وائل قنديل
ما الذي جعل جمهورية الأطباء تنتصر على امبراطورية الضباط والأمناء، أخلاقياً، في معركة الأمس في القاهرة، على الرغم من أن كل موازين القوى، المادية، كانت تميل لجهة الشرطة؟
دخل الأطباء المعركة، المفروضة عليهم، بمواجهة كل أجهزة الدولة، بما فيها وزير الصحة نفسه، فالشرطة والقضاء والإعلام وقوات الأمن المركزي المنتشرة في ستوديوهات الهواء، تذيع وتعلق وتحرّض وتوزع الاتهامات بالعمالة والخيانة، كل هؤلاء كانوا محتشدين، وملتفين حول مقولات بائسة، بهدف إحداث قطيعة بين معشر الأطباء وجمهرة المواطنين، من خلال التركيز على نقطتين أساسيتين.
الأولى: أن دعوة جموع الأطباء للانعقاد والغضب والاحتجاج على عدوان الشرطة إخوانية، ترمي إلى هدم الوطن وتقطيع أوصاله. والثانية أن الأطباء يفتعلون معركة فئوية ضيقة، يريدون منها لأنفسهم امتيازاتٍ، تجعلهم طبقة أعلى من الشعب، ويبتزون الدولة على حساب مصلحة المواطن.
ولو أضفت إلى ما سبق أن القبضة الأمنية في عنفوان بطشها، والتخويف والترهيب، ومحاولات اختراق الصفوف، على أشدها، وأيضا هذا الانعطاف المفاجئ في خطاب المتحدثين باسم الغضب الطبي ناحية الفرز الأيديولوجي والإقصاء السياسي، بحجة أنها معركة مهنية بالأساس، فإن التوقعات كانت تذهب إلى أن احتمالات اكتمال نصاب الجمعية العمومية للأطباء ليست مؤكدة.
من هنا، يصبح الاحتشاد الأسطوري حول "دار الحكمة"، مقر النقابة العامة للأطباء، في شارع قصر العيني، الذي هو بمثابة عنق ميدان التحرير، رسالة ثورية بامتياز، تتجاوز الطب، مهنة، والأطباء، فئة، وتعبّر بوضوح عن تنامي الحنين إلى الثورة على أشكال القمع والظلم والجبروت التي تمارسها الحكومة (في القاموس المصري يسمون الشرطة الحكومة) على قطاع واسع من الشعب، يمثله الأطباء والمرضى معاً.
والأجمل من أن رائحة الثورة كانت تعطر احتشاد الأمس أن الشعب، ممثلاً في وفود من المهنيين والمواطنين العاديين والطلاب، لم ترهبه حملات التخوين والتخويف، وخرج يدعم الأطباء في معركتهم التي هي معركته، ويعلن بجلاء أن "يداً امتدت بالضماد والدواء لك، لا تستوي بيد خرطوشها أثكلك"، مع الاعتذار لقصيدة أمل دنقل الشهيرة.
وأزعم أنه، لولا هذا الاحتضان الشعبي العفوي لقضية الأطباء، العادلة، بمواجهة الصلف البوليسي المهين والباطش للمرضى ومعالجيهم معاً.
وفي مواجهة حملات شيطنة غضب أصحاب المعاطف البيضاء، اختار المواطن، بعفويته وإنسانيته البسيطة، أن يكون في الجانب الصحيح، تماماً كما حدث في العام 2012، حين خاض الأطباء نضالاً من أجل حقوقهم المهضومة، وأعلنوا الدخول في إضراب جزئي عن العمل..
ولم ينس "إنسان الخامس والعشرين من يناير" أن الذين قرّروا الدخول في إضراب هم الفئة الوحيدة في مصر التي نجحت وحصلت على العلامة الكاملة في اختبار ثورة 25 يناير.
هؤلاء الذين قلت عنهم "لو كنتَ ممن تعطّرت أقدامهم في مشاوير الحج إلى ميادين الثورة ستعرف أن هؤلاء النبلاء هم الذين اقتطعوا من أموالهم، وتركوا أسرهم وبيوتهم، وصعدوا إلى "التحرير" ليقيموا عيادات على نفقتهم الخاصة في أرض الميدان، ليضمدوا جراح المتظاهرين، ويوفروا لهم الرعاية الصحية بالمجان.
كانوا هم خط الدفاع الأول أمام بشاعة الهجمات الأمنية المسلحة على الملايين التي خرجت تنادي من أجلك بالتغيير وإسقاط الفساد والاستبداد، وكان معظمهم من الطبيبات والأطباء الشبان الذين لا يزيد دخلهم عن أجرة تاكسي إلى الميدان كل يوم، ولم نسمع لأحدهم صوتاً في المطالبة بمقابل بطولاتهم النبيلة، بل كانوا بحق مثل الملائكة في الميدان.
هؤلاء الذين صبروا وثابروا وحاربوا معركة الثورة في ظروفٍ عصيبة، لم يغلقوا المستشفيات، ولم يتركوا المرضى يئنون من المرض، ويذهبوا إلى النوم في بيوتهم. لم تشهد مصر فراغاً طبياً وصحياً في فترةٍ انفلتت فيها كل الجهات الحكومية، فعشنا بلا شرطة ولا نقل عام، وحدهم الأطباء الذين صمدوا، ولم يخلعوا معاطفهم البيضاء، كما فعل آخرون خلعوا زيهم الرسمي، وشاركوا في فوضى الانفلات الأمني، بدلا من أن يسيطروا عليها.
هؤلاء، يا سيدي، هم من تمتد إليهم ألسنة التجريح والسباب الجاهل، لأنهم اتخذوا قراراً جماعياً بالتعبير عن مطالبهم المشروعة، عبر وسيلةٍ قانونيةٍ، أقرتها جميع المواثيق العالمية الخاصة بحقوق العمل وحقوق الحياة.
واصل دعمهم، وناضل معهم، لأن حقك من حقهم، وكرامتك من كرامتهم، وحين يرفعون لافتة تقول "كرامة الطبيب خط أحمر"، فهذا ينسحب عليك، بالضرورة، ويجعل كرامتك، أيضاً، خطاً أحمر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق