الثلاثاء، 10 نوفمبر 2015

جذور الخلاف الحضاري بين الإسلام والغرب

جذور الخلاف الحضاري بين الإسلام والغرب



ا.محمد إلهامي

باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية


إن كل محاولة للتهوين من الخلاف بين الإسلام والغرب هي، فضلا عن تكلفها وتعنتها، غارقة في السذاجة، ذلك أنها تريد أن تتجاوز التاريخ الطويل الممتد بينهما، ليس فقط تاريخ الصراع السياسي والعسكري، بل حتى تاريخ الصراع الفكري والفلسفي.. ووراء كل ذلك وفي عمقه تلك الأصول الراسخة في الأفكار والمعتقدات.


تلك الأصول الراسخة منها ما لا يمكن حذفه ولا حذف آثاره، مثل: قصة الدين!


ذلك أن قصة الإسلام في الشرق تختلف وبشكل جوهري عن قصة المسيحية في الغرب، ولهذا الخلاف نتائج مؤثرة على كلا الحضارتين، على هذا النحو:


(1)
حضارة قبل الدين، وحضارة صنعها الدين

ثمة إجماع بين المؤرخين على أن الحضارة الغربية لها ثلاثة جذور: الفلسفة اليونانية، الأنظمة الرومانية، الديانة المسيحية[1]، ولا تزال المسيحية تمثل ركنا ركينا في الروح الغربية، وهي الحقيقة الملموسة تصريحا وتلميحا في الكتب التي ألفت عن الغرب[2].


وثمة إجماع آخر بين المؤرخين على أن العرب لم يكونوا ذوي حضارة قبل الإسلام[3]، وإنما جاء الإسلام فكأنما أنشأهم من العدم وبعثهم من القبور وأخرجهم إلى الحياة، ليس هذا فقط، بل نقلهم هذه النقلة الهائلة المدهشة من التشرذم إلى الوحدة ومن رعي الغنم إلى تسيد الأمم، ولهذا قال عمر بن الخطاب "كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله"[4].

وإذن، فقد حمل الفصل الأول من هذه القصة هذا الفارق الذي أدى بدوره إلى بعض النتائج:


أ. أن المسيحية "جزء" من التكوين الغربي، وقد ساعد خلو المسيحية من النظم والشرائع على بقاء واستمرار النظم الرومانية المستفادة والمنبثقة عن الفلسفة اليونانية. بينما الإسلام هو المكون الأساسي والوحيد للمسلمين، فالعرب لا يعرفون سوى الإسلام دينا وفلسفة ونظاما وشرائع، وغير العرب إنما يلزمهم بحكم إسلامهم أن يتخلوا ويتبرأوا بل وأن يكرهوا ما يناقض الإسلام من ميراثهم الحضاري، فظل الإسلام دائما حاكما لا محكوما، وهاضما لما قبله من النظم والشرائع لا متأثرا بها كما هو الحال في المسيحية التي تأثرت كثيرا بالتراث اليوناني والروماني.


ب. لقد تأثرت المسيحية بالتراث اليوناني والروماني تأثرا كبيرا، حتى إن ثمة أفكارا دينية رئيسية تسللت إلى المسيحية، واضطر الدعاة المسيحيون منذ بولس أن يصيغوا المعاني المسيحية في عبارات وصياغات يونانية[5]، ومن أبرز الأدلة على هذا دخول الصور والتماثيل كمعبودات برغم النهي الصريح في الوارد في الإنجيل عن ذلك، حتى قيل بحق "النصارى ترومت ولم تتنصر الروم"[6]. بينما عاش الإسلام حياته في صراع مع الجاهلية التي بُعِث فيها، حتى انتصر عليها وكسر أصنامها وأزال رسومها وتقاليدها، ولم يبحث عن تقارب معها أبدا، بل اقتضى التزام الصراط المستقيم "مخالفة أصحاب الجحيم".


جـ.
وإذا أخذنا المسألة القومية كمثال على ما سبق، نرى كيف "احتوى الإسلام الباكر على عناصر من القومية العربية، لكن محمدًا (صل الله عليه وسلم) وأتباعه رفضوا النهج اليهودي للانعزال القومي وابتكروا بدلا من ذلك مجتمعا دوليا جديدا، وتبنت البلاطات الملكية ثقافة راقية متعددة القوميات، وكان الدين في أيدي جماعة من العلماء متعددي القوميات على نحو واعٍ ذاتيا، وكانت بعض الدول الإسلامية تحكمها سلالة تتكون من مجموعة أقلية عرقية (مثل البويهيين والسلاجقة)، وكانت الإمبراطورية العثمانية مأهولة بمزيج من المجموعات العرقية، وهكذا تجاوزت وحدة الأمة (الإسلامية) الاختلافات العرقية أكثر بكثير مما فعلت الكنيسة؛ سواء في العالم المسيحي الشرقي أو الغربي، قبل الإصلاح أو بعده، ولم تكن توجد دولة قومية في العالم الإسلامي حتى القرن العشرين"[7].


(2)

تحقيق الحضارة على الأرض

ثم يأتي الفصل الثاني من القصة فنرى المسيح عليه السلام، كما هو في التصور الغربي، يُصلب ويُقتل، دون أن يحقق نصرا لا على المستوى الديني ولا على المستوى الدنيوي، ثم يكون أبرز تلاميذه وناشري دعوته ممن مات عنهم وهم كافرون به، وظل أتباعه يزيدون ببطء وينزل بهم كل صنوف العذاب، حتى يتولى قسطنطين عرش الإمبراطورية الرومانية، ويدخل في المسيحية، فتأخذ المسيحية في الانتشار الواسع.


بينما نرى محمدا صل الله عليه وسلم يموت وقد أسس دولة شملت الجزيرة العربية، ودخل حربين مع الروم، وأرسل رسائله إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، ونشر الدين ووحد العرب، واكتمل نزول الكتاب عليه، وظل صحابته الذين عايشوه طويلا يحكمون بعده بأنفسهم لستين سنة، وظل صحابته ينشرون الدين بأنفسهم بعده لقرن من الزمان.


وهذا الفارق في الفصل الثاني من القصة كانت له نتائج مؤثرة منها:


أ. أن الإسلام –كما يقول هاملتون جِب- "ليس مجرد نظام من العقائد والعبادات، إنه أعظم من ذلك كثيرا، هو مدنية كاملة، ولو بحثنا عن لفظ مقابل له لقلنا: العالم المسيحي ولم نقل المسيحية، ولقلنا الصين بدل أن نقول ديانة كونفوشيوس"[8].


ب. أن الغرب يملك -ولو نظريا، أو مرحليا- التخلي عن المسيحية، إذ له في التراث اليوناني والروماني ما يقيم صلبه، أو على الأقل يؤمن الغربي بقدرته على النهوض بمعزل عن المسيحية كما نهض بدونها أول مرة. بينما لا يملك المسلمون التخلي عن الإسلام -ولو أرادوا- لأنه يمثل كل تراثهم، وليس لهم سواه من تراث، فهو سرهم وجوهرهم وسبب تميزهم كأمة ومبرر وجودهم كأصحاب رسالة، وهذا تفكير منطقي وضعي حتى ولو لم يتفق مع قول الإمام مالك "لا يُصْلِح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها"[9].


ولذلك نرى التراث الفلسفي الغربي على ثلاث شعب: فلسفة سبقت المسيحية كفلسفة اليونان، وفلسفة حاولت التوفيق بينها وبين العلم كأوائل فلاسفة العصور الوُسطى وأبرزهم توما الإكويني، وفلسفة هاجمت المسيحية ابتغاء تصحيحها أو إقصائها كفلاسفة ما قبل وبعد الثورة الفرنسية ومنظري الإلحاد والمادية والعلمانية. بينما "الفلسفة الإسلامية" كانت دائما تقدم نفسها باعتبارها "الفهم الصحيح للإسلام" ولم تزعم فرقة من الفرق التي نشأت في التاريخ الإسلامي -على اختلافها- أنَّ مذهبها "خارج عن الإسلام".


جـ. أن النصرانية –كما يقول ولفرد كانتول سميث- "أرجأت تحقيق ملكوت الرب إلى الآخرة، على اعتبار أنه مستحيل التحقيق في الحياة الدنيا، لأن الإنسان خاطئ بطبعه، قاصر بطبعه، معوج بطبعه، فلا يمكن أن يستقيم. أما الإسلام فقد اعتبر تحقيق ملكوت الله هو مهمة الإنسان في الحياة الدنيا لا في الآخرة، ولذلك يسعى المسلمون دائما إلى محاولة تطبيقه، وإلى تقويم عجلة التاريخ كلما انحرفت عن الطريق ولو ضحوا بأنفسهم في سبيل ذلك، ومن ثم فإن التضحية في الإسلام له حصيلة إيجابية في واقع الأرض هي محاولة تقويم هذا الواقع وإصلاح ما اعوج منه، بينما التضحية في النصرانية ذات مفهوم سلبي، مؤداه أن يقف النصراني أمام عجلة التاريخ المنحرفة لا ليقومها ولكن لتدوسه وهو واقف مكانه، فهو يفضل أن تدوسه العجلة وتقتله على أن يسمح لها أن تتجاوزه وهي منحرفة، ولكنه لا يبذل جهدا لتصحيح مسارها وردها إلى الصراط المستقيم"[10].


د.
ومن ثَمَّ كانت عصور ازدهار المسيحية عصورَ تخلف وركود، وكان الخروج إلى تغيير العالم مرتبطا بالانحراف عن المسيحية أو بالانقلاب عليها وعزلها عن الحياة، وكانت معركة العلم معركة ضد الدين في ذات اللحظة. بينما الحال في الإسلام على النقيض من هذا، فعصور ازدهار الإسلام هي عصور الازدهار العلمي والحضاري، وعصور التخلي عن الإسلام هي عصور الضعف والانحطاط.


وبينما يتقبل الغربيُّ ببساطة كون عصور ازدهار المسيحية هي "العصور المظلمة" ترى عقلية المسلم تستغرب من ازدهار الحضارة في وجود الكُفْر، وهذا ما عبَّر عنه رفاعة الطهطاوي -حين زار باريس شابا- في بيتْن من الشعر يقول فيهما:


أيوجد مثل باريس ديار؟! .. شموس العلم فيها لا تغيب
وليل الكفر ليس له صباح .. أما هذا -وحقكمُ- عجيب!!.

فخلاصة القصة أن الفارق بين المسيحية بالنسبة للغرب وبين الإسلام بالنسبة للمسلمين ليس مجرد فارق بين دينين، ولا بين نظامين، بل هو فارق تأسيسي خطير؛ فالمسيحية جزء من الروح الغربية والإسلام هو كل الروح الإسلامية، والمسيحية تركز على عالم الملكوت وكل تغيير يتم في هذا العالم يُعدّ خصما من رصيد الآخرة، بينما الإسلام يرى أن النجاح في الآخرة مبني على النجاح في الدنيا ومرتبط به، وأن بذل المجهود في إقامة مملكة الله في الدنيا هو الطريق لنيل ملكوت الله في الآخرة.

المصادر


[1] Gustave E. Grunebaum: Modern Islam; The Search for Cultural Identity, p. 147.
وانظر: برتراند رسل: تاريخ الفلسفة الغربية 1/16، 17.
[2] ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص55 وما بعدها، باتريك بوكانان: موت الغرب ص339 وما بعدها.
[3] هذا إذا غضضنا الطرف عن محاولات بعض المؤرخين القوميين في الحقبة القومية لاختلاق حضارة للعرب قبل الإسلام، وهي محاولة أيديولجية أكثر منها علمية، وليس هنا مقام الرد عليها، ولكن نقول بإيجاز: الحضارات العربية التي يتحدثون عنها شهدت انقطاعا طويلا حتى لم يعد لها أثر في المجتمع الذي أرسل فيه النبي، وهو مجتمع لم تتحقق فيه أي مظهر من مظاهر الحضارة، والعرب أنفسهم بعد أن جاءهم الإسلام رأوا أنفسهم في حقبة جديدة تماما وليست امتدادا ولا تجديدا ولا بعثا لحضارات قديمة.
[4] رواه الحاكم في المستدرك (207) وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وابن أبي شيبة (33847، 34444).
[5] ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص10، 71.
[6] القاضي عبد الجبار المعتزلي: تثبيت دلائل النبوة ص173.
[7] أنتوتي بلاك: الغرب والإسلام ص122. (باختصار)
[8] جب: وجهة العالم الإسلامي ص9.
[9] القاضي عياض: الشفا 2/205.
[10] ولفرد كانتول سميث: الإسلام في التاريخ الحديث ص9، نقلا عن: محمد قطب: كيف نكتب التاريخ الإسلامي ص102.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق