هذه بلدة لا مستقبل لها!
بشير نافع
كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
في المرة الثانية، أغرقت الأمطار الإسكندرية وعدة مدن أخرى في محافظات البحيرة والشرقية، كما أوقفت حركة المرور في طريقي القاهرة - الإسكندرية الصحراوي والقاهرة - عين السخنة، فخر شبكة طرق مصر السريعة، التي تعد على أصابع اليد الواحدة، على أية حال. مثل هذه الكارثة، التي أوقفت حركة وعمل ملايين من المصريين، وأفقدت عشرات آخرين حياتهم، يمكن أن تحدث لأي بلد في العالم، بما في ذلك البلدان المتقدمة. وهذا صحيح، بلا شك.
بيد أن الأمور لم تقتصر على كارثة الأمطار. ففي الوقت نفسه، شهد وسط شبه جزيرة سيناء سقوط طائرة روسية، بعد قليل من مغادرتها مطار شرم الشيخ، المدينة السياحية الشهيرة.
قاومت كل من مصر وروسيا، كل لأسبابه الخاصة، سيناريو تفجير الطائرة، سيما بعد إعلان تنظيم الدولة في سيناء مسؤوليته عن إسقاطها. ولكن، وبعد مرور أيام قليلة، ومسارعة بريطانيا وأمريكا إلى التلميح لاحتمال سقوط الطائرة في عمل تخريبي، واتخاذ إجراءات حظر سفر لجوهرة السياحة المصرية، أخذت الأمور في التغير.
روسيا، على الأقل، وبالرغم من التبعات السياسية على مستوى الرأي العام، أوقفت الرحلات الجوية إلى مراكز السياحة المصرية والمسارعة إلى إخلاء السياح الروس الذين لم يزالوا متواجدين هناك.
يمثل هذا التطور كارثة كبرى للسياحة في مصر، التي تعتبر المصدر الرئيسي للعملات الأجنبية ومجال عمل ملايين من المصريين. ولكن هذه، أيضا، يمكن الاحتجاج بأنها ليست كارثة مصرية خاصة، وأن الإرهاب يصيب كافة دول العالم، صغيرها وكبيرها، الأشد منها في إجراءاته الأمنية والأقل تشدداً. وهذا صحيح، أيضا.
أما الكارثة الثالثة التي تضرب مصر مؤخرا، فتلك المتعلقة بقناة السويس وإيراداتها. فإلى جانب قطاع السياحة، تعتبر القناة مصدرا رئيسيا للعملات الأجنبية. ولكن، بخلاف السياحة، التي طالما تعرضت لتقلبات السياسة والأمن، فإن القناة منفذ حيوي للملاحة الدولية، وتتسم إيراداتها بالثبات أو الزيادة الطفيفة سنويا. في الأيام الأولى من رئاسته، قرر الجنرال السيسي، وبدون دراسة كافية، هدر مليارات الدولارات من أجل توسعة جديدة للقناة.
في محاولة لاستلاب وعي المصريين بإنجاز «عملاق»، افتتح السيسي رئاسته بمشروع باهظ التكاليف، لم يكن ثمة ما يؤكد أن الملاحة الدولية بحاجة له فعلا، أو أن إيراداته ستغطي حجم الاستثمار الذي وضع فيه. وعد نظام السيسي المواطنين الذين استثمروا في المشروع بعائدات كبيرة؛ وعمل، بنتائج متواضعة، على أن يكون افتتاح التوسعة حدثا عالميا.
في النهاية، وبعد شهور من وضع القناة، بتوسعتها الإضافية، في خدمة التجارة والملاحة الدولية، أعلن عن انخفاض ملموس في إيرادات شركة قناة السويس المصرية.هذه كارثة مكتومة، بالطبع، لم تغرق شوارع مدن مصر وبيوتها، ولم يشهدها المواطن المصري على شاشات التلفزة، كما كارثتا سيول الأمطار وحادثة الطائرة الروسية، ولكن حتى رئيس البنك المركزي المقال لم يستطع كتمان أثرها على وضع البلاد المالي.
وقعت الكوارث الثلاث على خلفية من كارثة ما يشبه انعدام الإقبال على صناديق الاقتراع في انتخابات نظام 3 تموز/ يوليو البرلمانية، بالرغم من دعوة رئيس النظام الشعب إلى التصويت. وإن كان ثمة مؤشر للثقة، أو انعدامها، في نظام ما، فلا بد أن يكون الإقبال على، أو الإحجام عن، الاقتراع أحد أهمها على الإطلاق.
في كل من هذه الحالات، يمكن فعلا الاحتجاج بعدم الخصوصية، أو بخطأ إنساني في الحسابات. ولكن، عندما تقع هذه الكوارث معا، خلال أيام أو أسابيع قليلة، فلا بد أن ثمة ما يدعو إلى القلق في إدارة شؤون البلاد. وهناك، بلا شك، الكثير مما يستدعي التساؤل في إدارة مصر ما بعد 3 تموز/ يوليو 2013.
فبالرغم من عشرات المليارات من المساعدات التي قدمتها ثلاث دول خليجية لنظام تموز/ يوليو، عاد الاحتياطي النقدي لمصر إلى الهبوط إلى المستوى الذي تسلمه الرئيس مرسي في بداية رئاسته، وتسبب في إثارة ذعر الرئيس المنتخب آنذاك، ومن ثم سعيه الحثيث إلى رفع مستوى الاحتياطي بأقصى سرعة ممكنة.
والأخطر أن الستة عشر مليارا من الدولارات التي انتهى إليها الاحتياطي النقدي المصري في نهاية الشهر الماضي، هي في أغلبها ودائع وقروض أجنبية، لا تملكها مصر فعليا.
وما لا بد أن يثير الدهشة أن هذا التسارع في استنزاف الرصيد النقدي المصري يحدث بعد شهور طويلة من التخفيض الملموس في الدعم الذي اعتادت الدولة توفيره للمحروقات والكهرباء والسلع الضرورية.
ويواكب تأزم المالية العامة، تأزم متفاقم في الوضع الاقتصادي للبلاد. فالدولة، كما هو معروف، ومهما بلغت لبرلة النظام الاقتصادي، هي المصدر الرئيسي للعمل والتنمية الاقتصادية، ليس في مصر وحسب، بل وفي كافة أنحاء العالم. عندما تعجز الدولة عن توفير الموارد الكافية لدفع عجلة التنمية، فلا يتوقع من القطاع الخاص إلا الإحجام. وهذا بالتأكيد ما يشعر به ملايين العاطلين والباحثين عن فرصة عمل كريمة ولائقة في مصر.
كان واضحا من البداية، سيما في الأشهر القليلة التالية لانتصار ثورة كانون ثاني/ يناير 2011، أن مصر تحتاج روحا نهضوية لتخرج من أزماتها ثقيلة الوطأة، أكثر بكثير من الإعانات الخارجية. خلف حدث الثورة نفسه، كان ثمة عقود من انهيار الخدمات الصحية، تدهور أنظمة المواصلات، والتراجع المعيب في مستويات التعليم بكافة مراحله، وليس فقط سيطرة فئة صغيرة على مقدرات البلاد ومقاليد الحكم.
وما إن شعر المصريون أنهم استعادوا قرارهم، أو أنهم في الطريق لاستعادة القرار، حتى تخللت البلاد روح من الأمل والعمل والإبداع لم يعرفها المصريون منذ أزمنة طويلة. انطلق شبان وشابات في شوراع المدن لتنظيفها ومحو القبح المتراكم على ملامحها؛ وبدأت قطاعات الخدمات تتقدم بصورة ملموسة، في موازاة شعور متصاعد بالمسؤولية والرقابة وحرية النقد. تزايدت معدلات الإنتاج، وأخذت مصر تحث الخطى نحو ثورة زراعية جديدة.
وإلى جانب الجهد الكبير الذي بذل لمكافحة الفساد ومطاردة المفسدين، وبالرغم من انطباعات عدم الاستقرار السياسي، تزايد مستويات الصادرات، تراجع العجز التجاري، وتحسنت حركة السياحة بصورة كبيرة. وبدا أن الجامعات المصرية تعيش طورا جديدا من الإبداع، بينما كانت أجواء الحرية والديمقراطية تولد نصوصاً وموسيقات من نوع مختلف.
بيد أن إجهاض المسار الديمقراطي لم يؤد إلى عودة الأقلية العسكرية ـ المدنية المعتادة إلى الحكم وحسب؛ بل ووجه ضربة قاصمة لمسار نهضوي بأكمله. بعد أن كان المصريون قد بدأوا في العودة من الخارج إلى بلادهم بعشرات الآلاف، محملين بخبرات وموارد استثمارية معتبرة؛ سارع أفضل المصريين بعد 3 تموز/ يوليو إلى الهجرة أو البحث عن طريق لإخراج مدخراتهم إلى خارج البلاد.
وتعيش مصر منذ ذلك المساء المثقل بالزيف والخداع والموت حالة من الانقسام الاجتماعي لم تعرفها في تاريخها الحديث كله، يئن نصف شعبها من الجراح والمعتقلات والتعذيب، ويعيش نصفها الآخر مسكونا بالخوف.
في مثل هكذا مناخ ليس من المستغرب أن تتوالى الكوارث على مصر والمصريين. هذه بلاد لا يبدو أن ثمة مخرجا لها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق