الجمعة، 6 نوفمبر 2015

سوريا في عصر العولمة: مقبرة العالم بلا منازع


سوريا في عصر العولمة: مقبرة العالم بلا منازع


جهاد صقر

حقيقة تاريخية أن غزو الشام بحثاً عن مسامير جحا مقدسة بين ركام المصالح المؤسسة على كنوز ومراقد مكدسة، يحاكي السعي لقبور "تشفط" جحافل الغزاة المدنسة في حربها غير المقدسة.

هي إذاً وصفة أزلية قدمت الأرض الشامية على مر العصور -وبامتياز- كمقبرة عالمية، آخر نزلائها المصالح الإيرانية ومعها ميلشياتها الشيعية بألوانها العراقية واللبنانية والباكستانية واليمنية والأفغانية وأينما اشترى الإيراني بديلا رخيصا لدمائه المقدسة الفارسية.
ضحايا تجارة موت قذرة لم يشفع لها سلاح ثقيل ولا غطاء جوي ولا براميل متفجرة ولا أرض محروقة في اقتحام الغزاة لما هو فوق الأرض بشكل آمن، لتنتهي الرحلة تحت الأرض بمصير غير آمن. والعودة للأحبة على متن تابوت موشّى بعلم إيراني أو حزبي لبناني ومراسم عسكرية هو الاستثناء، لأن القاعدة دفن في قبور جماعية -بلا شواهد ولا صلاة جنازة أو نائحة- كأبلغ تعبير عن كلمة "تقبرني" الشامية، التي تنتظر دورها في الترجمة إلى اللغة الروسية.

مسكين هذا البطرس الأكبر الجديد "بوتين" في اندفاعه المحموم صوب خيرات المنطقة على وقع اعتبارات القوة وحسابات الهيمنة، فعبر العضلات بلا سياسة يستحيل الجمع بين موطئ قدم في مياه طرطوس الدافئة، وموطئ قدم في حقول غاز المتوسط الأكثر دفئا.
وحسابات الرجل الأولية لم تغفل المراد أن حصار أوروبا من خاصرتها الجنوبية، يجعلها رهينة أبدية لإمدادات غاز بروم الروسية.

لم يستوعب بوتين دروس تسفيه "تقبرني" لأحلام آية الله خامنئي السورية، تماما كما لم يستوعب هتلر دروس هزيمة نابليون في الثلوج الروسية فتجرع من ذات الكأس، اكتشف بوتين متأخراً انغراز قدميه في مستنقعات وحل سورية -لا حقول غاز متوسطية- تم استدراجه إليها -كما استُدرج صدام حسين للكويت- بوصفة "هيْتَ لك" أمريكية؛ ولا عزاء للمغفلين -أبداً- ولا هدية.

قبل انغماس الروس فعليا في حرب الوكالة السورية، قاتلت إيران السوريين حتى آخر مرتزق شيعي، وحاربت الولايات المتحدة هناك حتى آخر داعشي -إيراني وبغدادي-، ومصطلح داعشي يطال كل من مزج التعصب والحماقة بالآيديولوجيا بشكل دموي. دخول الروس على الخط غيّر المعادلة قليلاً فصار الروس يحاربون السوريين حتى آخر داعشي إيراني فيما يحارب الأمريكان السوريين حتى آخر داعشي روسي وإيراني وبغدادي، ولو دخل الصينيون على الخط فلا بأس؛ سيضيف الأمريكان -إلى قائمة مغفليهم- الحرب حتى آخر داعشي صيني... ولتذهب دواعش الحرب -مدنسة كانت أو مقدسة- إلى جحيم مقابر سوريا العالمي.

عسكرياً؛ قص الروسي شريط جحيمه ذاك بتغييرات جذرية على الخارطة العملياتية بما فيها التضحية بمن انتهى دوره من الجنرالات الإيرانية التي حسبت سوريا مقاطعة فارسية لا روسية، ولم تنصاع جيدا لأوامر القيادة الروسية. وبالتأكيد ففي ظل فوضى الهزائم الإيرانية لا صوت يعلو فوق وجهة النظر الروسية.
ألم يتحول مجرم الحرب قاسم سليماني نذير شؤم وأضحوكة هزلية؟ألم تعقب كل "سيلفي" له من ميادين مغامراته الدون كيشوتية في إدلب وحلب والقنيطرة ودرعا والزبداني وريف حمص الشمالي هزائم بالجملة مدوية؟ بل ألم يباد لواء الفاطميين الإيراني في درعا عن بكرة أبيه بالكلية؟

موسم الإغراءات القاتلة والحسابات الخاطئة هو ما أوصل الروسي إلى حيث انتهى الإيراني، فبعدما ظن الأول أن غرق الثاني في المستنقع السوري مرده غياب تنظيم وعدم دقة براميل، تم استبدال الطيار السوري بالروسي، والميج المتخلف بالسوخوي المتطور، والبرميل البدائي بمقذوف دقيق صاروخي، تماما كما تم استبدال قيادة العمليات الإيرانية بقيادة الجنرالات الروسية تنسق الضربات الساحقة الجوية، مُشرعة الباب أمام عمليات الاقتحام البرية ووقودها -بالطبع- ليس سوى المرتزقة البائسة الإيرانية، والنتيجة غير المتوقعة كانت بامتياز كارثة عسكرية واستراتيجية، ليس أقلها خسائر ضخمة في كل جبهة حرب برية، تتمرغ معها -في كل مرة- هيبة العسكرية والسياسة الروسية، بنفس وتيرة تعالي الشتائم وتعمق الشرخ وافتراق المصالح بين جحافل غزاة الأرض السورية.

أدرك الأمريكان والإسرائيليون مبكراً ما لم يدركه الروس والإيرانيون سوى متأخراً، ألا وهو استحالة الحسم العسكري بوجه ثوار الحرب البرية؛ ممن أثبتت سنوات تشرذمهم أنهم أساتذة في حرب العصابات بما لديهم من خبرات وقدرات ومهارات وعقيدة قتالية، تحسدهم عليها أكبر الجيوش النظامية بما فيها جيوش الناتو -بل وقوات النخبة الإسرائيلية- التي علمتها حرب غزة أن اللعب في عش دبابير "المسافة صفر- ليس نزهة خلوية.
 الحل إذاً ضرب نسخة جالوت السورية بقوات دولية لا تقتصر فقط على الإيرانية والروسية بموازاة الداعشية البغدادية، لأن الهدف إضعاف الجميع بالسويّة.

هي في نهاية الأمر لعبة مصالح بلون الدم ورائحة الغاز وطعم العلقم والبارود، فبفضل المال العربي يتم الخلاص من الدب الروسي والإيراني وتحجيم التركي وإبادة العربي وحصار الأوروبي وتلقين الاسرائيلي أن القرار الأول والأخير بيد سيد الكون الأمريكي؛ يستنسخ فيه هذا الأمريكي تاريخه البوسني قبل الأفغاني؛ حيث تسكن المدافع بعد إنهاك الجميع وقد انتعشت صناعة بضاعتها مغامرون أغبياء وسلاح ذكي يحيلون سوية كل شيء قاعا صفصفا؛ توطئة لمشاريع ابتزاز (أو إعادة إعمار وهيمنة بين قوسين)، بعدما يحول توازن الرعب والرعب المضاد دون تمكن أي طرف من حسم المعركة أو فرض آجندته كمنتصر بالضربة القاضية.

خلاصة الموضوع -وفق التصور الأمريكي- اتفاق سلام يحمل في بذوره طيات حرب مرشحة للاندلاع مجددا وقتما ترتأي القوى الكبرى؛ هو لاتفاق إنهاء حرب البوسنة وتقسيمها أقرب؛ يقسم البلاد بعد قتل العباد وكل ما يمت بِصلة للوحدة والسيادة الوطنية، وبالطبع يقدم كل ثائر عصي على الاستيعاب في الترتيبات الأمريكية كإرهابي برسم المطاردة الدولية، لتظل الكرة في ملعب الثوار، إن كان في جعبتهم -حول ما تقدم- رؤية آخرى.

* خبير ومحلل استراتيجي
Twitter: @j_saqr

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق