الاثنين، 9 سبتمبر 2024

الفقاعة الإنسانية.. منطق الإمبراطورية في الإبادة الجماعية

 

الفقاعة الإنسانية.. منطق الإمبراطورية في الإبادة الجماعية

 نورالدين قدور رافع



تنسف الطائرات الصهيونية مختلف المبادرات الدولية التي تضع حدا لسلسلة الحرب في غزة، إذ إنّ الاسرائيليين لم يكتفوا باغتيال السياسيين خارج فلسطين، بل تجاوزت كل التشريعات الإنسانية والقانون الدولي في استهداف المدنيين والصحافيين والأطقم الطبية، بحجة احتضانهم للمقاومة الفلسطينية داخل المرافق المدنية، في صمت رهيب ومخز “للعالم المتحضر” الذي تزعمت قيمه صياغة مستقبل البشرية، وبالنظر إلى المجازر اليومية وهول الفاجعة لأعداد القتلى من النساء والأطفال، بواسطة أسلحة الإمبراطورية الفتاكة، تؤكد المقاومة الفلسطينية “حرصها الشديد” على استعدادها لقبول صفقة تبادل الرهائن تضمن إنهاء الحرب وانسحاب الاحتلال وإعادة الأعمار، فهل تصغي الحضارة لمطالب الشعب الفلسطيني في الحرية والعدالة الإنسانية، أم أنّ طبول الحرب التي تنسف فيها مجموعة من المهووسين بالقتل والدمار بقيادة نتنياهو باتت أقرب إلى المنطقة من السلام؟

تحييد المدنية

دعت الصهيونية لتجويع مليوني شخص لإطلاق الرهائن الإسرائيليين في غزة، على لسان وزير مالية الاحتلال بتسلئيل سموتريتش، وكان قد سبق تلك التصريحات النازية دعوة وزير الدفاع الإسرائيلي فرض حصار مطبق وكامل على القطاع، بغرض استهداف المدنيين الذين يؤوون المقاومة الفلسطينية.
شكلت تصريحات القادة الإسرائيليين في حكومة نتنياهو أحد أهم الاستراتيجيات العسكرية لحملة “الانتقام الصهيونية” من الشعب الفلسطيني بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وبدت عملية تصوير الفلسطيني كحيوانات بشرية تأخذ بعدها اللاحضاري حينما تم نفي صفة المدنية عن الساكنة الغزاوية، ما جعلها هدفا مشروعا لآلة الصهيونية الوحشية، فالأطفال والنساء ليس بوسعهم التمتع بالمناطق الآمنة، وعملية التهجير القسري المستمر من مناطق إلى أخرى تظهر البعد الاستراتيجي في الذهنية العسكرية الصهيونية، في تحميل المدنيين تكلفة الحرب الباهظة، حتى الأطقم الطبية والصحافية تم استهدافها لما تمثله من حقوق مدنية للفلسطيني، وصورة لمآسيه ومعاناته لفضح سردية الاحتلال الملفقة.

تعبر الحالة الهيستيرية التي يعيشها الاحتلال الصهيوني باستهداف كل ما هو مدني بالضرورة، وعدم رغبته في تحييد الأهداف غير المشروعة المقررة في القانون الدولي، طبيعة الشتات الذي أوكل له دور تنفيذ المشروع الاستعماري الاستيطاني في المنطقة، إذ كان للغرب توجه في تجريد يهود أوروبا من مدنيتهم وجنسيات قومياتهم الأوروبية، ودفعهم نحو الأراضي الفلسطينية لنهبها وطرد سكانها، وبدل العمل على تذويب القومية اليهودية في أوروبا وأمريكا، ظلت السردية الاستعمارية ترسم الحدود الفاصلة بين الكيانات الوظيفية في الشرق الأوسط، للإجهاز على أيّ مشروع تحرري من شأنه أن يرسل في الأمة نفسها الحضاري، وخلال مئة عام تمكنت الصهيونية من إقامة “دولة الاستثناء” في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتسليح الشتات من عصابات الهاغانا وغيرها، الذين تم إعادة انتاجهم وفق ما اعتبر “نمطا مدنيا حضاريا” على شاكلة “جيش الدفاع الإسرائيلي”، مستنسخة بذلك توجهاتها القمعية والإرهابية تحت دعاية الديمقراطية الوحيدة في المنطقة للغرب، والتي بات ممثلها رئيس وزراء الاحتلال نتنياهو أحد أكبر مجرمي الحرب في تاريخ البشرية، ليس في نظر الفلسطينيين فحسب، بل في العالم الحر الذي أصبح يدرك تلفيقات السردية الصهيونية تجاه الفلسطيني والعربي والمسلم.
مثلت إسرائيل “الوكيل الاستعماري” لقوى النيوليبرالية في توجهاتها الإلغائية والعنصرية، وفي تمثلها الأكثر وحشية ضمن مرحلتها الأخيرة المسماة الثيوليبرالية، كون الليبرالية دين لا يولي للقيم الإنسانية والحضارية أيّ قيمة فعلية، بقدر ما يمنح لقيم الهيمنة والاستلاب والعنف الحق في السيطرة على الحضارة الإنسانية، ليس في المنطقة العربية فحسب، بل تجاوزت كل القوانين الدولية والمواثيق الأممية في فضائها الغربي المفعم بالدعم القوي لها، وهي تعطي لغطرستها الحق في اتهام الطلبة وشعوب أوروبا المنتفضة ضد حرب الاحتلال على غزة، بوصفهم عملاء إيران ومعادين للسامية، ووفقا لمنطق الاحتلال وحجم التلفيقات والادعاءات ضد المقاومة عبر المنصات إعلامية كـ: سي إن إن والعربية، فإنّ المتسبب في الإبادة الجماعية للفلسطينيين هي المقاومة ذاتها، وما سمي “بمجازر «حماس» ضد اليهود” كان سببا في اتخاذ الاحتلال “للإجراءات الردعية” ضد المقاومة، حتى لو تكلف الأمر تهجير الفلسطينيين بالكامل، وتقديم تلك الحجج لم يكن بغرض بدء عملية للقضاء على قدرات المقاومة الدفاعية، أو حتى تحرير “الرهائن” بصفقة تبادل وتسوية سياسية إن كانت الصهيونية حريصة على القومية اليهودية، بل إبادة جماعية ضد كل ما هو فلسطيني بالضرورة، ولنقل أنّ تغريدة أفيخاي أدرعي التحاملية والتحريضية ضد مراسل الجزيرة أنس الحبيب، تخبر العالم المتحضر والأصوات المناهضة للاحتلال وشرفاء الإنسانية، أنّ شتات أوروبا المستوطن بأرض الزيتون، ليس بمقدوره الإيمان بمدنية الفلسطيني، وهو ينفض عن الحضارة قيمها الإقصائية وعبوديتها الطوعية للإمبراطورية.

حبل من النيوكولونيالية

تقف الحضارة على رجل واحدة، أمام بربرية ووحشية منظمة تقودها المؤسسة الدعائية الصهيونية وهي ترمق الإنسانية بتلفيقاتها وادعاءاتها، رامية كل الأعراف الدولية والمقررات الأممية في معسكرات الديمقراطية السوداء، إذ مع تفاقم الأوضاع في الأراضي المحتلة الفلسطينية، ينبري الخطاب الصهيوني الغربي والعربي الداعم للإبادة الجماعية بتحميل المقاومة تبعات الحرب، معلنا بكل وقاحة على لسان وزير خارجية بريطانيا دعوة «حماس» لعدم تعريض المدنيين لخطر القصف، متجاهلا ترسانة الأسلحة “الدقيقة” التي يصدرها الغرب للاحتلال.

منذ أحداث 11 من أيلول/سبتمبر 2001 التي أعادت صياغة مفهوم الإرهاب والآخر وكل شيء من شأنه مغاير للغرب، دخلت الأمة العربية والإسلامية مرحلة استثنائية من تاريخها بعد انجلاء المستعمر عسكريا، وكان العمل على “توطين الهوية الصهيونية” في الخطاب العالمي والمحلي يرافق بكل حذر سردية المحرقة اليهودية، ومن أرض الميعاد إلى العمل على صنع إسرائيل الدولة بقوة العصابات الهاغانا، تهافتت قوى الإمبراطورية على طموح شعوب العالم التواقة للعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية حينما رفعت رايات الخلاص من البورجوازية القابعة على طموحاتها المستقبلية، التي لم تسلم من الكابينات الوظيفية التي ليس لها من القرار الوطني سوى تخيلاتها بالانتساب إلى نسل النبوة الكريم أو ادعاءاتها التاريخية في مقدسات الأمة، وبعد الربيع العربي على سوء نتائجه غير النهائية والذي أعلنت هتافاته بكل شجاعة من لدن شباب عربي “وهم الاستقلال الوطني” الذي خيّم طيلة سنوات من التيه في سرديات غربية ومشاريع جاهزة نخرت نظامنا التعليمي والاقتصادي والطبيعي، سارعت الاستعمارية الجديدة “النيوكولونيالية” لإعادة انتاج وضع إقليمي تسوده الفوضى واللااستقرار، عبر زرع المنظمات الإرهابية والسيطرة على محور الممانعة بالانقلابات، وها نحن اليوم على مشارف حرب إقليمية تقرع طبولها مع كل صرخة تصدح بها آهات الفلسطينيين، يسارع وزير الأمن الإسرائيلي إلى تسليح المستوطنين في الضفة الغربية للعمل على المرحلة النهائية لتصفية المسألة الفلسطينية، والدعوة لمذبحة كبرى للفلسطينيين أمام العالم أجمع، دون أن تحرّك للجامعة العربية أدنى تنديد، أو يخرج الهاشمي في لباسه العسكري دون تهريج معلنا حرمة استهداف بيت المقدس.

إخضاع شعوب المنطقة

يسعى وكلاء النيوكولونيالية وفي مقدمتهم إسرائيل، لإظهار قوتهم المفرطة على إخضاع شعوب المنطقة والمناهضة للاحتلال بجميع أشكاله العنصرية والقمعية، بدءا من الخطابات التحريضية ضد الأيديولوجيات المناوئة ومدنية الدولة، وصولا إلى الإمعان في التنكيل بالمعارضين واستخدام سياسات الأرض المحروقة، ونتيجة للانهيار الأخلاقي والسياسي للأطراف الوظيفية للاستعمارية الجديدة، واستهداف ممنهج لجميع القيم الإنسانية المشتركة، أصبح من الضروري النظر بكل جدية نقدية للإرث الحضاري الغربي، الذي تم نفخه في فقاعات هوياتية وثقافية استلابية، غرضها نفي الحقوق العامة والإنسانية للمهمشين والمغيبين.

وبالنظر إلى مخرجات الحداثة الغربية وبعديتها، واستفحال الهويات اللاإنسانية في زمن حفاري القبور، والمتوجة بحروب عالمية وأخرى إقليمية راح ضحيتها الملايين من البشر، فإنّ سياسات التهجير القسري والإبادة الجماعية لم يعد يحتاج إلى مبررات ثقافية وتاريخية، بقدر ما بات “منطقا سائدا” للإمبراطورية تسوقه نحو ملاذاتها المنتفضة، للحيلولة دون إسقاط أسطورة “دولة” الاستثناء الصهيونية ودروعها الوظيفية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق