الأربعاء، 3 أبريل 2013

التغيير الاستراتيجي في القضيَّة الأحوازيَّة (من تصدير الثَّورة الخمينيَّة إلى الاستعمار تحت غطاء ولاية الفقيه)

التغيير الاستراتيجي في القضيَّة الأحوازيَّة 
(من تصدير الثَّورة الخمينيَّة إلى الاستعمار تحت غطاء ولاية الفقيه)


طلعت رميح 

تدخل قضيَّة الاحتلال الإيرانيِّ للأحواز، منعطفًا استراتيجيًا كبيرًا في الوقت الرَّاهن، حتَّى يمكن القول بأنَّ ما تراكم من صمت، أو تجاهل، أو عدم تفاعل بشأنها طوال نحو 90 عامًا، أدَّى ذلك الآن إلى حالة تغيير، والتَّغيير المقبل لا يتوقَّف على إعادة إحياء القضيَّة في جوانبها الرئيسيَّة، كقضيَّة احتلال استيطانيٍّ وحضاري وقومي ومذهبي، بل هو تغيير مرتبط بتغيُّر التَّوازنات الإقليميَّة على نحو غير مسبوق، وربما لدرجة لا يتوقَّعها الكثير من الخبراء والمتابعين، وفي ذلك تبدو قضية الأحواز أحد مجالات هذا الصِّراع وذاك التغيير، باعتبارها قضية احتلال ذات بعد إقليمي بالدَّرجة الأولى، والقادم بشأن القضية الأحوازيَّة، لا يتوقف عند الحدود الظاهرة الآن، بعودتها لتحتل مكانة في الإعلام والصِّراع السِّياسي - وهى التي كادت أن تكون نسيًا من كلِّ أفق للمتابعة أو مجرد المعرفة التَّاريخية - بل تشير الدلائل والتغييرات الحادثة في الإقليم، أنَّها ستصبح قضيَّة محوريَّة في الصِّراعات، والتَّغيير القادم في الإقليم، بعدما استنفرت إيران قطاعات واسعة للعمل ضدَّ كلِّ مخططاتها الاستعمارية والتوسُّعية.

وإذا كانت تلك القضية قد مثَّلت عنوانًا لنتاج التقسيم الذي جرى بعد الحرب العالمية الأولى، وأحدثت فصلًا لجانب من الإقليم العربي لمصلحة الدولة الفارسية في عام 1925م، وهو ما جاء مختلفًا عن التغيير الناتج عن سايكس بيكو التي قسَّمت الحالة العربية داخل إطار الدول العربية، فالمتوقع أن تصبح قضية الأحواز العلامة الفارقة حول تغييرات الخرائط الجغرافية المستقبلية، وفي ذلك يمكن القول بأنَّ الطُّموح الإيراني الزائد عن الحد في التوسع في المحيط، والقيام بأعمال احتلال لأقاليم وأراضي في المحيط الحيوى لإيران، وامتداد النُّفوذ في الإقليم، والسعي لبناء إمبراطورية فارسية، هو في ذاته أحد مسببات التغيير العكسي القادم، على حساب ما تصورت الدولة الإيرانيَّة، عبر نظمها المتعاقبة، بعد الحرب العالمية الأولى، أنه الوضع المستقر إلى الأبد، وهنا بدا العنوان الأبرز لما يجري في سورية والعراق، مواجهة لخطوط الحركة الإيرانيَّة، وساحة لهجوم معاكس لاستعادة ما سلبته إيران.

موقع القضية فارسيًا:
احتلت الأحواز مكانة استراتيجية رئيسية في التفكير الاستراتيجي للدولة الإيرانيَّة على مختلف الصُّعُد. فقد نظرت الدولة الإيرانيَّة لمنطقة الأحواز، باعتبارها نقطة الحماية الخارجية للكتلة الحرجة للدولة الفارسية، سكانيًا وجغرافيًا واستراتيجيًا؛ إذ تقع بعد جبال زاجروس الشَّاهقة الارتفاع، التي تمثِّل فاصل طبيعي بين الأحواز وإيران.كما اعتبرت الدولة الفارسية منطقة الأحواز؛ بمثابة خط الدفاع الخارجي عن المكون الصَّلب للدولة، واحتلالها يشكِّل نطاقًا أساسيًا في الصَّدِّ الخارجي، ولذا يقال دومًا أنَّها نقطة ارتكاز الجيش الإيراني، ومحور تمركزه في العقيدة القتالية.

نظرت الدولة الفارسية للأحواز كمحور ارتكاز جغرافي بري "وبحري أيضًا" في الإشراف والتَّأثير، وتهديد الإقليم العربي لمحاذاتها للعراق بريًا، ولكلٍ من العراق والكويت وقطر والبحرين والإمارات على الضِّفة الأخرى من الخليج العربي.كما نظرت إليها باعتبارها البقعة الاتصالية الأهم بمياه الخليج؛ إذ الجزء الباقي من إيران في الاتصال بالخليج، هو بقعة لا تجعل إيران قادرة على التحكُّم في مضيق هرمز، وعلى الصَّعيد الاقتصادي، وبعد اكتشاف البترول بشكل خاص، صارت الأحواز هى محور الأساس في الاقتصاد الإيراني؛ إذ يعتمد هذا الاقتصاد بنسبة 87 % من مصادر عائداته على نفط الأحواز، الذي يمثِّل بين 85 و90 % من النَّفط الإيراني، و87 % من الغاز الذي تعتبره إيران نقطة قوة مساومة، في العلاقات الدولية، ومع أوروبا وتركيا بشكل خاص، وهو ما جعل الأحواز منطقة يعني خروجها من الجغرافيا الإيرانيَّة بمثابة الموت لهذا الاقتصاد ومعالم قوته.

وقد زاد النفط وتصديره من أهمية الأحواز لإيران على الصَّعيد الاقتصادي، والجغرافي العالمي أيضًا؛ إذ كان البترول أحد عوامل زيادة أهمية الوضع الجغرافي للأحواز ذاتها؛ إذ ارتبط التَّصدير بالبحر الذي تشرف عليه الأحواز، وقد وصل تركيز الجهد الإيراني على احتلال الأحواز وأهميتها اختيار مدينة بوشهر الأحوازيَّة مقرًا للمفاعل النَّووي.
تلك الرؤية الاستراتيجية للأمن القومي الإيراني، جعلت الأحواز في صلب وجود الدولة، وهي رؤية تطورية جاءت في درجة الاهتمام الاستراتيجي بعد اكتشاف البترول، غير أنَّ عوامل الحسم في أهميتها قد نتجت أيضًا من تطور الرؤية الاستراتيجية لإيران، في الإقليم الحيوي وبشكل خاص في الإقليم العربي.

لقد زاد الإصرار الإيراني على احتلال إقليم الأحواز العربي، وتحوَّل الاحتلال إلى نمط التَّفريس والتَّشييع، بعد الانتقال من الرؤية الشَّاهنشاهيَّة للدَّولة، وملامح ومقومات الأمن القومي الإيراني، إلى الرؤية الخوميْنيَّة للدولة، وملامح ومقومات الأمن القومي الإيراني، الذي صار يقوم على تصدير الثَّورة إلى خارج المحيط الإيراني، أو إلى مدِّ النُّفوذ الإيراني لما بعد الأحواز، فصارت الأحواز نقطة ارتكاز في تنفيذ الاستراتجية الإيرانيَّة الهجوميَّة في الإقليم العربي، وهو ما جعل الإصرار على تحويلها إلى قطعة من بلاد فارس؛ أمرًا يتعلَّق بقيام الدولة الإيرانيَّة بمفهومها الجديد، وبمخططاتها الإقليمية في المحيط العربي، وهو ما شهد درجة أعلى من أهمية الأحواز، بعد تحوُّل المخطط التوسعي الإيراني من تصدير الثَّورة إلى الاستعمار القائم على تفكيك المجتمعات القريبة والبعيدة، عبر تحويل الولاء إلى الولي الفقيه في إيران.

صيغة الاحتلال الأولى:
بدأت العملية الدامية تاريخيًا لاحتلال الفرس للأحواز، ضمن حالة التَّقسيم التي جرت لدولة الخلافة وولاياتها خلال الحرب العالمية الأولى، ولم تكن حالة خاصة بالأحواز، وكانت بريطانيا صاحبة الدور الاستعماري المعروف، فقد قامت بلعب الدور الرئيسي في تمكين إيران من احتلال الأحواز، ضمن إطار تحقيق مصالحها هي، وما يحقق خططها الاستراتيجية في تلك الحرب وما بعدها.
لقد ساهم اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914م، في تعزيز الدور والنُّفوذ البريطاني في الإقليم، وقد دخلت القوات البريطانية ميناء عبادان، خلال وقائع الحرب للحفاظ على المنشآت النفطية، فتحركت بعض القوى الأحوازيَّة بدعم من الدولة العثمانية، وأعلنت الجهاد ضدَّ القوات البريطانية، فردَّت بريطانيا بالتَّوجه نحو إيران، وهو ما تصاعد كاتجاه عام للإستراتيجية البريطانية، ففي انتصار الثَّورة البلشفيَّة في روسيا 1917م، اندفعت القوى الغربية، وخاصَّة بريطانيا إلى اعتماد رؤية وخطَّة استراتيجية، هي قيام كيان إيراني قوي وموحد، يشكِّل حاجزًا استراتيجيًا أمام الشيوعيين الروس، ومحاولاتهم الوصول للمياه الدافئة في الشَّرق العربي، وهو ما أتاح مساحة واسعة من الحركة أمام الفرس؛ بقيادة رضا شاه بهلوي، للسيطرة على منطقة الأحواز، التي عرضت قضيتها على عصبة الأمم عام 1924م، فلم تكن هناك أية استجابة؛ بحكم طبيعة السَّيطرة البريطانية والغربية عليها، وانتهى الحال في عام 1925م؛ باحتلال الفرس للأحواز وإحكام السَّيطرة عليها، وفق ما تأسس من قاعدة استراتيجية لدى الغرب، في صراعه مع السوفييت، وللحفاظ على مصالحه البترولية الناشئة، والاستراتيجية الاستعمارية بصفة عامة، قرروا وجود إيران قوية، ذات دور وظيفي عازل بين الاتحاد السوفيتي والشَّرق العربي.

كان قرار احتلال الأحواز قرارًا استراتيجيًا غربيًا، ولم يكن قرارًا إيرانيًا فارسيًا فقط، وهكذا قامت الانتفاضات الأحوازيَّة في مواجهة وضع استراتيجي محسوم دوليًا لمصلحة إيران، وفي ظلِّ وضع إقليمي عربي،لم يكن فيه العرب بأفضل حالًا من الأحواز، وبطبيعة الحال تركيا التي كانت أنهت علاقتها بالولايات الإسلاميَّة، كانوا هم موضع تقسيم، وفق اتفاقات استعمارية أشهرها سايكس بيكو.
اندلعت انتفاضات أحوازية متوالية كان أولها في عام 1928م، بمنطقة الحويزة، بقيادة الشَّيخ: محي الدين الزئبق، الذي تمكَّن من السيطرة على المنطقة لأكثر من ستة أشهر، وتواصلت الانتفاضات، فقتل الإيرانيون رمز المقاومة، وآخر الأمراء العرب في قيادة الأحواز في عام 1936م، الشيخ: خزعل الكعبي بالسُّم.
واندلعت أخرى في عام 1940م، وظلَّت الانتفاضات تتواصل حتَّى عاد البريطانيون وفق فعاليات الحرب العالمية الثانية؛ ليحتلوا الأحواز مجددًا في عام 1941م، لتتعمَّق الاستراتيجية البريطانية الغربية أكثر، بضرورة وجود إيران قوية في عالم الحرب الباردة.

كان قرار احتلال الفرس للأحواز قرارًا دوليًا في تلك المرحلة المبكرة، وهو ما تواصل وتعمَّق بفعل الصِّراعات الدولية، دون أن تتوفَّر إرادة أو قدرة عربية لمساندة الأحواز وأهلها، فتواصلت الانتفاضات الأحوازيَّة دون ظهير عربي، حتَّى في مرحلة استيلاء النُّظم القومية على الحكم، في كثير من الدُّول المحيطة، تارة لأسباب تتعلق بالأوضاع الدولية، وأخرى بسبب ظهور الكيان الصُّهيوني اليهودي الذي صوَّرته النُّظم أنَّه الأخطر على وجودها، وحين جرت تقلُّبات في أوضاع النُّظم الرسميَّة العربيَّة؛ بتوجُّهها نحو الغرب بدلًا من الاتِّحاد السُّوفيتي في نهاية الحرب الباردة،لم يحدث تغيير في الوعي، أو الموقف العربي تجاه قضيَّة الأحواز، بل حدث العكس، إذ تحالفت بعض الدُّول مع إيران، بينما الأحواز على حالها في صراعها، لإنقاذ نفسها من الاحتلال، إذ تواصلت الانتفاضات، فكانت ثورة 2005م، التي جاءت ردًا مباشرًا على خطة تهجير نحو مليون ونصف أحوازي، تمهيدًا لإفراغ الأحواز من العرب خلال عدَّة سنوات، وانتفاضة 2011م التي جاءت متزامنة مع ثورات الرَّبيع العربي.

من الاستحواذ إلى التَّذويب:
كان العامل الحاسم في نجاح ثورة الخمينى، هو تضامن كلُّ المكونات القومية والدينية في مواجهة حكم الشاه وطغيانه، وكان العامل الأول في هذا الاحتشاد من كلِّ المكوِّنات، هو تصوُّر أنَّ الحكم سيحقِّق العدل، ولم يكن هناك إدراك بأنَّ ثورة الخميني ستتحول بسياسة الاضطهاد للقوميَّات الإيرانيَّة من قبل الفرس، والاستحواذ على الأراضي والمناصب في الدَّولة، والثَّروة في المجتمع، إلى حالة أشد خطرًا، وأنَّ الاضطهاد والقهر سيجري وفق استراتيجية تذويب القوميات، ومحو ثقافاتها، ونقل المواطنين قسريًا من بلادهم، وإحلال الفرس محلُّهم، وأنَّ اضطهادًا طائفيًا وعقائديًا وثقافيًا قادم بعد تلك الثَّورة، وهو الأخطر في غطائه للممارسات القوميَّة الفارسيَّة، وأرغب في التَّركيز على النِّقاط الآتية:
1- دولة الفرس: لم يختلف نظام الخميني عن نظام الشَّاه في اعتبار إيران دولة للفرس، أو دولة يتسيَّد فيها الفرس على مختلف القوميَّات الأخرى، بل جاء الخميني أشد التزامًا بالقوميَّة الفارسيَّة، وتحت غطاء طائفي. لقد نصَّ الدُّستور الإيراني الجديد على أنَّ اللُّغة والكتابة الرسميَّة والمشتركة لشعب إيران هى الفارسيَّة (المادة 15 )، وهذا يعني تذويب الآخرين داخل السيادة والثقافة الفارسيَّة " واللغة هى المحتوى الثقافي والحضاري للمجتمع " وبذلك هضم حقُّ الآخرين في استخدام لغاتهم، ومنهم إقليم الأحواز، ونصَّت مواد الدستور على تبني التَّاريخ الهجري لكن! الأمر جاء هو الآخر على الطَّريقة الفارسيَّة؛ إذ حلَّت الشُّهور الفارسيَّة وفق التَّقويم الشَّمسي محلَّ الأشهر الهجريَّة الإسلاميَّة، وحظِي عيد النَّيروز أهمية خاصَّة في التَّقويم الرسمي الإيراني، وامتدَّ الأمر إلى مفردات كثيرة، إذ ظلَّ الخميني يصرُّ على الحديث بالفارسيَّة ونبذ العربية، وهو ما انعكس على السُّلوك الرسمي المعتمَّد، حتَّى أنَّ أحد النُّواب الأحواز في البرلمان الإيراني، تجرَّأ وألقى خطابًا بالعربيَّة تأييدًا للقضيَّة الفلسطينيَّة، جرى فصله، وتحديد إقامته،كما ظلَّ الخميني يطلق على الخليج العربي اسم الخليج الفارسي، وهو ما كان سائدًا أيام الشَّاه، وما ظلَّ معمولًا به حتَّى الآن. انتقلت الدَّولة الإيرانيَّة بمكونها الفارسي الصَّلب إلى وضعيَّة قوة الدولة بهذا الفهم، لتذويب القوميَّات الأخرى، ولتغليف السيطرة والهيمنة الفارسية بغطاء الحديث عن الإسلام، وفي ذلك تحوَّل احتلال إيران للأحواز إلى وضعية يجري خلالها إنهاء البنيان الحضاري العربي والإسلامي معًا بعد ثورة الخميني.

2- لقد تحوَّل الحكم في عهد الخميني إلى حالة تجمُّع بين القوميَّة الفارسيَّة، والحالة الطَّائفيَّة المذهبيَّة، فصار الظُّلم الواقع على الآخرين في الجغرافيا الإيرانيَّة نمطين من الظلم والاستبداد، إذ تحوَّلت الأقوام والقوميَّات التي تعيش تحت سقف الدَّولة الإيرانيَّة إلى وضعيَّة مستهدفة بالتَّذويب القومي والدِّيني، أو صارت واقعة تحت الظُّلم القومي والمذهبي، فأصبح السُّني في الأحواز واقعًا تحت ظلم باعتباره عربي، وتحت ظلم باعتباره سني، وأصبح محرومًا من ممارسة الشَّعائر، أو بناء الجوامع، أو فتح مدارس للتَّعليم الدِّينى، وبنفس القدر الظلم والاضطهاد الواقع عليه باعتباره عربي، مستهدف بتذويب حالته القوميَّة، بدءًا من ملبسه، وحتى انتماؤه وثقافته ولغته. وقد استخدمت السُّلطات الإيرانيَّة هذا البعد المزدوج دومًا في مواجهة الثَّورات والانتفاضات الأحوازيَّة، وفي تحفيز الجمهور الإيراني في مواجهتها وقمعها، إذ كانت تثير النَّعرات القوميَّة الفارسيَّة ضدَّ أهل الأحواز؛ بوصفهم انفصاليين قوميين عرب، وبعثيين، وناصريين،كما كانت تؤزُّ الجانب الآخر " الشِّيعة الفرس " لتستنفرهم ضدهم؛ بوصفهم وهَّابيين، وسنَّة، وطائفيين !.

3- كان الحكم الشَّاهنشاهي يستند إلى فكرة القوميَّة، واحتلال الأرض، واستثمار الثَّروات مع استخدام وسائل التَّخويف بالقوة العسكرية، مدفوعًا في شراسته في التَّعامل مع القوميَّات الأخرى غير الفارسيَّة، بوضعيَّة انخفاض نسبة الفرس بين السُّكان، وعدم تمثيلهم لأغلبية كبيرة بينهم، وهو أمر معروف تاريخيًا، إذ الحكم والدَّولة القوميَّة التي لا تستند إلى 90 % من السُّكان من ذات القوميَّة، تكون دولة مهتزَّة وغير مستقرة، فيكثر فيها استخدام الوسائل القسريَّة، والإرهاب؛ لإرهاب وقمع القوميَّات الأخرى بديلًا للاعتراف بها، اذ يكون الإرهاب والقمع بديلًا للاعتراف الدستوري والقانوني والحقوقي، بدولة متعددة القوميات. تلك الشَّراسة والدَّمويَّة التي استخدمتها دولة الشَّاه ونظام حكمه، ترتبط بقلَّة أعداد الفرس بين السُّكان؛ إذ لا تتعدَّى نسبتهم 45 % أي أقل من نصف السُّكان، وحيث يشكِّل الأتراك الآذريين ما نسبته نحو 33 % والأكراد 10 % والعرب 7 % ..الخ. ومع وصول الخميني للسُّلطة، جاء ومعه مصدر آخر لاضطهاد الآخرين؛ إذ أضاف البعد الطَّائفي للبعد القومي، فأصبح البعد الفكري (العقائدي) طاقة للاضطهاد على أسس عقائديَّة وفكريَّة وثقافيَّة ومعنويَّة، وهو ما حوَّل المحتلَّ الإيرانيَّ إلى وضعيَّة الاستعمار الاستيطاني الصُّهيوني، الذي يوسِّع مجال الاحتلال إلى فكرة محوِ هويَّة وعقيدة الآخر، وإلى درجة تقترب من التَّطهير العرقي. لقد أصبحت مسألة التَّشيُّع وفق فقه الخمينى وتلامذته أحد أدوات الاحتلال، وباتت قضيَّة المستوطنين الفرس في الأحواز قضية طائفية لا قومية فقط.

4- واصل الاحتلال الفارسي سياسة الاستيطان الإجرامية في الأحواز، كما كان الحال خلال حكم الشَّاه، لكنَّ الأمر شهد خطَّة أعمق من التَّطهير العرقي واللغوي والطَّائفي، وصار يجري في اتجاهين لا اتجاه واحد، إذ تصاعدت خطط نقل الفرس إلى الأحواز وتوطينهم؛ لتغيير التركيبة الديموغرافية في الإقليم، مع خطَّة في الاتجاه الآخر، بنقل أبناء الأحواز إلى الأقاليم الفارسيَّة، وبينهما جرت عملية اقتطاع لأجزاء من الأحواز، وضمِّها لمحافظات وأقاليم أخرى. جرت عمليَّة هندسة مجتمعيَّة سكَّانيَّة، يكفي للدلالة على عمقها وتوسُّعها ما جرى في عام 2011م وحده. ففي هذا العام أخذت هذه السِّياسة الاستعمارية منحًا خطيرًا؛ حيث انتقل المحتلُّ الإيراني من بناء المستوطنات في المدن الأحوازيَّة؛ إلى بناء تلك المستوطنات في القرى الأحوازيَّة، وهذا يمثِّل نقلة خطيرة، وسابقة جديدة، يهدف العدوُّ المحتلُّ من خلال انتهاجها نقل استيطانه، وتقطيع أوصال المجتمع الأحوازي؛ ليطال النَّسيج الرِّيفيَّ الذي طالما استعصى عليه اختراقُه في السَّنوات الماضية. كما شهدت المدن الأحوازيَّة تصاعدًا كبيرًا في وتيرة بناء المستوطنات، والعمل على تسهيل نقل المستوطنين الفرس إلى الأحواز، كان أبرزها في المدن الجنوبيَّة من الأحواز المحتلَّة.

5- لقد جرى تجريد المجتمع الأحوازي من كلِّ مؤسَّساته الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة،فاتَّخذت خطوات لإلغاء ما بقي من مؤسَّسات الحكم العربي، تحت الحكم العسكريِّ المباشر، واعتبار الأحواز هي الولاية العاشرة من الولايات الإيرانيَّة، وأقيمت الثُّكُنات العسكريَّة والمعسكرات في الأراضي الأحوازيَّة، وجرت عمليَّات اقتطاع أجزاء من الأراضي الأحوازيَّة، وضمِّها إلى المحافظات الفارسية، وتهجير مجموعات سكانيَّة عربيَّة إلى مدن فارسيَّة، وإحلال أسر فارسيَّة محلها. وعلى صعيد الدولة الإيرانيَّة وبناها الإداريَّة والتَّنفيذيَّة في الأحواز، فإنَّ 66 % من العرب لا يشغل ممثِّلوهم أكثر من 5 % من المناصب الرسمية،كما ليس مسموحًا لهم تملك الأراضي، أو المصانع، أو المتاجر الكبيرة. أمَّا على صعيد التَّمثيل الأحوازي في سلطات الدولة الإيرانيَّة، فقد وصل الحال بأهل الأحواز بمساواتهم باليهود في إيران، إذ يقدِّر عددهم بنحو 20 ألف، ويمثِّلهم في البرلمان الإيراني نحو 12 نائبًا، بينما يمثِّل العرب نحو 7 % من السُّكان، ولا يزيد ممثِّلوهم عن 11 نائبًا فقط.

الاندفاع الإيراني، والدَّور العربي المتراجع: 
لقد استثمرت السُّلطة الخمينية مرحلة التَّراجع العربي على نحو مؤثِّر وكبير، في دعم نفوذها الاستعماري في الإقليم العربي، حتَّى أصبحت أحد القوى الإقليمية الفاعلة في داخل الإطار الرسمي المؤسَّسي العربي نفسه " الجامعة العربية ".
كانت هناك أطراف في حاجة إلى دعم وتثبيت في المواجهة مع الكيان الصُّهيونى، فنفذت إيران من خلالها، مقدِّمة نفسها في الإقليم باعتبارها المدافع عن فلسطين، وكانت هناك دول عربيَّة في وضع التَّفكُّك والضَّعف، فدخلت إيران بالمساعدات والمساندة بهدف الاختراق، وكانت هناك أطراف دوليَّة في وضع المباشر لحملة غزو واحتلال دموية للدُّول العربية السُّنيَّة، فسهَّلت إيران مهمَّتها، وتحالفت معها، لتجني من ثمار الصِّراع والإنهاك الذي أصاب الطَّرفين. وفي خلفيَّة كلِّ ذلك كانت إيران في وضع المهاجم في الأحواز، دون مقاومة أو مواجهة إلا من أهلها، وقد مرَّت عمليَّة الاحتلال والتَّذويب للأحواز بعدَّة مراحل:
المرحلة الأولى: اعتمدت إيران كليًا على الدَّور الاستعماري الغربي في عمليَّة الاحتلال والاستيلاء على الأحواز، وإخماد مقاومة الحركة الوطنية، فاحتلال الأحواز  كان بمخطط بريطانى، وبريطانيا صاحبة الموافقة والمساندة الرئيسي له، وفي ذلك يمكن القول بأنَّ احتلال الجزر الإماراتية لم يكن بعيدًا عن لعبة تقسيم المصالح الأمريكيَّة التي كانت صاحبة السَّيطرة على مناطق النُّفوذ، والاحتلال الأمريكي في المناطق التي انسحب منها البريطانيون ومنها إيران .كان الدور الغربي حاسمًا في تلك المرحلة ضمن رؤية للدور الوظيفي لإيران في الإقليم ،كمنطقة جغرافية وسكانية عازلة بين الاتِّحاد السُّوفيتي والشَّرق العربي، واستخدام معالم قوة إيران - المصنوع كثير منها بقرارات وآليات غربيَّة- لتخويف الشَّرق، ودفعِه للبقاء تحت المظلَّة الغربيَّة هو الآخر.كان التوسُّع الإيراني أقرب إلى الرؤية الاستراتيجية المصلحيَّة للحليفين الفارسي والغربي، وكان العامل القومي الفارسي هو أصل الغطاء الأيديولوجي للاحتلال والاستعمار الإيراني. وفي تلك المرحلة لم تخطُ إيران أيَّة خطوة باتجاه مزاحمة المصالح الغربية في الإقليم، أو في تغيير تحالفاتها الدولية.

المرحلة الثَّانية: ظهر العامل الطَّائفي - بعد ثورة وحكم الخميني-كمحور غطاء للسُّلوك الإيراني الاستعماري (وقابله هناك تصاعُد في المدِّ اليهودي على حساب الفكرة الصُّهيونيَّة في احتلال فلسطين)، وكان النَّمط المعروف لغطاء الحركة الاستعماريَّة منذ ثورة الخميني فصاعدًا هو نمط تصدير الثَّورة، وهو ما استهدف إحداث خلخلة في البنيان الدَّاخلي لمجتمعات ودول المحيط العربي، وبدء أحداث تحيُّزات داخل تلك المجتمعات، من بعض المجموعات السُّكانيَّة الأقرب مذهبيًا لإيران، ضدَّ المجموعات السُّكانيَّة الغالبة، وعلى حساب الانتماء الوطني في تلك المرحلة، بدأ تحوُّلٌ في الوضع الاستعماري للأحواز، فلم يعد الغطاء القومي الفارسي نمطًا وحيدًا في الدَّفع بالمستوطنين، بل صار البُعد الطَّائفي المذهبي محركًا آخر، سواء ضدَّ السُّنَّة من أهل الأحواز، أو ضدَّ الشِّيعة العرب من أهلها. وهو بدوره ما جرى ضدَّ العراق بشكل خاص، وانتهى إلى حرب دمويَّة، استهدفت إضعاف وتفكيك العراق، وإعداده لحالة احتلال طويلة الأمد.

المرحلة الثَّالثة: حدث التَّحوُّل الأخطر؛ إذ تحوَّلت إيران من الاستعمار عبر تصدير الثَّورة إلى الاستعمار تحت ظلال فكرة ولاية الفقيه، التي استهدفت تحويل الشِّيعة العرب (وفي كلِّ مكان ) إلى وضعيَّة التَّبعيَّة الكاملة للمصلحة الوطنيَّة الإيرانيَّة،كما أسفرت الدَّولة الإيرانيَّة عن موقف معادي واضح من السُّنَّة الذين صاروا هدفًا للنَّشاطات الإيرانيَّة،كما أسفرت إيران عن دور مباشر في داخل الدُّول العربيَّة، وعن مطالبة سافرة عن مصالح ونفوذ استعمارية لها في الإقليم، وعلى الصَّعيد الدُّولي، وفي تلك المرحلة استخدمت إيران عدَّة أسلحة:
1- سلاح الإعلام: شهدت تلك المرحلة تحقيق أوسع حالة من السَّيطرة الإعلامية في الإقليم، وإذا كان نصيب الإعلام من التَّأثير في حالة تصدير الثَّورة هو الأقلُّ اعتمادًا بسبب الاعتماد على "دوي الحدث" الذي تصنعه أعمال العنف المصاحبة لأعمال وخطَّة تصدير الثَّورة، فقد تلا ذلك مرحلة استُخدم فيها الإعلام إلى حدِّ احتكار الحديث في الإقليم عن المقاومة، والمواجهة مع الكيان الصُّهيوني اليهودي، بل ومع الغرب.كان أحد أهداف استخدام سلاح الإعلام هو امتلاك القدرة على إعادة توصيف الواقع، وتشويه الحقائق حول طبيعة الصِّراعات الجارية، وإخفاء ما يجري داخل إيران إجمالًا، والتَّعمية على عمليَّة التَّذويب الجارية في الأحواز العربيَّة، وشلّ أي تعاطُف شعبي عربي وإسلامي مع أهلها، وعدم نشر وقائع المقاومة، وثورات الحركة الوطنيَّة الإسلاميَّة الأحوازيَّة. وبطبيعة الحال، جرى تقديم ما يجري في الأحواز من ثورات، على أنَّها أعمال خروج ديني وقومي على سلطة الدَّولة، ووصل الحال باتِّهامها بالتَّحرك لمصلحة الغرب. وكان الأخطر أن جرى استهداف أهل الأحواز أنفسهم بتلك الدِّعاية الإعلاميَّة؛ عبر وسائل إعلام ناطقة بالعربيَّة، التي تحاربها إيران على الأرض الأحوازيَّة.

2- سلاح المال: لقد جرى استخدام سلاح المال بشكل مباشر، في تمويل أعمال الاستيطان الفارسي في الأحواز العربيَّة، وفي تصعيد القدرات العسكريَّة الإيرانيَّة؛ لمواجهة الحركة الوطنيَّة الإسلاميَّة في الأحواز،كما جرى استخدام ذات السِّلاح لشراء مواقف الدُّول والإعلاميين والمثقفين؛ لوقف كلّ مساندة لحركة أهل الأحواز، وفي تمويل أعمال المطاردة الخارجيَّة على الأراضي العربيَّة والغربيَّة لمناضلي الأحواز.

3- النَّشاط التَّبشيري الشِّيعي: وقد جرت أعمال توسُّع في نشر فقه ولاية الفقيه، عبر اجتذاب الباحثين وطلاب العلم إلى المراكز الإيرانيَّة، وهو ما شكَّل غطاءً مباشرًا للتَّعمية على الممارسات الجارية في الأحواز، سواء بتصعيد فكرة الولاء إلى الولي الفقيه في إيران، أو عبر صمِّ الآذان عن كلِّ ممارسات الدَّولة الإيرانيَّة.

المرحلة الرابعة: نجحت حركة أهل الأحواز، وقوَّتْها المقاومة، في تدعيم دورها الدَّاخلي والخارجي في الإقليم، ارتباطًا بتطوُّر قدراتها المكتسبة بخبرات النِّضال ضدَّ النِّظام الإيراني، وبحالة الاهتراء التي أصيب بها النِّظام الحديدي في إيران، حتَّى نشبت أحداث ثورة ضدَّ ممارساته، قادها عناصر تربَّت في داخل النِّظام، كما تمكَّن المناضلون والمجاهدون الأحواز من السَّير وفق قراءة دقيقة للتَّغييرات الحادثة في الإقليم، من تنامي وتصاعُد ردود الأفعال المعاكسة والقوية على الدَّور الاستعماري الإيراني في الإقليم. لقد جرت وقائع الثورة الأحوازيَّة الأحدث في عام 2011م، ارتباطًا بأجواء ثورات الرَّبيع العربي، وفي الأفق تغييرات حاسمة على صعيد قوَّة إيران من جهة، وعلى صعيد الوضع العربي والإقليمي والدولي من جهة أخرى، بما يوفِّر مناخًا إيجابيًا لتطوير حركة النِّضال الأحوازي باتجاه التَّحرير بإذن الله؛ إذ يُعاد رسم خرائط وتوازنات القوة من جديد في الإقليم.

الأحواز ..والثَّورات العربية:
دخلت إيران مرحلة تراجُع دورها على الصَّعيد الدَّولي والعربي والإقليمي، فالتَّدهور الدَّاخلى نتيجة التَّشقُّقات التي صارت تتسع داخل البنية الأساسيَّة للنِّظام، وكل ذلك جاء نتيجة مباشرة لسلوكها العنصري المزدوج - الفارسي والطَّائفي- في الدَّاخل، وجراء محاولاتها التوسُّع والاحتلال في الأقاليم المجاورة، سواء على حساب أفغانستان وباكستان من جهة، أو في المنطقة العربيَّة من جهة أخرى، ونتيجة لطموحها الدَّولي في بناء إمبراطوريَّة كبرى، لا تتحمَّل مقتضياتها ومتطلباتها قدرات الدَّولة الإيرانيَّة؛ إذ جاء التوسُّع والاستعمار والنُّفوذ بأعلى وأكثر ممَّا تستطيعه قدرات الدَّولة الإيرانيَّة.

لقد ظلَّت إيران على حالها في التوسُّع، حتَّى صارت هي فقط، والكيان الصُّهيوني اليهودي، الدَّولتان الوحيدتان في العالم اللَّتان تتغيَّر حدودهما، ومساحة الرُّقعه الجغرافيَّة دون توقُّف. وإذا كان الكيان الصُّهيوني قد وجد في نفسه قاعدة للحضارة الغربيَّة في الإقليم، يستند إلى معالم قوتها وقدرتها في البقاء كدولة محاربة ضدَّ إقليم أكبر من قدراتها، فقد أخذت إيران ذات النَّموذج في تصوِّرها الاستعماري التوسُّعي في الإقليم، اعتمادًا على دعم الغرب لها، غير أنَّ تغيير نمط سلوكها العدواني، ودخولها مجال التوسُّع والاستعمار على حساب أطراف متعدِّدة، عربيَّة وإقليميَّة ودوليَّة، جعل الدَّولة الإيرانيَّة في وضع ألَّبَ عليها قوىً وتكتُّلات لا تستطيع مواجهتها في وقت واحد،كما تسبَّب في فتح مساحات واسعة أمام خصومها للتقدُّم نحو إنهاء مشروعها الاستعماري، في ذات الوقت الذي فتح مساحة حقيقية للتَّغيير داخل إيران، خاصَّة بعد ثورات الرَّبيع التي تجتاح النُّظم الشُّموليَّة في الإقليم.

الخطأ الاستراتيجي:
إنَّ أحد الأخطاء الاستراتيجيَّة التي يُصاب بها المستعمر دومًا هو التَّمدُّد بأكثر ممَّا تحتمل قدراته، وهذا ما وقعت فيه إيران، ومن قبلها الكيان الصُّهيوني، بل هو مرض عضال تصاب به كلُّ الدُّول السَّاعية إلى احتلال واستعمار الآخرين. في الحالة الصُّهيونيَّة الاستعماريَّة، بدأت العصابات بالتَّسلُّل للأرض الفلسطينيَّة تحت الغطاء السياسي والعسكري البريطاني، ووقْت إعلان الدَّولة الصُّهيونيَّة كانت الخطَّة تطوريَّة وانتقاليَّة تصاعُديَّة، فيما تسيطر عليه من أراضي فلسطينيَّة، وجرى التوسُّع في حرب عام 48 ليجري ضم قطاعات أخرى، ففي عام 49 جرى الاستيلاء على أم الرشراش، وإقامة ميناء إيلات على البحر الأحمر،كبداية لخطَّة استراتيجيَّة تتعلَّق بالسَّيطرة على مداخل هذا البحر في الجنوب، وفق خطَّة للسَّير إلى السَّاحل الإفريقي، وفي خطٍّ موازٍ مع اتجاه مياه نهر النِّيل من المنبع للمصب، وفي عام 67 استولت الدَّولة الصُّهيونيَّة على ما تبقى من أرض فلسطين، وعلى مساحات من أراضي مصر وسوريَّة والأردن، وكل ذلك بالاعتماد على الدَّعم الغربي الكامل، وهو ما أثبت الواقع محدوديَّة قدرة الكيان الصُّهيوني - كدولة مركز ومحور في هذا التوسُّع- على التَّمسُّك به، بل كان هذا الخطأ الاستراتيجي، هو ما تسبَّب في بداية انحدار المشروع الصُّهيوني، وتراجعه المتواصل والمستمر من وقتها وحتَّى الآن، حتَّى وصل الكيان التَّوسُّعي إلى بناء الأسوار والجدران لحماية نفسه من المحيط المباشر.

وإذا كان الكيان الصُّهيوني قد وصل إلى ذروة حالته الاستعماريَّة بأكثر مما تحتمل قواه، والدول المساندة في عدوان عام 67 ، وصار منحنى قوته يهبط بدءًا من حرب عام 67 ، فيمكن القول بأنَّ المنحنى الاستعماري الإيراني قد وصل إلى ذروته ما بعد العدوان الأمريكي على أفغانستان والعراق، وأنَّه من بعد خروج قوات الاحتلال الأمريكيَّة من العراق، بدأ العدُّ التَّنازلى له على صعيد دوره ونشاطه الاستعماري في الإقليم، وعلى الصَّعيد الدُّولى أيضًا. وقد سارت إيران في نفس الرؤية للمخطط الاستراتيجي، الذي مرَّ بعدَّة مراحل، وفق تطورات أوضاع الدَّولة الإيرانيَّة، ومعالم قدراتها العسكريَّة، ورؤاها لماهيَّة الأمن القومي - وفق تطوُّر وضعها الاستعماري - لكنَّها أوغلت في الطُّموحات الاستعماريَّة، بما استنفر قوىً عديدة للمواجهة، عربية وإقليمية، وقوىً رسميَّة، وأخرى شعبيَّة، حتَّى جاءت ثورات الرَّبيع العربي التي استدارت حتى وصلت إلى سوريَّة، لتكون في مواجهة النُّفوذ والدَّور الإيراني، وهو ما فتح الطَّريق إلى مواجهة هذا النُّفوذ في العراق، ويتطوَّر لإضعاف معالم قوة الدَّولة الإيرانيَّة على البقاء رهن تلك الممارسات الاستعمارية، وبات يطرح سريان قانون التَّفكيك عليها، بما يفتح آفاقًا جديدة وغير مسبوقة لتحرير الأحواز.

تقييم الوضع الرَّاهن:
دخلت إيران مرحلة جديدة كليًا؛ إذ تتكاتف عوامل وأطراف متعددة لمواجهتها، ودورها الاستعماري على الصُّعُد الدَّوليَّة والإقليميَّة والعربيَّة، وهو ما يفتح الطَّريق لمرحلة جديدة مختلفة كليًا لنضال أهل الأحواز، الذين حافظوا بثوراتهم على استقلالهم، طوال الفترة منذ الاحتلال وحتى الآن، وتأتي الظُّروف الرَّاهنة لتوفِّر غطاءً استراتيجيًا لحلم التَّحرُّر والانعتاق من الاحتلال، ونلحظ ذلك من خلال النِّقاط الآتية:
1- تحوَّل الغرب من داعم ومساند لقوَّة إيران في الإقليم، في تهديدها للدُّول العربيَّة وخاصَّة الخليجيَّة، وفي احتلالها للأحواز؛ لتكون قوَّة في مواجهة روسيا، إلى وضعية القلق والمواجهة     - بطريقة أو بأخرى - بعد أن تخلَّت إيران عن الشَّرطين اللَّذين دعمها الغرب بسببه، وهما شرط عدم التَّحالف مع الاتِّحاد السُّوفيتي- روسيا حاليًا- وشرط عدم التَّطلُّع لاقتسام المصالح مع الغرب في الإقليم، بل إنَّ إيران حين تحوَّلت من تصدير الثَّورة إلى ولاية الفقيه، تكون قد أخلَّت بالشَّرط الثَّالث وهو تهديد الآخرين دون طموح دولي. أنهت إيران قائمة الشُّروط الغربيَّة التي جعلت الغرب يدعم قوتها، والتَّغاضي عن احتلالها للأحواز، والجزر الإماراتيَّة.

2- استنفرت إيران جارتها الإقليمية الكبرى تركيا، وجعلتها تطوُّر استراتيجيَّة مواجهة المد والنُّفوذ الإيراني التَّوسعي في الإقليم؛ إذ وجدت تركيا نفسها في مواجهة توغُل وتوسُّع إيراني في الإقليم، على حساب مصالحها الحيويَّة، بما استنفرها للدِّفاع عن رؤاها ومصالحها في مواجهة إيران، وقد شاهدنا دور تركيا في لبنان،كان مؤشره قيام أردوغان بزيارة للبنان، بعد أيام من زيارة الرئيس الإيراني لها،كما تقوم تركيا بدور داعمٍ للثَّورة السُّورية التي تسعى للإطاحه برجل إيران، وبالنِّظام الطَّائفي الموالي لها هناك، وهكذا الحال في العراق وغيرها. الأمر لم يتضح بعد بشأن دور تركي مساند للأحواز، غير أنَّ ما هو متواتر من وقائع لإعادة رسم خرائط المنطقة، ومن دور سوري إيراني في مساندة الحركة الانفصاليَّة الكردية في تركيا، سيدفع تركيا في مرحلة ما - لا تبدو بعيدة كثيرًا - إلى مساندة حركة الأحواز المدفوعة نحو الاستقلال، خاصَّة مع تراجُع القوة والقدرة الإيرانيَّة بشكل متنامٍ.

3- استنفرت إيران القيادة الرَّسميَّة لدول الخليج، والقوى الإسلاميَّة، والعديد من القوى الشَّعبيَّة الأخرى، بفعل سياستها الاستعماريَّة الطَّائفيَّة في الدُّول العربيَّة والإقليم، بما يوفر غطاءً سياسيًا يحدث لأول مرَّة للقضيَّة الأحوازيَّة، وينهي حالة الانقطاع بين القضيَّة والحاضنة العربيَّة. لقد صعَّدت إيران من مساحة الشِّقاق بين الشِّيعة العرب والفرس، خاصَّة في ظلِّ رفض الكثير منهم لمفهوم ومضمون ولاية الفقيه، ولما وضعتهم فيه إيران بين الخيار القومي والوطني والمذهبي. وقد كان نموذج السُّلوك الإيراني في العراق؛ بمثابة تفجير لقنبلة الصِّراع على هذا الصَّعيد، حتَّى أنَّ الكثير من الرُّموز الشِّيعيَّة تركت العراق، وصارت تعيش في المهاجر، تحت الضَّغط الإيراني، وخوفًا من عمليَّات التَّصفية الجسديَّة.

4- استنفرت إيران كلَّ الدُّول العربيَّة ضدَّها، بفعل النَّشاط التَّبشيري الشِّيعي الذي مارسته رسميًا وعبر أطراف أخرى ،كما استنفرت لذات السَّبب قيادات إسلاميَّة لم تكن على هذا المستوى من الاستنفار ضدَّها من قبل.
5- مع كلِّ ذلك ينفتح الباب مجددًا أمام قضية الأحواز؛ للعودة إلى صدارة التَّغيير لمصلحة الشَّعب الأحوازي، ضمن وضعيَّة دوليَّة وإقليميَّة وعربيَّة رسميَّة وشعبيَّة مستنفرة ضدَّ إيران، وفي ظلِّ ثورات ربيع صارت تستهدف خريف إيران.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق