الأحد، 31 يناير 2016

شهادتي على ميلاد أمة في رابعة الصمود


شهادتي
 على ميلاد أمة في رابعة الصمود




-العنوان: شهادتي على ميلاد أمة في رابعة الصمود
-المؤلف: د. جمال عبد الستار محمد
-عدد الصفحات: 198 صفحة
-الناشر: مؤسسة الريان
-الطبعة: الأولى، بيروت، 2014

عرض/جاد الكريم المطاوعي

يعرض مؤلف كتاب "شهادتي على ميلاد أمة في رابعة الصمود" شهادته، ويروي بقلمه وكاميرته الكثير من الأسرار ومشاهداته في اعتصام رابعة، حيث شارك وعايش أحداثه كلها لحظة بلحظة.
د. جمال عبد الستار ليس مجرد أزهري ومتخصص بالدعوة الإسلامية أستاذا وداعية ومسؤولا حكوميا (وكيل وزارة الأوقاف لشؤون الدعوة أيام مرسي).. بل شاهد عيان المحرقة.

وفي البداية يجيب المؤلف عن سؤال: لماذا الاعتصام؟ حيث يوضح أنه بعد أن وصل الإسلاميون لسدة الحكم وفق الآليات الديمقراطية نكص المتشدقون بالمدنية ونادوا بلا خجل بدولة عسكرية، بل هدموا ما بناه الشعب وقتلوا المخالفين أو اعتقلوهم، وعسكروا الشوارع والميادين.
لذا كانت المواجهة حتمية لا بين تيار بعينه، بل شعب تاق للحرية وبين قوة غاشمة ألفت رؤية الشعب خاضعا لها، فاتخذ الاعتصام وسيلة لاستكمال أهداف ثورة يناير "فكانت رابعة ميدانا وميقاتا لإعداد أمة جديدة ومخيما ربانيا عجيبا".

من قلب الحدث
يقول الكاتب: لم أتحدث عن اعتصام "ميدان النهضة" ليس تجاهلا، فأنا لم أشرف بالذهاب إليه لاعتصامي الكامل في رابعة من أولى لحظاته، فآثرت ألا أكتب إلا ما رأيته.

ثم يشرع بالدخول فيخيرنا بين أي من مداخل الميدان الأربعة الرئيسة (المنصة وطيبة مول وصلاح سالم والتأمين الصحي)، فتقع عينك على متطوعين مهمتهم الحفاظ على السلمية بالتأكد من شخصية الداخلين ومنع البلطجية والمندسين، وقد مرض أحدهم وكان مسنا فأبى إلا الاستمرار حتى سقط مغشيا عليه ثم لقي ربه مرابطا.

ويتنقل بنا بين خيام الاعتصام فترى إبداعا في بنائها، وكأنك تجد لكل قرية مصرية خيمة، وساكنوها من مختلف الطبقات والأعمار والتوجهات، وقاسمهم المشترك رفض الانقلاب، وهم بين القرآن والتزكية والنقاش، ورغم "الازدحام الشديد ينفصل الرجال عن النساء في أدب راقٍ وخلق رفيع".

أما منصة الميدان -التي أذهلت الملايين وأربكت حسابات الانقلابيين وتابعتها أجهزة الاستخبارات العالمية والمحلية- ففيها تُلقى البيانات، ويعتليها سياسيون وصحفيون وفنانون وشعراء وقضاة، والعلماء تاج رأس المنصة.

ويدلف الكاتب بنا لخيمة التوثيق المزودة بأجهزة حاسوب وكاميرات تصوير لحفظ الفعاليات لتكون أرشيفا للأجيال.. وطائرات بسيطة بدون طيار مزودة بكاميرات تم شراؤها عن طريق الإنترنت، سعر الواحدة عشرة آلاف جنيه.


غرفة السلاح.. والبث


وينتقل الشاهد (المؤلف) بين جنبات مسجد رابعة وقد أصبح مؤسسة تربوية سياسية اجتماعية إعلامية صحية علمية أدبية متكاملة، وقد خصصت فيه ساحة للنساء.
ويطلعنا على غرفة الإمام وقد أصبحت مقرا لمجموعة من العلماء لتوزيع المحاضرات وإمامة الصلوات ودروس النساء، علاوة على بث روح الثبات في قلوب المعتصمين وترشيد حماسة الشباب.

ويضيف: ظلت الغرفة صامدة حتى أحاطت بها النيران فاحترقت بكل ما فيها حتى أتت على السلاح الذي غمز به الانقلابيون. وفي لحظة اعتراف يقول الشاهد: نعم، كان هذا السلاح مع أكثر المعتصمين أفرادا وعلماء، وفي كل خيمة.. لقد أحرقوه، إنه كتاب الله.

ويتحدث الكتاب عن دور بعض مهندسي الاتصالات والإعلاميين المعتصمين في إعادة تشغيل أجهزة التلفزيون الحكومي بعد أن انصرف الطاقم بعد الفض ليعود بث الجزيرة والحوار والقدس واليرموك وغيرها، ولتنقل وقائع الاعتصام من أول لحظة، وأحلك عشر ساعات لمذبحة فض رابعة، ولينكشف زيف الإعلام الرسمي.


من روائع الميدان


ويسطر الشاهد صورا ونماذج للصمود نقتطف منها: "استوقفتني امرأة، قائلة: يا دكتور أنا فقيرة، فظننتها تريد صدقة لكنها سرعان ما قالت إنها لا تجد ما تنفقه على المعتصمين غير ما تبقى لها من ذكرى زوجها (دبلة الخطوبة).

ويمضي: "ومُسن استشهد أحد أبنائه الثلاثة وأصيب الثاني واعتقل الثالث، يقول "قد حضرت لأكمل المشوار حتى نسقط الانقلاب..".

ويحكي باسما عن خيمة لأسرة تطل على غرفة الإمام يستيقظ أطفالها باكرا بالصياح واللعب، والأم تهدهد رضيعها مداعبة "ارحل يا سيسي.. يسقط حكم العسكر". وشاب يحفظ القرآن أصيب فيوصي ابن قريته "أنا اقترضت من شركة فودافون رصيدا.. أرجوك سدده عني" ثم تفيض روحه.

وآخر يستعطف الكاتب أن يدعو له بالشهادة، فيخبره والده بالنبأ سعيدا، فأبادره "لقد صدق الله فصدقه"،

وثالث رُزقَها ولم يعتصم لتردده جراء أكاذيب بعض "الإعلاميين" لكنه حسم أمره وتوجه للميدان ينقل المصابين فجاءته رصاصة من خلفه، ورابع طلب أن يُحلق له "حلاقة الشهادة" فيُلبى له طلبه، ويستجيب له ربه، وخامس يأبى تحت وقع الرصاص إلا أن يؤذن لصلاة الفجر لوقتها وهو يترنم بصوته حتى أكمل نداء الصلاة، قائلا "فيا هناء من استشهد وهو يرفع الأذان".

وشيخ، يلفظ شابٌ أنفاسه الأخيرة على يديه قائلا "اثبتوا.. الجنة حلوة "أوي" (جدا)". وامرأة أرستقراطية تأتي وبيدها زوجها المستشار "هندخل علشان ندعمكم" بعد أن كانت تصرخ في المعتصمين "انتو شوية كلاب". وصعيدية تدفع ابنها يوم الفض "كيف نترك إخوتك ونخون الدماء؟ لا يا بني، يا نموت معاهم يا نحقق مناهم".

صمود المعتصمين واتساع دائرة التأييد للشرعية والزحف الشعبي خاصة بالعيد وفقد الأمل في يأس المعتصمين عوامل عجلت بفض الاعتصام
وأسرة قضى بالغاز السام اثنان من أطفالها الثلاثة، والأب المكلوم يخاطب زوجه "لم يعد لي في هذه الدنيا مكان، فإما أن أسترد حق أولادي أو ألحق بهم". فتودعه، وبعد عشر دقائق يأتيها محمولا وقد تفجر رأسه برصاصة فلحق بصغيريه.

بأي ذنب قتلونا؟

وفي الفصل الثاني يروي د. عبد الستار بعضا من أسرار مجزرة الحرس والمنصة وفض رابعة، ففي جمعة 5 يوليو "تعاهدنا على المسير إلى الحرس الجمهوري للمطالبة بتسليمنا الرئيس المنتخب، وألا يخرج أحدنا إلا بعد كتابة وصيته".

واصطف الأئمة بزيهم الأزهري يحملون المصاحف، فهرعت الآلاف خلفهم فتحولت لمليونية قوبلت برصاص قوات نادي الحرس وعلت الرؤوس الطائرات ولم يمنع القتل من زحف الجماهير.. "فأخذت أنادي على كل واحد منهم (قيادات الحرس) باسمه ورتبته أن احفظوا مصر من الفتنة، وذكرناهم بحب الله ثم الوطن".

وكان الدعاء مع اليقين حتى تأثر الجند فانهمرت الدموع من عيونهم فاضطروا لاستبدالهم، وكانت لحظات صدق فـ"الشعب والجيش يد واحدة" ومر السبت بهدوء وجاء الأحد يوم التفاوض والحوار، وحضر لنا عميد فأخبرناه بمطلبنا فوعدنا أن يبلغ القيادة طالبا مهلة ساعة.. وجاء الرد بالركعة الثانية لصلاة الفجر: قنابل غاز ورصاص حي في ظهور الساجدين بدعم مجموعة من فوق أسطح المباني تمارس هواية إصابة العيون وتفجير الرؤوس.

واستمر القتل حتى التاسعة والنصف صباحا تقريبا، وكان من بين الشهداء أساتذة وطلاب جامعات أزهر وإعلاميون ومهندسون ودعاة.

ومن نجا اعتُقل، وقد أرغموا البعض على التصوير وهم يحملون السلاح ولفقوا لهم قضايا قد تصل إحداها للإعدام، وقد نقل الشاهد عن واحد ممن أطلق سراحه أنه شاهد بنفسه رصاصة تأتي من جهة قوات الجيش لتستقر بجسد أحد الضباط فترديه قتيلا.

وفي جمعة الـ17 من رمضان تقاطر المصريون على "رابعة" حتى وصل ذروته بعد صلاة العشاء والقيام، فجاءت فكرة التمدد خارج الميدان بالقيام بمسيرة في شارع النصر، واصطدمت بكمين و"لاحظنا حقدا دفينا من استهداف المعتصمين السلميين" وضربا استمر من الواحدة ليلا حتى التاسعة صباحا، ولم يسلم من لاذ بجامعة الأزهر للاحتماء من نيران بلطجية أمن الدولة من أعلى كلية الدعوة الإسلامية ومسجد الزهراء. ويتساءل الشاهد: من فتح لهم الأبواب، ومن أدخل الأسلحة والقنابل؟

ويفند الكاتب ادعاء وزير الداخلية بأن المعتصمين كانوا ينوون حرق قاعة المؤتمرات "وأنا أعجب من تصديق العامة وصمت العلماء وخرس مؤسسات المجتمع المدني وجمعيات حقوق الإنسان والمؤسسات الدولية: فكيف عرف السفاح نيتهم؟ وهذه القاعة كانت تقع بمنطقة الثوار فلماذا لم يحرقوها؟ وهل بمجرد النية يقتل المئات ويصاب ما يزيد على ألف؟ وهل من حق الشرطة أن تقتل بمجرد الظن؟

المحرقة 
ويتساءل الشاهد الناجي من المحرقة: لماذا فض الاعتصام بالقوة والأجهزة السيادية والأمنية على علم -من خلال عناصرها داخل الاعتصام- بتفاصيل ما يحدث بالميدان والخيام والمنصة على الهواء مباشرة؟

ويجيب: كنا ندرك أننا أمام اعتداء غاشم بسبب صمود أحرج الانقلابيين، اتساع دائرة التأييد للشرعية والزحف الشعبي خاصة بالعيد، فقد الأمل في يأس المعتصمين، المسيرات لبعض الوزارات أحدثت زلزلة لدى حكومة الانقلاب، الاقتراب من بداية الدراسة والحذر من انضمام الحركات الطلابية، التيقن من سلمية الاعتصام خاصة بعد زيارة الهيئات الدولية الحقوقية.

ويقترب الشاهد من أولى لحظات الحرق صباح الأربعاء 14 أغسطس "مع أول دقيقة ارتقى شهيد ثم طفل رضيع.. وتوالت الاعتداءات واقتربت الطائرات من الرؤوس، ولو كان هناك أدنى سلاح بالميدان لأصابها.. وأضحى الموت أقرب من شراك النعل.. "فلا تكاد تسير خطوة إلا تجد شهيدا أو جريحا، والدماء تغطي كل المكان، وأنظر في وجوههم النضرة فأقول: ماذا أجرمت في حق وطنك ودينك ليقتلوك؟

مع أول دقيقة من فض الاعتصام ارتقى شهيد ثم طفل رضيع.. وتوالت الاعتداءات واقتربت الطائرات من الرؤوس ولو كان هناك أدنى سلاح بالميدان لأصابها
ثم خرجت هائما من الصالات التي أضحت أكبر "سلخانة" بشرية في العصر الحديث، وخرجت متوجها لشارع الطيران والطلقات تدوي فإذا بي أمام خيمة المقطم خلف المنصة وقد غاب عنها الأحياء وملأها الشهداء، والمصابون يصرخون.. وظلت المنصة صامدة وقد أضحت هدف المعتدين الأول ولم يخفت صوتها إلا في حدود الخامسة، حيث فوجئنا بالجرافات تدخل من الخلف بعد إحراق وتجريف خيمة المقطم بما فيها من الجثث والمصابين.. وتهاوت راية المنصة بعد 48 يوما وقد أذهلت العالم.

في العمر بقية
ويضيف الشاهد: ووسط القصف والغاز والنار التي بدأت تأكل الميدان خرجت مسرعا فاخترقت الزحام أستجدي الهواء واشتد خفقان القلب، ودون تفكير وجدت نفسي ومجموعة كبيرة بشارع الطيران أمام المسجد وقد تحول لرماد وخراب، وإذا بالمفاجأة: قوات أفرادها يصرخون "ارفعوا أيديكم" والطلقات تخرج من فوهات رشاشاتهم حارقة.. ونمر أمامهم (ويتعجب) فلماذا لم يقتلونا أو يأسرونا؟ هل أعمى الله أبصارهم؟

ويكمل شهادته بقوله إنهم اتجهوا بعد ذلك لمسجد الإيمان بشارع مكرم عبيد، حيث تم تجميع ما أمكن إحضاره من جثامين الشهداء قبل أن يقوموا بإحراق الميدان والمسجد بما فيهما من أحياء وأموات.

وأسدل الستار على شهادة ناجٍ من "أسود يوم بتاريخ مصر حصدت فيه أرواح أكثر من ستة آلاف مصري وما يزيد على عشرين ألف مصاب، ليزرعوا فتنة ويوزعوا على القرى والمدن أحزانا ونيرانا لا يعلم إلا الله متى تنطفئ. أحرقوا الميدان لتلعنهم الميادين.. أحرقوا رابعة فأراد الله أن تكون أشهر معلم بالكرة الأرضية".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق