السبت، 30 يناير 2016

كردستان الكبرى وشبح جنوب السودان

كردستان الكبرى وشبح جنوب السودان



شريف عبدالعزيز
السبت، 30 يناير 2016
حين يأتي ذكر منطقة الشرق الأوسط ، أو النطاق الإقليمي الممتد من المحيط إلى الخليج ، غالبًا ما يتم الحديث عن الثقافات الثلاث ؛ العربية والفارسية والتركية ، باعتبارها المثلث الرئيسي الذي شكل الملامح الثقافية والسياسية والاجتماعية للمنطقة ، منذ مقتل الخليفة العباسي الأمين واستلام أخيه ذي الميول الفارسية ، المأمون ، 
أي منذ قرابة ثلاثة عشر قرنا من الزمان، وذلك نظرًا لغلبة أعداد المنتمين لهم ديموغرافيًا، بين حوالي 350 مليون منتم للثقافة العربية، وحوالي  100 مليون للثقافتين الإيرانية والتركية، وبينما تتمركز أقليات ثقافية مثل الأمازيغ والنوبيين على هامش المنطقة جغرافيًا، وبأعداد صغيرة نسبيًا، فإن الأكراد، البالغ عددهم حوالي 30 مليونًا، يُعَدون استثناءً لهذه القاعدة، إذ يعدهم البعض ضلعًا رابعًا وصغيرًا للمثلث الإقليمي.
والأكراد أنفسهم لم يكن عندهم مشكلة الإحساس بفقدان الهوية طوال هذه العهود حتى ظهور القومية الطوارنية والعربية فى مطلع القرن العشرين ، وأواخر عهد الدولة العثمانية ، فالجميع كان انتماؤه للإسلام وللدولة الجامعة التي تمثل المظلة الشرعية لكل المسلمين على اختلاف قومياتهم وعرقياتهم ؛ الدولة العثمانية في تلك الأثناء. فلما تفجرت القومية بجناحيها الطوراني والعروبي ، بدأ الأكراد بدورهم يطرحون على أنفسهم أسئلة الهوية والقومية ، ولما لا ؟ والعرب والأتراك يسارعون في بناء أيديولوجياتهم الجديدة التي ستكون بديلا عن الهوية الإسلامية الفضفاضة الجامعة ، ومن ثم بدأ الأكراد رحلة البحث عن الذات القومية .
ولطالما شكل غياب الدولة القومية ، حاجزًا أمام الأكراد لإثباث حضورهم في الساحة سياسيًا وعسكريًا في القرن العشرين، وهو أمر طبيعي بالنظر لهيمنة الدول الغربية على مقدرات المنطقة والعالم بأسره، ومركزيتها للفعل السياسي طوال القرن الماضي، بيد أن ما يجري مؤخرًا، والتفكك الذي طال المنظومة القومية التي رسمها الاستعمار الأوروبي في المنطقة العربية، قد خلق فراغًا كبيرًا في العراق والشام أدى إلى ظهور كيانات غير قومية، أبرزها بالطبع دولة الإسلام في العراق والشام (داعش)، وكذلك الأكراد، فاليوم قد أصبح كل من الأكراد وداعش مصمما الخريطة الإقليمية الجديدة . فطموحات وآمال الفريقين غيرت قوانين اللعبة في المنطقة، وغيرت نتيجة ذلك التوازن السياسي بين أطراف القوة المختلفة التي تؤثر في المشهد .
فقبل مئة عام تم تصميم خريطة الشرق الأوسط من قبل أطراف خارجية، سواء بريطانيا أو فرنسا. أما اليوم فإن مصممي الخريطة الإقليمية هم لاعبون محليون، وفي الوقت الذي شكلت فيه البنى القومية الدول، فإن القرن الواحد والعشرون يتميز بظهور مؤثرين آخرين غير الدولة القومية ،وفي الوقت الذي سيطرت فيه القومية العربية خلال القرن العشرين،تسيطر اليوم أطراف إسلامية وعرقية،وهي التي تحدد البرنامج اليومي السياسي.
وإذا كان الجيش الحكومي هو الذي يقرر في السابق، فإن المقرر اليوم هو جيش غير نظامي، ميلشيات ومنظمات مسلحة ،وقادة لم يعملوا بالسياسة أو يمتثلوا لقواعد اللعبة الدولية ،ولا يعترفون بنظام الدولة المعاصر، ولكن الفارق ، فالأكراد يتمتعون بدعم غير مسبوق من كل القوى الدولية المتصارعة ، في حين أن تنظيم الدولة "داعش" تواجه عسكريا هذا التحالف الداعم للأكراد ، مما أضفى على المشهد الإقليمي تعقيدا غير مسبوق .
فقد نجح الأكراد بعد عقود من الزمان في اجتذاب التعاطف مع قضيتهم،من باب الترويج لأكبر قومية في العالم لا تمتلك دولة،واستثمر الأكراد في أحداث المنطقة المشتعلة مؤخرًا، وقدموا أنفسهم للعالم بطريقة البديل، في ظل فشل القوى الغربية في الاعتماد على فصائل منظمة أو مجموعات ذات هدف مشترك أثناء الصراعات الدائرة في المنطقة، لاسيما في عملية الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" .
فأداء الأكراد في الحرب مع داعش أعطى فرصة لإحياء قضيتهم واكتساب مساحة جديدة من مشاعر التعاطف الدولي مع قضيتهم، حيث يرى محللون أننا بإمكاننا الحديث عن مجيء اليوم الكردي في الشرق الأوسط .
فالحملة التي تقودها الولايات المتحدة ضد الدولة الإسلامية (داعش) داخل العراق وسورية، تعتمد بشكل كبير على المليشيات الكردية كقوات أرضية تابعة للتحالف على الأرض، ومنذ بدء الضربات الجوية الدولية في سبتمبر عام 2014، استعادت قوات البيشمركة الكردية في العراق حوالي 25 إلى 30% من الأراضي التي تم خسارتها لحساب داعش، ونجم عن هذه المكاسب الإقليمية إضعاف وصول تنظيم داعش لموارد النفط والغاز، وتجفيف بعض عائداته، ولكن قصة نجاح البيشمركة ليست كاملة، كون هذه القوات تستغل الضربات الجوية لقوات التحالف لهندسة التغييرات الإقليمية والديموغرافية المعادية لمصالح العرب السنة في المجتمع العراقي . والمشهد ذاته تكرر  فقد سيطرت وحدات القوات الكردية التابعة لحزب العمال الكردستاني في يونيو 2015 على مدينة "تل أبيض" على الحدود السورية التركية، فعطلت بذلك اتصال "داعش" بتركيا جغرافياً وسمحت بربط كانتوني "كوباني" و"الجزيرة"، وحاولوا ربطها بعفرين لإقامة دويلة " روجافا " الكردية على غرار كردستان العراق، إلا أن ما يقلق الأكراد أو يخيفهم هو رفض تركيا وبشكل مطلق اتصال المناطق الكردية السورية وإنشاء إقليم يتمتع بحكم ذاتي . ولكن رغم كل هذا التطور في الشأن الكردي والتقدم الكبير الذي حققه الأكراد على طريق حلم إقامة الدولة القومية للأكراد ، والدعم الأمريكي الروسي المشترك في سبيل إقامة هذا الكيان القومي الجديد ، فإن المشاكل والصعاب التي تواجه هذه الدولة المستقبلية أكبر من هذه البساطة والأريحية التي يتحدث بها قادة الأكراد عن دولتهم كأنها أمر واقع لا محالة .
وبعيدا عن الرفض التركي القاطع لإقامة دولة للأكراد خاصة في سوريا ، واعتبار هذه المسألة خطا أحمر للأمن القومي التركي لا يمكن التنازل عنه ، ثمة أمور أخرى تصعب قيام هذه الدولة ، وتجعلها حال ولادتها دولة فاشلة تماما مثل دولة جنوب السودان.
فثمة تباين ثقافي وأيديولوجي وسياسي داخل النسيج الكردي ، يجعل من فكرة إقامة كيان قومي بعيدة المنال ، إن لم تكن مستحيلة . فالأكراد هُم واحدة من الشعوب المنتمية عرقيًا ولغويًا إلى الشجرة الإيرانية،حيث تُعد لغتهم جزءًا من مجموعة اللغات الإيرانية الشمالية الغربية، وهي تنقسم إلى ثلاث لهجات (أو لغات) رئيسية، أبرزها الكورمانجي (الشمالي)، ويتحدثها حوالي 15 أو 20 مليون بجنوبي شرقي تركيا وشمال العراق وجنوبي غربي إيران، والسوراني (الوسطى) ويتحدثها حوالي 6 أو 7 ملايين في كردستان العراق وإيران، والبهلواني (الجنوبي) ويتحدثها حوالي ثلاثة ملايين بولايتي كرمانشاه وإيلام في إيران، أضف لذلك الگوراني والزازا، وهما لغتين غير كرديتين تتحدثهما مجموعات كردية عرقيًا في إيران وتركيا ، على الرُغم من تصنيف تلك اللهجات كلهجات للغة الكردية، إلا أنها تتسم بفروق كبيرة دفعت الكثير من الباحثين الغربيين إلى تصنيفها كلغات مختلفة، بل إن هناك من يقول أن البعض من بين متحدثي السوراني والكورمانجي لا يفهم بعضه البعض بسهولة، وأن الفرق بينهما يصل إلى الفرق بين اللغتين الألمانية والإنجليزية. 
هذه الفروق تنعكس على الهويات الداخلية، أو الهويات ما دون الكردية إن جاز القول، والتي يكون لها تأثير سياسي، كما تشي بذلك الحالة العراقية مثلًا، حيث يميل معظم متحدثي الكورمانجي إلى حزب كردستان الديمقراطي الذي يقوده مسعود برزاني، في حين يميل الكثير من متحدثي السوراني إلى الاتحاد الوطني الكردستاني برئاسة جلال طالباني .
كذلك العيش لعقود طويلة في بيئات مختلفة قد خلق اختلافات بين ثقافات الأكراد في تركيا وإيران والعراق وسوريا، فالسوراني يُكتَب بحروف عربية وفارسية نظرًا لرواجه بالأساس في العراق في إيران، في حين يُكتَب الكورمانجي بالحروف اللاتينية نظرًا لتمركزه بجنوبي شرقي تركيا.
أما على الصعيد السياسي والعسكري ، فقد أدى التباين الثقافي إلى توتر سياسي كبير بين الأكراد أنفسهم، فحزب العمال الكردستاني بقيادة عبد الله أوجلان، والمتمركز في جنوب تركيا وشمال سوريا، يعَد ندًا أساسيًا لحزب كردستان الديمقراطي الذي يقوده بزراني ويسيطر بشكل كبير على حكومة كردستان الإقليمية بشمال العراق، ورؤاهما كذلك لماهية أهداف الأكراد تختلف بشكل كبير، كما تشي بذلك سياساتهما وتكتيكاتهما ناحية الحكومات الأربعة التركية والإيرانية والسورية والعراقية .
فقد اندلعت حرب أهلية كردية مريرة في التسعينيات بين حزب كردستان الديمقراطي والاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة طالباني في التسعينيات، وهو الصراع الذي مال فيه أوجلان لصالح طالباني لإضعاف برزاني. 
ثم ما لبث أن أعتقل أوجلان ودب الضعف في حزبه ، وبدأ يفقد بريقه لصالح حزب العدالة والتنمية الذي اهتم بالمناطق الكردية، في حين قفز برزاني بحكومة كردستان بعد غزو العراق وأصبح قاب قوسين أو أدني من الهيمنة على تمثيل الأكراد إقليميًا ودوليًا، لا سيما مع انفتاحه على أردوغان، والذي وجد في جهوده لاحتواء حزب العمال فرصة لبسط سلطانه الكردي تمامًا، بل وحل المسألة الكردية في تركيا عن طريق أربيل بشكل يغلق الطريق تمامًا أمام بروز حزب العمال من جديد ، غير أن الثورة السورية أطاحت بآمال برزاني وبثت الروح في حزب العمال مرة أخرى ، وتشكل نطاق سلطانها الخاص (روجافا)  كنواة لنظام حكم ذاتي يناطح كردستان العراق، وهي قوة كانت في خلال عامين قد بدأت في التكشير عن أنيابها تجاه برزاني وحزبه، حيث قامت بحملة عبر منابرها الإعلامية ضد هيمنة حزب كردستان الديمقراطي في شمال العراق، ودعمت حركة التغيير الشبابية الكردية “گوراني” التي نافست الحزب في انتخابات كردستان العراق، مما أتاح لها أن تحل ثانية بعد الحزب في ظهور قوي أطاح بحزب طالباني للمركز الثالث في الانتخابات المحلية .
هذه الحسابات المعقدة، تعني ببساطة أن مقومات الدولة القومية غير موجودة على الأرض نظرًا لتصارع عناصرها مع بعضها البعض بشكل أشبه بسيناريو جنوب السودان، والذي عزز من دعايا الانفصال عن السودان لسنوات دون أن يدرك أنصار استقلاله أنه لا يملك بنيانًا متماسكًا يمكن للدولة القومية أن تنبت منه، ولكن فصيلين عسكريين على الأرض لم تكن العداوة بينهما بادية نظرًا لتركيزهما على عدوهم المشترك، وهو ما أشعل صراعًا جديدًا بالطبع بينهما فور الإعلان عن استقلال جنوب السودان .
فكردستان العراق بقيادة برزاني ستحاول احتواء روجافا سوريا بقيادة أوجلان ، وستشعل تركيا نار الخلافات بينهما لتكون هي الرابحة من هذا الصراع ، وأمريكا ستفيد من كل الأحوال ، والأوضاع سواء قامت دولة للأكراد أو لم تقم تسير لصالح المشروع الأمريكي حيال المنطقة، فمآل الاشتباك الجاري في الملف السوري والعراقي سيقود لخيارين كلاهما مفيد للأمريكان ، فأما حكم ذاتي و كيانات منفصلة ، وأما حرب عربية – كردية يمتد لهيبها من العراق إلى سوريا مشعلة المنطقة الإقليمية ببحر من النار تتصارع فيه الأقليات والطوائف ، وهو الصراع الذي لا يدويه زمان ، ولا يلجمه زمام من دين أو عرف أو عقل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق