام العرب في المنطقة بالطاعة لكل مشروع معروض عليهم وشراء أي سلاح يراد تصنيعه أو التخلص منه. وسكتت أمريكا الآن عن الخطر الإيراني؛ فهل ستدخل إيران في هذا النظام؟ وأين موقع إسرائيل منه؟

* مسألة الخليج العربي:

ما كان الخليج مسألة ثانوية في العلاقات الدولية منذ قرون متطاولة، ولن يكون أقل خطورة في العقود القادمة، وأغلب القوى العظمى التي حكمت العالم، كانت تجد نفسها محتاجة للمرور به، والسيطرة عليه يوم كان ممرا للتجارة في عصور سحيقة إلى زمن البرتغاليين ثم البريطانيين ثم الأمريكان، ثم ما جاء به عهد البترول من تأكيد خطورة هذا الممر الدولي الذي حسر عن ذهب أسود مغر لكل دول العالم الطامحة، أو لشعوبه الفقيرة.

وقد قامت على شاطئه الغربي أهم قاعدة أمريكية ضد روسيا في المنطقة منذ عام 1948 إلى اليوم. وقبل أن نتحدث عن العلاقات الإيرانية الأمريكية في الخليج، نمهد بمسائل تهم كل دارس لهذه العلاقة منها:


* غياب الإستراتيجية المحلية:

تتعامل القوى الدولية الكبيرة مع الخليج كـ"غنيمة The Prize "، وهذا عنوان كتاب لرئيس تحرير جريدة نيويورك تايمز سابقا دانيال ييرغن: "الغنيمة.. ملحمة البحث عن النفط المال والقوة"، وترجمه بعضهم باسم "الجائزة"، عن البترول عموما والبترول في المنطقة تخصيصاً.

ويحرص الغرب على إبقاء هذه الغنيمة أو الضحية حية منتجة ومشلولة عن المقاومة في الوقت نفسه ، وأبرز ملامح هذه الخطة السلبية الكبيرة التي يحاصر بها البحث السياسي والفكر والثقافة في المنطقة، ومن أكبر المحرمات على السكان والعلماء والمفكرين فيها، بحث المسألة السياسية والاقتصادية، ويترك التفكير والقرار لمستشارين غربيين من خارج المنطقة.

والمثقفون في هذه المنطقة مظنة أن يكتبوا شيئا أو يقولوه، لأن السياسة لا تسمح به أو لا تفصح عنه، وقد لاحظ محمد الرميحي "كويتي" هذه المسألة منذ أكثر من عشرين عاما، فعندما كتب كتاب: "الخليج ليس نفطا"، ثم كتب عبد الله النفيسي "كويتي" عن مجلس التعاون بعيد إنجازه، ثم كتب محمد جابر الأنصاري كتاب: "العرب والعالم سنة ألفين"، ومجمل هذه الدراسات تربّت على الكثير من أزمات الواقع، فيما عدا ما يتمتع به النفيسي من الشجاعة في الرأي وتوافر التصور والمعلومات، غير أن بحثه اقتصر على تقييم مرحلة ومشروع المجلس ونقده، وله اهتمامات تالية عديدة. ويرى أن الخليج منطقة مخطوفة ليست لأهلها بعد!

أما الرميحي وكان كتابه معقولا، ولكنه أخيرا فقد توازنه بعد صعود الإسلاميين، فتجنى على عقله وعلى الواقع من حوله عندما تحول إلى مدافع عن التخلف خوفا من خصومه الإسلاميين، كتب مرة في مجلة المجلة مقالا يصلح مؤشرا على تحولاته من صاحب رأي وموقف إلى أن أصبح صوتا للحاشية، وزعم أنه وحزبه كانوا يطالبون بالرأي العام، ولكنه اليوم أصبح رأي العوام، فحزبه هو مقياس الحق والباطل وهو الرأي العام الصحيح مادام علمانيا تبعيا، أما لما أصبح الرأي العام إسلاميا، فقد أصبح الناس عواما! ولما خسر حزبه، اضطر أن يكون منافحا عن الفساد والديكتاتورية.

أما محمد جابر الأنصاري "بحريني"، فيختصر الأزمة في مسألة ثقافات، وينصح بأن نتعلم لغات الشرق ـ الصينية واليابانية ـ ونذهب لهـ بديلا عن الغرب ـ وكأننا إن تعلمنا اللغة الصينية وسمعنا للموسيقى الهندية، فقد جنبنا أنفسنا تهديد الغرب، بإشعار الشرق أيضا أن له عندنا مصالح، وأننا نعرف لغته ونحبه ونواليه، فهذه ثقافة استتباع للغير، ويرى ـ للأسف ـ في هذا التوجه المتلون ملجأ لأمة ولثقافة ولدين! ويصعب أن نجد أو نعرف إن كان عند المؤسسات الرسمية رؤية للمستقبل، غير ما نراه من تصريف للأمور لا شأن لهم بها.


* العزلة ليست شراً مطلقاً:

فرضت أمريكا عزلة على إيران منذ أكثر من عشرين عاما، تضرر بها الشعب والاقتصاد. غير أن الإيرانيين قد استفادوا من هذه العزلة فوائد عديدة منها تكوين هويتهم وثقافتهم في فسحة من أمرهم كما يريدون، وتم تكوين دولتهم بلا تدخل من رقيب غريب، وهذه أمور لا يدركها إلا من عرف طريقة الغربيين المتواترة في هلهلة الثقافة الوطنية للأمم ومسخها لتصبح فلكلورا شعبيا قديما ميتا، واستخدام المنافذ الثقافية لزرع الشقاق والنزاع وتعدد الولاءات داخل الدول المفتوحة. وهو بعض ما يهدف له الانفتاح المطلوب الآن.

وقد واجهوا إمكاناتهم دون زيف ولا تخيل وبلا أمل من حلول يقدمها مستشارون أو سفراء. فتمكنوا من استعمال ثروتهم أو محاولة التعامل معها واستخراجها سواء كانت مادة أو عملا، وبحثوا عن رزقهم بأنفسهم كما لا تتمكن المستعمرات أن تفعل، واستطاعوا فتح الأسواق المجاورة لصناعتهم، فقد فوجئ الغرب بدخول إيران في سوق السلاح الدولية بأسلحة رخيصة وفعالية كبيرة، وبدءوا في ممارسة مهنة الغربيين القديمة التي تبدأ باحتكار السوق الاقتصادي وتنتهي بالسياسي.

فالتجارة والسياحة أولا، ثم تأتي الجيوش لحماية التجارة والمصالح القومية أو الإستراتيجية كما يقولون، كما حدث مع شركة الهند الشرقية التي تأسست نحو عام 1600م، إذ لم تتدخل بريطانيا لحمايتها ـ احتلال الهند ـ إلا بعد أكثر من قرنين. فهذه التجارة طليعة الاستعمار. وهي سنة القوى الغالبة تكررت في أماكن أخرى غير الهند وغير الخليج وشمال إفريقيا.

وقد أفادت العزلة إيران فائدة كبيرة، وأفادهم حصار العراق في احتكار السوق العراقية. ومدوا أعناقهم لوسط آسيا وبدئوا يمارسون فيها أساليب المستعمرين، دون التزامات دولية أو تبعية للقرار الغربي. وتوفر استقلال القرار مع وجود الهوية الدينية الفكرية وتقدم صناعي ـ مقارنة بالجيران ـ كل هذا صنع لهم وللتعامل معهم جاذبية بين دول العالم الثالث المستبعدة من سياق النمو العالمي في إفريقيا وآسيا، مما يساعد على كسر حواجز العزلة الدولية.

وهذا الانفتاح يعزل أمريكا ويساهم في صناعة وتقوية "السوق الدولي المتمرد" على القوة العظمى الذي تقوده الآن أوروبا ودول كثيرة حول العالم بعضها صغيرة مثل ماليزيا، وبعضها كبير جدا ويعمل على ذلك وقد لا يهمس بمراده كشرق وجنوب أسيا عموما بما فيه الصين والهند.


* الغرب ليس موقفاً واحداً:

الإجمال الذي يلقيه عدد منا على أوصاف الغرب يخدعنا عن مشاهدة الأمر كما هو والتعامل مع الواقع، فالغرب يحب لنا التخلف والكفر والفسوق والفقر والعلمانية والجهل، ولكنه يبقى مضطرا للتعامل معنا مهما كنا، فللغرب مصالح متضاربة يصطرع عليها من قرون، فحرب المائة عام والأربعين عاما، والحرب العالمية الأولى والثانية بينهم، وكل بلد يعمل لأن يسيطر على مزيد من المستعمرات الإسلامية، يتحاربون في أوروبا أو في المستعمرات لاختلاف مصالحهم. والخلاف بينهم يفتح لنا نسمة حرية وإمكان تخلص ولو يسير يجدي عندما يكون مدركا.

ولكنَ المسلمين والعرب كانوا مهرة في تفويت فرصهم هذه وأكبر من ضيع على نفسه الفرص صدام، فقد تمكن منه الغباء والجهل حتى خسر، وإلا فما كانت تريد فرنسا أن تبدأ الحرب على العراق إلى أخر لحظة. وإنهم وإن اتفقوا اليوم على أن يكون المغرب العربي لفرنسا وأوروبا الجنوبية والمشرق لأمريكا ولكن هناك فجوات دائما تسمح للذي يسعى للاستقلال أن يحقق مراده، وللمخلص بالخلاص، وهذا التعقيد دولي وتداخل للمصالح تسمح أيضا بعكس ذلك بازدواج التبعية والعبودية لأكثر من سيد من المتنازعين، فمن لم يوحد ربه استعبدته كل الأصنام.


* سلع اقتصادية مؤثرة في الموقف:

بترول بحر قزوين حظي في الفترة الأخيرة باهتمام أمريكي مبين، وبخاصة بعد أن أعلنت إيران عن خط الأنابيب الذي يمكنه يوميا أن يصدر 370000 برميل ومخزون بحر قزوين لا يعرف أحد كم يخزن هذا الحوض من البترول من تقديرات تقول بأن فيه حوالي العشرين مليارا وتصل به بعض التقديرات إلى 160 مليار برميل. ولكن الصين وفرنسا خرجت عن موقف أمريكا وبدأت الاستثمار وساهمت بنوك فرنسية في الاستثمار، وبعضها بدعم من الحكومة الفرنسية. ثم مؤخرا وبعد بيانات أمريكا الودية أعلنت إيران اكتشاف حقول الغاز وبكميات هائلة.

* وأخرى سياسية بين إيران وإسرائيل:


هناك حزب الله في لبنان، والذي كان يمثل في خطتهم حلقة في الجبهة الشمالية الغربية للعالم الشيعي الموعود، والذي كان يفترض أن يقيم حكومته في لبنان، ويتصل نفوذه بالشيعة في سوريا (4) والعراق وإيران ولتقوم دولة عظمى من باكستان إلى لبنان. وقد خابت كثير من هذه الآمال، وقد صرح بها أبو الحسن بني صدر، وتحدث عنها حزب الله في منشوراته.

أما وقد فشل المشروع نهائيا أو مؤقتا فلن تبيع إيران الحزب رخيصا، ولا بثمن بخس لأمريكا أو لإسرائيل، ولكن لا بد لإيران أن تترك نفوذها العسكري في لبنان، لهذا سوف تحرص على المقايضة بينها وبين إسرائيل، ربما بالقوة العسكرية لحزب الله، وقد يكون لحزب الله مستقبل آخر بحيث يتحول عن دوره الحالي وأسلوب مواجهته ليصبح منظمة سياسية وثقافية وأعمالا دعوية أو خيرية، وسيسبب هذا التغيير أثرا كبير على مسألة توازن المذاهب في لبنان والوجود الشيعي فيما جاورها. وليساهم مستقبلا في إستراتيجية أوسع.

وحين تخرج إيران من جنوب لبنان "حزب الله"، فهل تقبض ثمن مغادرتها لجنوب لبنان نفوذا أكبر في الخليج؟ نشرت جريدة هارتاز يوم الأربعاء الخامس من إبريل 2000م، نقلا عن وزير العدل الإسرائيلي يوسي بلين أن على إسرائيل أن تعيد النظر في علاقاتها مع إيران في ظروف التغيرات التي حصلت في إيران، وفي جو إمكان السلام مع سوريا، وأشار إلى التحسن في العلاقات الأوروبية الإيرانية، وأشارت الجريدة أن وزير الخارجية ديفيد ليفي وغيره يشاركون بلين الرأي، وإن لم يعلنوا ذلك.

وكانت إسرائيل تعد إيران عدوا، أما اليوم فيعدونها "تهديدا أمنيا" وكما رفع خاتمي شعار (الإنسانية وعدم العداوة بين الشعب الأمريكي والشعب الإيراني ولا عداوة بين الثقافتين) أعاد بيلين القول فيما يتعلق بالعلاقة بين إسرائيل وإيران بما يكاد أن يكون نص كلام خاتمي ونفى العداوة بين الشعب الإيراني والشعب اليهودي. وزاد قوله: "ولنا مصالح مشتركة في المنطقة". وهناك تداخل كبير بين المصالح الإسرائيلية والإيرانية في الخليج قد لا يكون أهمها الغاز.

أم سيكون ثمن حزب الله مقابل نفوذ في وسط آسيا؟ وقد ألمحت أمريكا سابقا إلى أنها قد تتخلى عن النفوذ في وسط آسيا، والأدلة على عكس هذا القول. وأعلن مفكرون يهودي (برنارد لويس) له علاقة قوية بأصحاب القرارات، من منصة سياسية مهمة مجلة الشئون الخارجية (5)، أن الجمهوريات الإسلامية مما يدخل مستقبلا في الشرق الأوسط، وفي دائرة نفوذ إسرائيل! ووسط أسيا من مناطق النزاع القادمة والتي قد تسوى فيه بعض العلاقات بعد التسوية في لبنان. وإيران لن تكون خارج هذه التسويات. وهي مرشحة لدور هنا أكثر من تركيا كما سيأتي.

* الخروج من الخليج أم المشاركة؟

تتحدث بعض الجهات التي تصنع القرار عن مشاركة إيران في أمن الخليج، وأنه طعم سيقدم لإيران في الوقت المناسب، وقد تعامل البريطانيون مع إيران الشيعية ذات يوم لإبعاد شبح الوهابية عن الخليج، فهل كانت بريطانيا تهتم بسلامة الاعتقاد؟! ثم لما خرج البترول في عبادان تحالفت مع الكعبيين السنة في عربستان لإبعاد الفرس أو كما قالت الهرطقة الشيعية من المنطقة!

وقد تحالف الغرب مع مسلمين في المنطقة وخارجها لرفع شعار التضامن الإسلامي ليكون حاجزا ضد الشيوعية، والقومية والبعث. وتحالفت أمريكا مع الخليج لإبعاد خطر الثورة عن الخليج، ومع العراق للقضاء على الثورة الإيرانية، ثم اتفقت مع إيران على عدم التدخل في العراق ، عندما أرادت أمريكا إخراجه من الكويت وتدمير العراق. وكانت إيران مشلولة وقتها عن المشاركة، بعد الحرب العراقية الخليجية الأمريكية عليها، وفي الحرب التالية بين العراق وأمريكا كان واضحا قبل بدء الحرب أن الفائزين الوحيدين في المنطقة هما إسرائيل وإيران. وأن الحرب ستدمر اقتصاد دول الخليج وتحل بها البلاء.

* "الحرب الطيبة":

وكانت حرب الخليج الأخيرة : 1991م من أربح وأحسن الحروب مكاسبا في تاريخ الولايات المتحدة اقتصاديا، وأمدت الرخاء في أمريكا مما لم يحدث لها منذ أكثر من خمسين عاما (6) .

وفي العقد القادم لا بد أن يساهم الخليج في استمرار الرفاه للشعب الأمريكي لزمن جديد، فكان من بوادر ذلك الصفقة الأخيرة مع الإمارات بثمانية مليارات دولار لثمانين طائرة ف 16.

وفي رحلة كوهين الأخيرة في بداية محرم 1421هـ ابريل 2000م، نشر وزير الدفاع الأمريكي الرعب من حروب كيماوية وجرثومية، مشيرا إلى أن على الخليجيين أن يبادروا بشراء هذه الأسلحة، في عملية استنزاف اقتصادية مستمرة، فما أن يشترى سلاح إلا ويظهر آخر، ففي اليوم الذي أعلن فيه خبر شراء الإمارات كانت إذاعة "إن بي آر" الأمريكية تتحدث عن ضرورة أن تنتج الولايات المتحدة سلاحا جديدا متقدما عن السلاح المباع الذي قد يقع بأيدي خصومها، فهي الآن كما يقول المعلق في "سباق مع نفسها" في هذا الميدان، وستنتج أسواق السلاح موديلات جديدة "كالسيارات" وعلى الزبائن أن يشتروا ويصونوا مالا يمكنهم استخدامه.

وفي تعليق لأحدهم على شراء دولة البحرين لطائرات الـ:" ف 15" قال إنها بمجرد أن تقلع تكون قد خرجت من حدود الدولة! وعليهم أن يشتروا. وبعد زيادة كوهن تعهدت السعودية بشراء دفعة جديدة من السلاح وإعادة لمبلغ أكثر مما حصلته السعودية من ارتفاع أسعار البترول؛ فهناك مستوى من الإنهاك والفقر يجب أن تغرق فيه المجتمعات الإسلامية مهما كان دخلها، يقابله مستوى رفاه للعمال والمصانع الأمريكية لا بد من الحفاظ على زيادته وتطويره.

وأمريكا عندما لا يعجبها تصرف الخليجيين أو مماحكتهم، لا تبالي أن تحرقهم كما أحرقت بريطانيا الشارقة ثم عجمان، وكما أحرقت فرنسا الجزائريين، فهذه المستعمرات ليس لها قيمة إلا ما تضخه في بنوك وبطون المستعمرين الكبار. وما يخشاه الخليجيون من عودة الحراسة الإيرانية يبدوا وكأنه أمر لا بد منه.

ولكن خطر إيران اليوم أكثر من ذي قبل أيام الشاة، فالجديد هو أن هناك فكرة أو عقيدة دينية شيعية جذابة لشيعة الخليج وزارعة للولاء واختراق النظم المحلية، وهناك فكرة سياسية ومذهب حريات وديمقراطية تخرب الهدوء والوداعة السائدة في الخليج، وتزرع بذور القلق والبحث عن نظم ذات احترام وتمثيل شعبي ومشاركة في صياغة القرار. وهذه عوامل لم تكن موجودة من قبل يوم كان الشاة موجودا كحارس مؤذ ولكنه كان مقبولا، لأنه علماني بلا دين.

* تصورات قديمة جديدة:

خرجت بعد نهاية الحرب الأخيرة 1991م عدة توقعات ومشاريع مستقبلية للخليج منها رؤية كيسنجر التي نشرها عقب الحرب في مجلة نيوزويك عن ما بعد الحرب وكان منها: أن أمريكا سوف تخرج أولا من شرق آسيا ثم من أوروبا، ثم يكون الشرق الأوسط آخر المحطات التي تخرج منها خارج الأمريكتين. وقال إن إسرائيل لا بد أن تشارك في خير المنطقة وثروتها، ولعله يريد أن يتحول عبء أمريكا ودافعي ضرائبها من مساعدة إسرائيل المادية مباشرة إلى أن تفتح لها أسواق الخليج والعرب ، وان يشتري العرب مصنوعات إسرائيل من كمبيوترات وتقنية وأسلحة. وتنعم أيضا بسهمها من بترول وغاز عربي رخيص قد تتنافس دول عربية في توفير الغاز لإسرائيل.

ويقول كيسنجر إن أمريكا سوف تشغلها أمريكا الجنوبية عن العالم الخارجي مستقبلا. ولكن توسع الناتو رغم سخط الانعزاليين من اليمينيين الأمريكيين أمثال "بيوكانن" يرد تصورا كهذا.

ثم إن الخليج إلى الآن لا يكلف كثيرا فمعظم تكاليف الحماية الأمريكية مدفوعة محليا، تدفع تكاليف القوات البرية كاملة ونصف البحرية. ولكن القوات الأمريكية غير مرتاحة من الوجود هناك، وهناك سخط شعبي، وضيق ديني، وحملات مواجهة يسمونها إرهابا تزيد مع تزايد الأزمات الاقتصادية والخلقية والسياسية. وهذا يزرع عداء لا تريد أمريكا أن تخرج به، ولا أن يضرها الآن ولا مستقبلا ولا تتكرر المزعجات التي حدثت في عام 1995م وبعدها.

* إستراتيجيات أغرب:

كُتبت ثلاث دراسات أخرى صدرت من مواقع مهمة عن باحثين في الخارجية وفي مجلس العلاقات الخارجية الذي يصدر مجلة الشؤون الخارجية تتوقع أن يكون في الجزيرة العربية ثلاث دول السعودية واليمن وعمان، بحيث يكون هناك يمن واحد ـ والبحث منشور قبل توحيد اليمن ـ وعمان تدخل فيها الإمارات. أما السعودية فسوف تحتوي الكويت والبحرين وقطر (7).

هذا التصور يصنع منطقة أقل تكليفا أمنيا وعسكريا وأسهل للتعامل دوليا، وتمثل مواجهة ممكنة مع إيران أو العراق وقت الحاجة.

ومن المهم أن نعلم أن هذه عمليات اختبار أو إثارة، قد لا تعني ما ينشر فعلا، فحرية التفكير والجدل في المستقبل عند الغربيين تجعلهم يبحثون أبعد الاحتمالات وأقربها ويدرسون البدائل الممكنة، ويعدون لها الحلول الأنسب، حتى لا يفاجئهم حدث.

* هل تغامر أمريكا بإعادة إيران للحراسة؟

الذي يبدو أن ذلك ممكن جدا، فأسلحة إيران لهذا العمل هي: دولة منتخبة قوية، وسلاح كاف ويمكن إغراؤهم بالمزيد من الغرب، هامش عربي في الخليج متعب للغرب بإزعاجه وكلامه وصراعاته الصغيرة التي ليس وراءها شيء. وأمريكا تبحث عن التعامل مع دول إقليمية قادرة على تولي مسؤوليتها، وإن شاركتها في المغنم والمغرم.

وهناك عوامل مؤثرة سوف يكون لها أثرها المستقبلي على العلاقة بين إيران والولايات المتحدة منها:

حدود التدخل الأمريكي في الوضع الداخلي لإيران، وقد وعدت وزيرة الخارجية الأمريكية بعدم التدخل في السياسة الداخلية واحترام الموقف الإيراني من قضاياه، ولكن هذا أمر مستبعد أن تفكر فيه أمريكا وهي التي ما فتئت تحرك الصراعات الداخلية في الدول كما تريد.

علاقات إيران الخارجية وأذرعها الشيعية القوية، وبخاصة في مستقبل العراق ومستقبل حزب الله، وحدود النفوذ في الخليج. وهذه من وجوه النزاع بين الطرفين. فبقاء صدام يعطي فرصة أطول لمعرفة وتحديد البدائل المناسبة، وهو الآن خير نظام مرغوب للغرب، ولا شك أن إيران أيضا قد استفادت من بقاء صدام على هذا الحال، وعدم مجيء غيره.

ليس هناك من حال لا يحول فقد أعدت إيران للمستقبل العراقي بعد صدام ورسخت أقدامها في العراق خلال هذه السنوات العشر التي تلت الحرب بطريقة لم تسبق أن تيسرت لها وأصبح البديل القادم إيراني الهوى غالبا كما تقول أكثر التوقعات. وأمريكا تتعامل مع حقائق الواقع التي لا نرجوها بهذه الطريقة ولكن البلدان السنية المجاورة أضاعوا العراق ومستقبله بخدعة "علمانية المستقبل العراقي".

* الصيف ضيعت اللبن ولكن بقي..

بعد استسلام العراق تتابع العرب الخليجيون وحتى من قبل الهزيمة في البحث عن البديل المستقبلي، فزعمت أمريكا أنها سوف تعطيهم عراقا علمانيا متغربا صديقا وموثوقا! وبعد عشر سنين لم يتغير شيء ولم تأت العلمانية العراقية الأمريكية، وبقي صدام وشبحه مخيماً والاستغلال والحرب قائمة.

بل الذي حدث أن إيران مدت أيديها لطلاب الحوزات وللسياسيين الشيعة، وفتحت جامعاتها ومعاهدها ومدارسها لشيعة العراق وأقامت حركة سياسية ودينية وزرعت الولاءآت في كل مدينة، ولما هددت أمريكا بضربة نهائية لصدام مرة أخرى في عام 99 هرب عدد كبير من سكان بغداد إلى القرى السنية لأنهم رأوا أن الشيعة سيأخذون بغداد حال حدوث أي اضطراب. فهم القوة التي أمر أمرها وعظم شأنها في عهد صدام الأخير.

أما العالم السني المجاور للعراق، والذي يمثل العراق عمقا وامتدادا لعشائره وقبائله ولدينه، فقد ترك ما بيده من إمكان صناعة مستقبل العراق، أو المساهمة في صناعته، كما ينفع المنطقة عموما، ويفيد السنة في العراق بخاصة، ويرسخ مستقبلهم المنشود، فقد كانت دول السنة المجاورة تملك أن تفتح الجامعات والمدارس في الداخل أو على الحدود العراقية للشباب السني العراقي الذي كان يهيم بلا مأوى ولا استقرار، حتى تشردوا أو رحمتهم أمريكا وكنائسها واستقدمتهم، وكان بالإمكان أن يكون لهم مأوى وعمل وبناء مستقبل سياسي وثقافي كبير في بلدهم.

ولكن للأسف، فقد راهن الخليجيون بإلحاح غيرهم عليهم وبتوجهات النافذين على انتصار شراذم العلمانيين المتغربين، وأبعدوا الإسلاميين وأرهبت أمريكا قلوبهم من أن يقبلوا السنة في أي من جبهات المعارضة، وقد تحدث أحد كبار وزراء الخارجية الخليجيين عن توجيهات خارجية تمنعهم من القبول بإسلاميين في أي بديل لصدام أو التعاون معهم.

فكانت كل الجبهات المعارضة لصدام مرحبا بها ولو كان الحزب مكونا من رجل وامرأته فقط، وكثيرة هذه الأحزاب الصورية والمخادعة التي تتلقى مساعدات ومعونات سياسية ضخمة من الدول العربية ومن الغرب. وهي لا تقدر على شيء في العراق مهما قل.

وعدد هذه الأحزاب يزيد عن ثمانية وعشرين حزبا معارضا أو مرتزقا، وربما زادت الآن كثيرا. واستبعدت مجموعات إسلامية كبيرة ومعتدلة من أن يكون لها وجود في مستقبل العراق، رغم وجودها واعتدالها وتاريخها الطويل. ولم تكن هذه المجموعات أيضا حريصة على أن يكون لها مكان في معارضات مصطنعه بلا وجود.

أما إيران فقد أحيت الأحزاب الدينية الشيعية، وأوجدت أحزابا جديدة مهمة، وقادة المعارضة الشيعية أغلبهم في إيران وفي داخل العراق، وصوتهم وتهديدهم عال، والحكيم والبياتي من الوجوه التي قد يكون لها أثر في مستقبل العراق القريب.

* والذي بقي:

أما الذي بقي فهو الخروج من الوصاية الأمريكية على طريقة التعامل مع العراق، وقبل ذلك مع مجمل السياسة. أو التفاوض معهم بما يعطي هامشا للحرية السياسية في التعامل مع المسألة العراقية، وهذه الدول المجاورة في الخليج لو صدقت مع الله أو حتى لو صدقت مع مصلحتها لما تابعت الغواية الأمريكية في تحديد مستقبل علاقاتها مع العراق.

فالجزيرة والعراق ليستا مما يمكن لأمريكا أن تكون حائلة بينهما طوال الزمن، ومصلحة الجزيرة في عراق سني إسلامي. وأي دولة علمانية قائمة أو موعودة فهي مهددة بدولة دينية بديلة إما سنية أو شيعية.

وإن الإسلاميين العراقيين إن لم يحكموا، وإلا فإنهم على الأقل سيكونون عمقا إستراتيجيا مواجها للنفوذ الإيراني، فكبوة العراق قد لا تطول، ولن يكون العراق صداميا للأبد، ومستقبل الخليج السني يعتمد كثيرا على استقرار وسنية وقوة العراق مهما تكن هناك من خلافات، أو مشكلات حاكم سيكون عابرا مهما طال حكمه أو أثره في العراق أو خارجه.

وسنة العراق اليوم وتاريخيا هم أقرب أتباع الإمام أحمد عقديا. وناصروا التوجهات السلفية وتبنوا نصرتها وتوجهها في الشام والجزيرة.والآلوسي أحد النماذج المهمة لهذا التوجه، كما أن الإخوان العراقيين المتأخرين أكثر تسننا من إخوانهم في مناطق أخرى عديدة.

* موقف الأمريكيين من العلاقة:

ينصح مفكرون كبار الحكومة الأمريكية، ومنهم من قضى خمسة وعشرين عاما كجاسوس في إيران، وأجاد الثقافة ويتربع على مؤسسة مهمة تصنع أو تشارك في صناعة القرار، وكتب أحد أهم الكتب عن الثقافة والشخصية الفارسية، يرى أن العلاقة الجيدة الصريحة والمنفتحة مع إيران هي التي ستعيد للخليج استقراره. وهذا ما ينسجم مع مبدأ سابق جرى تحريره والحديث عنه مباشرة بعد استسلام العراق وهذا المبدأ يقوم على أسس منها:

أولاً:
ضمان استمرار المصالح الأمريكية ويسرها، وعلى رأسها البترول رخيصا، وضمان أمن إسرائيل.

ثانياً: أن تكون علاقات أمريكا مع الدول القوية في المنطقة، وتجمع قواها الدبلوماسية والإستراتيجية في مراكز قليلة، ولا تبذر قواها المالية والسياسية والعسكرية مع الهوامش الضعيفة، التي تتعب أصحاب القرار الأمريكي بتعقيد وتفصيل إداري، وطقوس دبلوماسية ومشكلات داخلية وخصومات دولية عديدة لا فائدة منها،وتستنزف العلاقة معها وقتا وجهدا وربما مالا طائلا.

ولهذا فأمريكا يهمها قيام علاقة قوية مستقرة وآمنة مع أحد الأطراف في الخليج، يقمع نيابة عنها، ويروج لها، ولا يفاجئها بمغامر مجهول في ليل ولا نهار، ولا يتطلع لأكبر من دور الحراسة، بحيث يكون مستوعبا لدرس نورييجا ـ في بنما ـ ودرس صدام. ولا بأس بأن يكون لهذا الحارس نصيبه من الغنيمة، كما تفرض حقائق الجغرافيا السياسية ومبدأ المشاركة.

ثالثاً:
هناك ملامح أصبحت واضحة لإيران وملامح لم تحسم بعد، لأن الثورة لم ينته موسمها، ولم تتحدد الكثير من معالم التكوين القادم، وإن هناك ما نستطيع أن نسميه ثوابت فيما يبدو، أقرتها الثورة وانتصرت فيها، مثل: إسلامية الهوية للشعب والدولة، هذه مسألة لم تعد منطقة نقاش في الشارع ولا في هوية الأمة، ويخدع نفسه من يفرق بين الليبرالي والمتدين في هذا فالليبراليون الإيرانيون على عكس من يحملون هذا الاسم في الغرب ومن تبعه من بلاد المسلمين، يقرون ويؤيدون إسلامية الحكومة، وهويتها الدينية.

الديمقراطية أو الشورى أي اختيار الشعب لحاكمه النابه المرضي مسألة أيضا حسمت إلى الآن.

استقلال القرار من النفوذ الغربي أو غيره، وهذا من أهم أسباب الانفتاح القادم.

انتهاج بناء الدولة الغنية والمسلحة، والتي نفعتها العزلة والحصار والحرب في المقاومة ورغم كل الجهود الأمريكية للحصار والمحاولات لهدم الثورة ولكنها استقرت واستمرت واستطاعت أن تحول الكثير من السلبيات إلى إيجابيات.

أن القوى والفئات السياسية في إيران أصبحت جزءا من حكم شعبي متآلف لأنه يمثل الغالبية، وهو مرضي من قبل هذه الفئات غالبا.

الثقة التي أولاها الشعب للحكومة وللممثلين المنتخبين تدل على نهاية وهم إسقاط الثورة بقوة غاشمة من الخارج، أو بعميل من الداخل...    يتبع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق