اقتباس أوروبا من المسلمين (3) الأمة الواحدة
ا.محمد إلهامي
باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية
اقرأ أولًا:
اقتباس أوروبا من المسلمين (2) قوة المجتمع
كانت وحدة الأمة الإسلامية أمرًا لافتًا في مسار التاريخ، لا سيما مع الاستيعاب الإسلامي لجميع الأجناس والشعوب، التي دخلت فيه وساهمت في صنع حضارته، وعلى ما بين الديار من تباعد ظل الضمير الإسلامي يرى المسلمين أمة واحدة ودارًا واحدة.
يقول أنتوني بلاك، وهو ممن اهتم ببحث الفوارق بين الإسلام والغرب عبر التاريخ: “احتوى الإسلام الباكر على عناصر من القومية العربية، لكن محمدًا r وأتباعه رفضوا النهج اليهودي للانعزال القومي وابتكروا –بدلاً من ذلك- مجتمعًا دوليًّا جديدًا، (وعبر التاريخ) كانت الأمم تعد تجمعات اجتماعية لها ثقافتها وعاداتها، وفي بعض الحالات أديانها الخاصة، وتبنت البلاطات الملكية ثقافة راقية متعددة القوميات، تضمنت بعض العناصر ما قبل الإسلامية، بالإضافة إلى الاستفادة من التراث الثقافي لمناطقها، وكان الدين في أيدي جماعة من العلماء متعددي القوميات على نحو واعٍ ذاتيًّا، وكانت بعض الدول الإسلامية تحكمها سلالة تتكون من مجموعة أقلية عرقية (مثل البويهيين والسلاجقة)، وكانت الإمبراطورية العثمانية مأهولة بمزيج من المجموعات العرقية… وهكذا تجاوزت وحدة الأمة الاختلافات العرقية أكثر بكثير مما فعلت الكنيسة؛ سواء في العالم المسيحي الشرقي أو الغربي، قبل الإصلاح أو بعده، ولم تكن توجد دولة قومية في العالم الإسلامي حتى القرن العشرين”([1]).
وما إن انتهت الحروب الصليبية حتى بدأت أوروبا في التفكير في التوحد، وقد أخذ هذا نحو خمسة قرون (1300 – 1800م)، ونشر البابا بيوس الثاني (1458م) رسالة تحمل حلم توحد أوروبا في دولة واحدة، ومضى الأمر يداعب الخيال ويسير في الواقع حتى كان لفظ “أوروبا” في أواخر القرن السابع عشر يحل محل لفظ “العالم المسيحي”، ومع حلول القرن الثامن عشر كان الثناء على “أوروبا” هو التيار الغالب، مع شيوع العديد من القيم مثل التسامح الديني([2]) وتخفيف العقوبات القاسية والقومية العدوانية، وتقدم التجارة والصناعة، والتوحيد السياسي لأوروبا، وسرى الحلم الأوروبي في كتابات المفكرين والفلاسفة مثل وليام بن –الذي كان أول من دعا إلى قيام برلمان أوروبي- وفولتير وروسو وغيرهم([3]).
لقد خرجت هذه الأحلام من رحم الصراعات الدينية التي اجتاحت أوروبا، فكان السعي محمومًا لإيجاد رابطة أخرى تجمع الأوروبيين؛ لترحمهم من هذا الصراع، ثم انتهى هذا الصراع بعقد صلح وستفاليا (1648م)، الذي أرسى مبدأ الدولة القومية، وأعاد تشكيل أوروبا، وكان أكبر الخاسرين فيه هو المسيحية، التي بدأ سلطانها يذوي منذ تلك الأيام([4])،وبهذا “نرى أن الدولة الحديثة نشأت عن إفلاس الكنيسة”([5]).
على أن هذا الهروب من المسيحية -وحروبها الدينية الدموية- إلى الدولة القومية لم يكن حلًّا ناجعًا، إذ ما إن خفت سلطان المسيحية حتى اشتعلت لعنة القومية، وباشتعالها نشبت الحروب القومية؛ التي كانت أسوأ من الحروب السابقة، فحروب الأباطرة هي حروب نبلاء ذوي أخلاق، ويمكن أن تنتهي بصلح أو زواج ملكي، بينما حروب الرؤساء سياسية بلا أخلاق، ولا يمكن أن تنتهي بمعاهدات صلح أو زيجات، وتستبيح مواطني البلدان الأخرى جميعهم بلا ذرة تردد أو ألم ضمير([6])، وقد بلغت ذروة هذه اللعنة في الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث لم يكن يتردد طرف في إبادة شعب الطرف الآخر من المدنيين غير المشاركين في الحروب بأفتك أنواع الأسلحة المعروفة حتى ذلك الزمن، فقُتِل ملايين البشر مع عشرات الملايين من الإصابات والمشوهين، ومئات المدن المُنْدَكَّة والاقتصاد المنهار، وما سوى ذلك من خسائر لا تحصيها الأرقام.
لكن المثير للإعجاب أن أوروبا بعد خروجها من هذه الحروب فكرت في التكتل وتجاوز لعنة هذه القومية، وذلك في الوقت ذاته الذي كانت تزرع فيه القومية في بلادنا نحن، وإن الصورة التي داعبت الخيال الأوروبي كانت من آثار الاحتكاك بالمشرق؛ فهذا التكتل الأوروبي لم يكن مجرد التئام جغرافي، “ولكن رؤية [قِيَمية وفلسفية] شاملة، وهي رؤية مجتمع متمدن، متسامح، مسالم، وهو في الوقت نفسه متنوع وموحد، ومتجاوز للقومية وللسياسات، ومؤسس على المعرفة العلمية والتقدمات الثقافية، وهو صديق للفنون وللعلوم وللتجارة، وللتقدم في الكرامة الإنسانية، والحرية والسعادة”([7]).
وهذا الوصف هو في الحقيقة وصف للمشرق الإسلامي كما شاهدته الحملات الصليبية، واحتك به الإسبان في الأندلس والمغرب، والنورمان في صقلية وإفريقية وجيوش الاحتلال فيما بعد.
وعلى الرغم من أن الغربيين لم يصلوا إلى هذا الحلم؛ فإنهم حققوا أهم أركانه، فلقد “محا إنشاء السوق المشتركة ثم الاتحاد الأوروبي لاحقًا القومية الخبيثة، وصاغ إحساسًا من المصلحة والهوية المشتركتين بين الأمم الأوروبية، وتوقفوا عن غزو أحدهم الآخر، واشتركوا في حلف عسكري غربي، وتبع ذلك ستون عامًا من السلام الذي لم ينقطع، ومن الازدهار في أوروبا الغربية”([8]).
وبينما يتخلص الأوروبيون من القومية ولعنتها فإنهم كانوا يغرسونها في أرضنا، وكان هذا ضمن مساوئهم التي تركوها ببلادنا، فكانت من أهم أسباب نكبتنا، وهذا ما سنرى طرفًا منه في المقالات القادمة.
([1]) أنتوتي بلاك: الغرب والإسلام ص122.
([2]) تاريخ أوروبا المسيحية يكاد يكون تاريخ الحروب الدينية بين المذاهب المسيحية؛ لذا فالتسامح الديني نفسه أثر من آثار الاحتكاك بالشرق الحافل بالأديان والمذاهب التي تعيش في ظلال الحكم الإسلامي مطمئنة موفورة الحقوق.
([3]) ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص36، 37.
([4]) ول ديورانت: قصة الحضارة 30/315 وما بعدها.
([5]) رونالد سترومبرج: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث ص36.
([6]) أرنولد توينبي: مختصر دراسة التاريخ 2/18 وما بعدها.
([7]) ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص37.
([8]) ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص30.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق