سقوط نظرية الجاكيت
وائل قنديل
الهجمات الدامية التي شنها الإرهابيون الأوغاد في باريس، مرفوضة ومدانة، بكل العبارات والمعاني، من كل من يملك ذرة من ضمير إنساني سليم، تماماً وبالقدر نفسه الذي دان به أصحاب الضمائر الحية الهجمات الإرهابية التي شنها الأوغاد على المعتصمين السلميين في رابعة العدوية، وأخواتها، وكذلك المجازر التي نفذها أقرانهم ضد الشعب السوري الثائر في وجه نظام إرهابي.
تفجيرات الضاحية الجنوبية في بيروت مدانة، تفجير الطائرة الروسية مدان، قتل السياح المكسيكيين أيضاً مدان، تفجير الشقق السكنية في القاهرة والجيزة لتصفية سكانها المعارضين للنظام، أيضاً تستوجب الإدانة، مثل عمليات القصف بالبراميل المتفجرة التي تنفذها قوات نظام الإرهاب السوري، تحت رعاية روسيا، المنكوبة في طائرتها المدنية، فوق سيناء. عمليات الإرهاب التي أدمت باريس تستوجب الإدانة الكاملة، وعلى نحو واضح ومباشر، كموقف أخلاقي، وكانحياز إنساني، وكالتزام قيمي، نابع من الاعتقاد الديني، وكمبدأ ثابت تفرضه كل الفلسفات والأيديولوجيات الوضعية، وبعبارة واحدة هو الموقف الذي يعبر عن الفطرة الإنسانية السوية. الشماتة والتشفي في فواجع بهذا الحجم هما التعبير الأوضح عن حالة من الانسلاخ التام من الإنسانية، واحتقار الحياة، واحتكار الحس الدميم المشوه، والأبشع من ذلك أن ينحو بعضهم إلى استثمارها لتبرير إجراءات وسياسات، تصنف جرائم ضد الإنسانية، ولا تقل إرهاباً عن هجمات مسلحي المليشيات والتنظيمات الإرهابية، أو أن يغطي فضائح وكوارث، تغرق فيها أنظمة لا تقل دموية وإجراماً. جاء التوقيت الذي وقعت فيه ضربات الإرهاب في قلب باريس، عقب زلزال قرار الحكومة الروسية حظر رحلات "مصر للطيران" إلى مطاراتها، وهو القرار الذي أصاب النظام المصري بحالة دوارٍ جعلته يتخبط يميناً ويساراً، باحثاً عما يستر عورته، المكشوفة أصلاً، منذ قرار الحكومة البريطانية إجلاء السياح من شرم الشيخ، ووقف الرحلات الجوية إلى المطارات المصرية، وما تلا ذلك من إجراءات مماثلة، أقدمت عليها حكومات دول أخرى.
جاء حادث باريس ليوفر مهرباً مؤقتاً لنظام السيسي من هذا التآكل المخيف، غير المسبوق ربما، في حجم الدولة المصرية، وتصاغر نظامها السياسي في نظر العالم، إلى درجة أن أحداً لم يعد يتعاطى مع الجالسين على مقاعد السلطة فيها، باعتبارهم يمثلون نظاماً سياسياً، مؤهلاً لإشراكه في صياغة قراراتٍ تتعلق بأحداث عالمية خطيرة، وقعت على الأرض المصرية.
كانت علامات الشماتة واضحة على ملامح إعلاميي السيسي، متوهمين أن جريمة الإرهاب ضد فرنسا يمكن أن تنسي المصريين أن نظامهم الحاكم يقف أمام العالم الآن، مجرداً من قيمة أو اعتبار، إلى الحد الذي صاروا معه يناقشون أدق تفاصيل الحالة المصرية، من دون أن يشركوا حكام القاهرة الذين يواصلون اللهو في حدائق نظرية المؤامرة.
ربما لم يعرف تاريخ العلاقات الدولية وضعية كالتي يتعامل فيها المجتمع الدولي مع نظام عبد الفتاح السيسي الآن، فأن تقع حادثةٌ بجسامة إسقاط طائرة روسية مكتظة بالركاب، عقب إقلاعها من شرم الشيخ، وتخرج بريطانيا لتقول، بوضوح، إن لديها معلومات تكاد تكون كاملة عن الحادث، لكنها لن تبلغ بها الحكومة المصرية "لأسباب واضحة"، ثم تتبادل المعلومات والمشاورات مع كل من موسكو واشنطن، فهذا كله ليس له إلا احتمالان: إما أن هذا النظام الحاكم في مصر غير مؤهل للاطلاع على معلومات بهذه الخطورة، وغير جدير بالمشاركة في اتخاذ قرارات وتدابير، تخص حادثاً وقع في نطاق سيادته، أو أن المعلومات المتوفرة تدين هذا النظام، وتشير إليه بأصابع الاتهام.
الأمر نفسه، جرح السيادة الوطنية، يتكرر مع القرار الروسي بمنع استقبال "مصر للطيران" وحظر الرحلات الروسية إلى مصر، إذ يبدو القرار مشحوناً بكمية هائلة من الانفعال والغضب، تجعله قراراً عقابياً من فلاديمير بوتين شخصياً، أكثر من كونه قراراً وقائياً، تفرضه الدوافع الأمنية.
بعبارة أخرى، هو قرار إلى السياسة أقرب، منه إلى التدابير الأمنية، بما يحوله إلى نوع من الإجراءات الاقتصادية التأديبية التي تخلع عن نظام السيسي معطفه الوحيد الذي يتباهى به أمام شعبه، مروجاً أوهام أنه، وقيصر روسيا، حليفان وصديقان، لا يفترقان أبداً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق