الدرة (( إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ، إِنْ سَاحَ طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ )) الامام الشافعي
الثلاثاء، 31 ديسمبر 2013
في العمق.. الدرونز.. الحرب الصامتة
في العمق..
الدرونز.. الحرب الصامتة
ناقشت حلقة الاثنين 30/12/2013 من برنامج "في العمق" كيف تعمل الطائرات بدون طيار(الدرونز)، وما الذي يدفع الدول الكبرى للاعتماد عليها؟ ولماذا تدير الاستخبارات الأميركية عمليات الدرونز؟ وكيف تؤثر الطائرات بدون طيار على الشعوب المستهدفة؟ وهل نجحت أميركا في الاعتماد على هذا النوع من الحروب؟
واستضافت الحلقة ناشطة السلام الأميركية ميديا بنيامين، كما تخلل الحقلة مداخلة لجندي أميركي سابق هو ماثيو ساوثوورث، وأستاذة علم الاجتماع بجامعة تعز اليمنية ألفت الدبعي.
وترى ميديا بنيامين أن الطائرات بدون طيار تطيل أمد الحروب بدل التوصل إلى حلول عبر المفاوضات.
وقالت إن هجمات هذه الطائرات تخلق جيلا جديدا من المتطرفين الناقمين على الولايات المتحدة. لأنها عادة تخلف ضحايا أبرياء من المدنيين.
وأضافت أن الحكومة الأميركية تسعى لجعل شعوبها آمنة عبر استخدام هذا النوع من الطائرات في وقت لا تلقي بالا لحياة الشعوب الأخرى.
وتعتقد ميديا أن سيطرة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية على العمليات العسكرية في باكستان يضفي الكثير من السرية على استخدام هذا النوع من الطائرات.
في السياق أشارت ميديا إلى أن واشنطن تعمل على إنشاء قواعد لانطلاق هذه الطائرات في الشرق الأوسط وأفريقيا والمحيط الهادي، مما يعني أنها تسعى للتوسع في استخدامها مستقبلا.
من جهة أخرى لفتت ميديا إلى أن هناك تسابقا في التسلح بهذا النوع من الطائرات حيث صارت تصنع في إسرائيل والصين وإيران وأن هناك دولا في طريقها لشرائها، مضيفة أن 87 دولة باتت تمتلك هذا النوع من الطائرات بسبب قلة تكلفتها.
آثار نفسية
من جهته قال الجندي الأميركي السابق ماثيو ساوثوورث إن الجنود الذين يستخدمون الطائرات بدون طيار في باكستان ومناطق أخرى في العالم عادة يعانون من اضطرابات نفسية لاحقا بسبب القتلى المدنيين الذين يسقطون بسببهم.
وأضاف ماثيو أن أقل من 50% من الذين قضوا في الهجمات كانوا أهدافا مشروعة، لافتا إلى أن هذا النوع من الهجمات جلب السخط على واشنطن في باكستان.
بدورها أشارت ألفت الدبعي إلى أن 99% من الحالات التي طالتها الهجمات في اليمن تعاني من اضطرابات نفسية وآثار ما بعد الصدمة خصوصا الأطفال منها.
وقالت إن هناك استياء شعبيا باتجاه الحكومتين الأميركية واليمنية. مشيرة إلى أن هذه الهجمات تساهم في صناعة التطرف خصوصا في المناطق القبلية.
متى ينتهي الانقلاب?
متى ينتهي الانقلاب؟
هذا هو السؤال الأكثر شيوعا الآن في العالم الغربي قبل العالم العربي، ذلك أن كل ناظر وكل ذي بصيرة يرى أن المعارضة للانقلاب قد استمرت دون توقف أو فتور، بل أصبحت مع الزمن واسعة النطاق قوية الإيمان طويلة النفس.
وفي المقابل، فإن أقطاب الانقلاب يختبئون تماما ويسربون من آن إلى آخر ما يضمن خلق حالة من تضارب الأخبار بشأن حياتهم (أي كيف يعيشون)، وأحيانا بشأن بقائهم (هل هم أحياء وأصحاء أم لا؟).
لكن هذا العبث الإعلامي -الذي يستهدف تشتيت الانتباه- أصبح ينشئ حالة أخرى غير مرغوبة من الإيمان بفقدان سيطرة رجال الانقلاب على مقدرات الأمور، ذلك أن العالم الشرقي -ومنه مصر- تعود على أن الانقلابيين القدامى كانوا يحكمون قبضتهم على الأمور، يتخذون من أحكام القبضة وسيلة للإيحاء بالنجاح والسيطرة، ومن ثم فإن تراخي هذه القبضة أو اضطرابها -على نحو ما هو حادث الآن في مصر- ليس له إلا تفسير واحد، وهو ضعف الانقلاب نفسه، وليس ضعف سيطرته فحسب.
الانقلابيون القدامى كانوا يحكمون قبضتهم كوسيلة للإيحاء بالنجاح والسيطرة، أما تراخي هذه القبضة أو اضطرابها -على نحو ما هو حادث الآن في مصر- فليس له إلا تفسير واحد، وهو ضعف الانقلاب نفسه، وليس ضعف سيطرته فحسب |
وهكذا تراكم ملف الإجرام الذي ارتكبه الانقلاب في مذابح مشهورة (ولم تعد كما أرادوها مستورة) كالحرس الجمهوري والمنصورة والمنصة ورابعة العدوية (أم المذابح) والنهضة ومصطفى محمود وجامع الفتح وميدان رمسيس ودلكا وكرداسة.
وصار الانقلاب يرسم نموذجا مروعا لجرائم الاستبداد ضد أبناء الشعب الذي ينتمي إليه الجيش، ولم يعد في وسع أحد أن يغفر للانقلاب، ولا أن يلتمس له الأعذار.
وهكذا انسحب الحديث عن فظائع الانقلاب إلى تكرار حديث قديم عن الخوف الكاذب من ديكتاتورية الرئيس أو ديكتاتورية حزب الأغلبية، وهو منطق مريض، لكنه أصبح بمثابة المنطق الوحيد المتاح أمام محامين منتدبين أو مكلفين مضطرين تحت تهديد السلاح أن يدافعوا بشدة أو حماسة عن الانقلاب وعن جرائمه.
وقد وصل الأمر بالمراقب العادي إلى أن يتأمل في وجوه قادة الانقلاب فإذا هي مسودة، وفي مصائر الذين شاركوا في المذابح فإذا هم يتعرضون لانتقام إلهي وعد الله به المظلومين وتوعد به الظالمين، وإذا هم يرون الأمور اليومية في الإدارة الحكومية تسير من سيئ إلى أسوأ.
كما أن الدعم -الذي يتلقاه الانقلاب من الخارج- لا يكاد يستر وجهه، أحرى به أن يستر جسده كله، وهكذا لم يمانع بعض المحللين المؤيدين للشرعية في أن يفكروا بحجم الدعم المتاح والتاريخ المتوقع لاستنفاده أو انتهائه، وهو الأمر الذي بات يزعج هؤلاء الذين كانوا يظنون أن الانقلاب سيمر من عنق زجاجة ثم يخرج منها بحكم طبائع الحياة.
على صعيد آخر، كانت حقائق التاريخ المعاصر تتبدى وتتجلى وتذكر الجماهير بنفسها، وكان المتابعون للأحداث يفهمون الأمور على حقيقتها، وهي أن مبدأ الاستيلاء على مقدرات الأمم -من خلال الانقلاب العسكري- لم يعد مقبولا في السياسة الدولية حتى وإن حقق للولايات المتحدة أو حلفائها بعض ما يشتهون هنا أو هناك.
كما أن هؤلاء -الذين يفهمون الأمور على حقيقتها- كانوا يدركون منذ البداية ولا يزال إدراكهم يتنامى بصعوبة عبور الانقلاب من عنق الزجاجة، خاصة مع ضعف الكفاءات عند أولئك الذين ركبوا سفينته وهم سعداء، أو هم منتظرون الفوز أو المكسب، فقد أصبح من الواضح أن هؤلاء -الذين تفاخر الانقلاب بأنهم أيدوه- بمثابة العبء لا القوة الدافعة، فمن وزراء يتميزون بالفساد في تاريخهم إلى آخرين يتميزون بالجهل أو الجبن أو يجمعون بينهما.
أما الذين صوروا أنفسهم زعماء ومفكرين فقد انشغلوا تماما بتبرئة أبنائهم وبناتهم من الإجرام المحيط بماضيهم، والعقاب المحدق بمستقبلهم، ووصل الأمر أن تحدث قائد من قادة الانقلاب عن أحد الصحفيين القدامى (الذي اعتبر نفسة منظرا للانقلاب) في صيغة أنه ليس إلا والدا لاثنين من اللصوص الكبار يريد تبرئتهما من جرائم تستحق الإعدام لا الأشغال المؤبدة فحسب.
والأمر نفسه فعله قائد من قادة الانقلاب في وصف مرشح رئاسي سابق بالصفة نفسها مع اختلاف جنس الابن، فهذا الزعيم -على حد وصف الصحافة المعارضة- "والد النصابة" في مقابل أن الصحفي القديم "والد اللصوص أو المجرمين".
وهكذا ساعدت قيادة الانقلاب -بكل ما تملك من وسائل المعلومات- على تشويه صورة مؤيدي الانقلاب حتى لا يكتسبوا حدودا أكبر في انتفاعهم من نتائج الانقلاب.
ومن المضحك أن الجماهير -التي تقترب عن هواية من إتقان فن المتابعة والتذكر- كانت تعيد على مسامع الانقلابيين القصة غير المستورة التي تروي أن قائد الانقلاب نفسه استغل موقعه على رأس أحد الأجهزة المهمة في أن يفرض سياج تهديد جاد على مرشح رئاسي لدى عودته من دولة إسلامية غير عربية، وأجبره على أن يتنازل عن نصف الأموال السائلة التي اصطحبها معه والتي كان قد حصل عليها من هذه الدولة على هيئة دعم لحملته الانتخابية.
المتابعون للأحداث يدركون أن مبدأ الاستيلاء على مقدرات الأمم -من خلال الانقلاب العسكري- لم يعد مقبولا في السياسة الدولية حتى وإن حقق للولايات المتحدة أو حلفائها بعض ما يشتهون هنا أو هناك |
وربما تكمن نهاية الانقلاب -في نظر البعض- في وصول مثل هذه القوى الوطنية إلى حد يتوقف عنده حمقها في هذه النقطة، فتنظر القوى الوطنية إلى مصلحتها في التعددية والديمقراطية والمدنية والحرية، وهي المصالح التي ضحت بها حين دفعت بالأمور في اتجاه الانقلاب العسكري وما صاحبه من فقدان مؤكد لقيم التعددية والمدنية والأمن والحرية.
وأصبحت هذه الشخصيات أو القوى تعيش حياتها يوما بيوم تنتظر نهاية الانقلاب دون أن تُعنى بأن تشارك هي نفسها في وضع هذه النهاية التي أصبح الشعب وحده هو القادر على أن يحقق فيها نجاحات مذهلة بفضل السيدات المصريات اللائي فقن الخنساء بطولة وشجاعة، وبفضل الطلاب المصريين الذين وصلوا إلى بطولات تناظر بطولات الشباب المسلمين في صدر الإسلام.
وهكذا، فإن مقدرات النجاح لم تعد نجاحا واحدا فقط، وأصبح العالم كله يشهد ويستشعر كيف نجح الشعب دون توجيه ودون قيادة طاغية في أن يحرك نفسه، أو فلنقل نجح الشارع في أن يحرك الشارع ضد الانقلاب حتى بات الناس يسألون عن نهاية الانقلاب لا عن نهاية المقاومة، وهذا في تقديري هو سر الفوز.
المصدر:الجزيرة
أمريكا وإستراتيجية " القيادة من الخلف"
أمريكا وإستراتيجية " القيادة من الخلف"
شهد عام 2013 العديد من الأحداث الدرامية والتحولات الجذرية التي جعلت من هذا العام هو الأخطر والأكثر تأثيرا على الصعيد الإقليمي والدولي ، ومن أبرز أحداث هذا العام هذا التحول الكبير في إستراتيجيات السياسة الخارجية الأمريكية والذي كان بمثابة الانقلاب في الأحلاف الإستراتيجية التاريخية للأمريكان والتي وصفت بالثبات والاستقرار من انتهاء الحرب العالمية الثانية . فقد كان اتجاه أمريكا نحو التحالف مع إيران ، والتفكيك التدريجي لشراكتها التاريخية مع دول الخليج بمثابة الانقلاب الثوري في السياسة الأمريكية . فهل هذا التحول كان عملا فجائيا،ثوريا فعلا ؟ أم أنه نتيجة طبيعية للتغير البطيء والمتدرج في سياسات أمريكا الخارجية ، وتغيير أدوات تنفيذ إستراتيجيات الأمن القومي لها ، منذ أكثر من عشرين سنة ؟ وما هي الأسباب الحقيقة الدافعة لأمريكا للقيام بهذا التغيير الشامل في إستراتيجياتها الخارجية ، خصوصا حيال منطقة الشرق الأوسط ؟
من تحليل تطور وواقع السياسة الخارجية الأمريكية تجاه العالم العربي منذ نشأة العلاقات بين الجانبين في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، ووراثة أمريكا للنفوذ الإنجليزي في المنطقة ، يمكن رصد عدة حقائق ونتائج هامة ، من أبرزها :
1 ـ أن عناصر الاستمرارية والثبات في الرؤية الأمريكية من حيث الأهداف والمصالح في العالم العربي والإسلامي تفوق عناصر التغيير أو القطيعة ، وأن التغييرات المفاجئة التي طرأت على الأنماط والتحالفات المستقرة بين العرب وأمريكا كانت نتيجة تغييرات مفاجئة وانقلابية في توجهات ورؤى النخب الحاكمة في عدد من بلدان المنطقة ، مثل اندلاع الثورات ، أو الانقلابات العسكرية ، وهذه التغييرات أسهمت في تثبيت وتدعيم وزيادة مكانة الكيان الصهيوني في الرؤية الأمريكية ، كما أسهمت في تغيير الرؤية الأمريكية نحو إيران، واتجاه أمريكا للتعامل معها كشريك محتمل وحليف يمكن الوثوق به ، والتنبؤ بسلوكياته وسياساته نتيجة ثباته واستقراره السياسي .
2 ـ أن جميع الإدارات الأمريكية على اختلاف توجهاتها الحزبية ؛ جمهورية كانت أم ديمقراطية ، كانت حريصة على التعامل مع العالم العربي والإسلامي وفق أجندة ثنائية ، بينها وبين كل دولة عربية على حدة ،ولم تتعامل مع أي دولة عربية أو إسلامية على أساس أنها زعيمة العرب أو المسلمين ، كما أنها لم تتعامل مطلقا مع الجامعة العربية ، ولم تعرها اهتماما ، فهي من وجهة النظر الأمريكية من منتجات حقبة الهيمنة الإنجليزية على العالم العربي في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية .
3 ـ أن التحول الجذري الذي ظهرت نتائجه بقوة في هذه الفترة قد بدأ منذ أكثر من عشرين سنة ، وتحديدا منذ سنة 1991 والتي كانت السنة الأهم والأخطر في مستقبل العلاقات الدولية والإقليمية ، وخلال العشرين سنة وقعت عدة أحداث ساهمت في تأسيس الرؤية الأمريكية الجديدة في المنطقة من أهمها : انهيار الاتحاد السوفيتي ، غزو العراق للكويت ثم تحريرها ، دخول القواعد الأمريكية في منطقة الخليج العربي ، هجمات سبتمبر 2001 ، احتلال العراق 2003 ، الأزمة الاقتصادية العالمية 2008 ، الثورات العربية 2011 .
4 ـ خلال العشرين سنة تبنت الإدارة الأمريكية المتتابعة عدة مبادئ وقضايا وأدوات للسياسة الخارجية عامة ، والإقليمية خاصة وفق عدة عوامل : ففي الفترة من 1991 حتى سنة 2001 ، وخلالها اعتمد الأمريكان مبدأ " إعادة الانتشار " وركزوا على ثلاثة قضايا : العراق والنفط والمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية . وفي الفترة من 2001 حتى سنة 2008 اعتمد الأمريكان مبدأ " الحروب الاستباقية " و " التدخلات الإجبارية " بالتركيز على ثلاثة قضايا : الحرب على الإرهاب ، ونشر الديمقراطية وفق المنظور الأمريكي ، وأسلحة الدمار الشامل . وفي الفترة من 2008 حتى 2013 اعتمدت الإدارة الأمريكية مبدأ " القيادة من الخلف " ، حيث تم التركيز على قضيتين فقط وهما : الأزمة الاقتصادية العنيفة ، والثورات العربية .
مبدأ " القيادة من الخلف " بدأت أمريكا في الاقتناع بحتمية العمل به منذ انتهاء حقبة " بوش الصغير " ، بعد ظهور العديد من المؤشرات على تراجع التأثير الأمريكي دوليا ، بسبب أفول قوة الولايات المتحدة النسبية في وقت أخذت قوى جديدة منافسة مثل الصين ، وأيضا بسبب ارتفاع معدلات الكراهية للتدخلات الأمريكية في الشئون الداخلية للدول ، ومن هذه المؤشرات الدالة على تراجع الدور الأمريكي دوليا وإقليميا وداخليا ، وحتمية اعتناق مبدأ القيادة من الخلف : ميل إدارة أوباما نحو الخروج من أفغانستان بعد عشرية مرهقة وباهظة الكلفة ، والانتقاد الحاد التي واجهته هذه الإدارة عندما أعلنت عن نيتها الاشتراك في العمليات العسكرية في ليبيا . أيضا استمرار العجز السنوي في الموازنة ، واستمرار التراجع في النمو ، واشتداد المنافسة العلمية ، خاصة من الصين وألمانيا ، والتي انعكست على الدور الأمريكي في مرحلة الثورات العربية ، وهذا ما أكدته وزيرة الخارجية الأمريكية " هيلاري كلينتون " حيث صرحت في 16 / 8 / 2011 بأن الولايات المتحدة قد تخسر فرصتها في إعادة رسم السياسات في الشرق الأوسط إذا تسببت ضغوط الميزانية في تقييد الدعم الأمريكي للقوى الديمقراطية الناشئة " . وعلى الرغم من ارتفاع ميزانيات الدفاع والتسليح في عهد أوباما لمستويات قياسية إلا إنها تأتي في سياق سياسة تقشفية تستهدف خفض الإنفاق الحكومي لمواجهة عجز الموازنة ، وانسحاب الحكومة من دعم الفئات الأكثر تضررا من سياسات الإنفاق العسكري ، مما يترتب عليه نزيف اقتصادي حاد ومستمر ، وهو ما سيؤدي لانحسار التفوق الأمريكي العلمي والتكنولوجي والعسكري وكلها مرتبطة بالتفوق الاقتصادي .
هذا على المستوى الدولي ، أما إقليميا فقد كانت الدور الأمريكي في مرحلة ما قبل الثورات قويا راسخا ، ولكنه لم يبق على رسوخه ومكانته مع هبوب رياح الثورة في تونس ثم مصر ، إذ أخذ هذا الدور في الانحسار والتراجع بشكل ملحوظ ، ومع دخول هذا البلاد مرحلة الديمقراطية والحكم الجماعي والتخلص من حكم الفرد المستبد ، زادت وتيرة تراجع الدور الأمريكي في مصر تحديدا ، لذلك لم يكن مستغربا أن تعمل أمريكا جاهدة مع شركائها وعملائها داخل مصر وخارجها على إجهاض هذه التجربة الناشئة للحكم ، وهو ما تم فعلا بالانقلاب العسكري في 3 يوليو ، وهو الانقلاب الذي أعاد قدرا كبيرا للنفوذ والتأثير الأمريكي في مصر والمنطقة . وفي ليبيا كان التراجع الأمريكي أشد وأوضح ، حيث اتبعت أمريكا أسلوب القيادة من الخلف ، بعدم تصدر المشهد ، والسماح لقوات الناتو ودول أوروبا بلعب الدور الأكبر في العمليات العسكرية ، وكذلك في عمليات إعادة الإعمار .
أمريكا بعد أكثر من عشرين سنة من إعادة النظر وترتيب الأوراق والأولويات في إستراتيجيات الأمن القومي وأدوات السياسات الخارجية ، قررت أن تعيد ترسيم سياساتها في المنطقة ، بما يتماشي مع مقدراتها الاقتصادية والعسكرية ، والمتغيرات التراجيدية في المنطقة ، فأمريكا قد بان للعيان في النصف الثاني من عام 2013 أنها على وشك الخروج من منطقة الشرق الأوسط ، والاتجاه نحو منطقة القرن الأفريقي والجنوب الأسيوي لمواجهة النفوذ المتصاعد بسرعة للصين ، ولكنها لن تتراجع إلى الخلف في المنطقة التي ترتبط معها بعلاقات إستراتيجية لا تقبل هذا النوع من التراجعات إلا بعد أن تكون قد أعادت تشكيل أحلافها في المنطقة بما يضمن استمرار التدفق الحر لحركة التجارة العالمية ، واستمرار الهيمنة على الممرات المائية الدولية ، واستمرار تدفقات الوقود وعقود الطاقة ، لذلك فأمريكا تعيد تشكيل المنطقة بتسليم بلاد المغرب العربي وليبيا للمحور الأوروبي ، وتسليم مصر وفلسطين والأردن لمحور إسرائيل ، وتسليم دول الخليج والعراق لمحور إيران ، على أن تتحفظ لنفسها بالحد الملائم من العلاقات الإستراتيجية مع كل الأطراف بما يسمح لها بتغيير خططها وأهدافها وإستراتيجياتها ، وبما يضمن لها أيضا بتحقيق أهدافها ومصالحها .
حقيقة ما يحدث الآن
حقيقة ما يحدث الآن
د. محمد عباس
يقول الكاتب الألماني الأشهر "غيته Johann Wolfgang von Goethe" أن من لم يعرف تفاصيل الثلاثة آلاف عام الأخيرة سيظل طول عمره يعيش في العتمة!!
وبهذا القول فإن الغالبية العظمى من الكتاب والمثقفين الذين يكتبون للناس كي يعلموهم ويثقفوهم ليسوا سوى عميان يقودون عميانا آخرين، هذا مع افتراض حسن النية، وهو افتراض غبي لا وجود له، ويكفي أن أقول لكم منعطفات قليلة في البداية توضح مدى استحالة أن نبني ناطحة سحاب على بحر من الرمال المتحركة دون أي أساس.
أقول لكم على سبيل المثال أن بريطانيا أشعلت الثورة العربية الكبرى -أو ثورة الخيانة الكبرى- يوم 5 يونية 1916- ولاحظوا التاريخ- ليطلق الشريف حسين الرصاصة الأولي على الحامية التركية في مكة وليكون أبا رغال والمحلل الديوث الذي يغطي تقدم القوات الإنكليزية ومهاجمة دولة الخلافة في الشام.
أقول لكم على سبيل المثال أن بريطانيا أشعلت الثورة العربية الكبرى -أو ثورة الخيانة الكبرى- يوم 5 يونية 1916- ولاحظوا التاريخ- ليطلق الشريف حسين الرصاصة الأولي على الحامية التركية في مكة وليكون أبا رغال والمحلل الديوث الذي يغطي تقدم القوات الإنكليزية ومهاجمة دولة الخلافة في الشام.
وانهزمت دولة الخلافة ودخل القائدان الفرنسي والإنكليزي ليضرب الأول قبر صلاح الدين هاتفا: هاقد عدنا يا صلاح الدين وليهتف الآخر: الآن انتهت الحروب الصليبية.
كانوا هم يقرأون التاريخ ويفهمون أن الحروب الصليبية تضع أوزارها وكنا نسبح في بحار العلمانية العفنة والفكر القومي الذي خدعونا به كما خدعوا الشريف حسين.
كانوا هم يقرأون التاريخ ويفهمون أن الحروب الصليبية تضع أوزارها وكنا نسبح في بحار العلمانية العفنة والفكر القومي الذي خدعونا به كما خدعوا الشريف حسين.
فبالفكر القومي تتجمع أشتات اليهود من العالم وتتوافد على أرض الميعاد، وبالفكر القومي يتفتت العالم الإسلامي إلى عشرات القوميات العربية والطورانية والبابلية والكردية والفارسية والبربر والأكراد والزنج و .. و .. و ..
نعود إلى الشريف حسين الذي طالب بثمن الخيانة وتوليته عرش الحجاز والشام، وهنا دفعت بريطانيا بآل سعود وهزم الشريف حسين، ولما أبدى الغضب قدموا له رشوة بتولية أبنائه الثلاثة على سوريا والعراق والأردن، أما هو، فلأنه لم يصمت، فقد أدخلوه مستشفى الأمراض العقلية، فظل فيها حتى مات.
بدا أيامها أن بريطانيا الشفوقة قد اصطنعت إمارة الأردن التي ليس لها مقومات الدولة، وبدا أمام العميان أن بريطانيا حريصة على العدل بين أبناء الشريف حسين. فاختلقت إمارة جديدة. ولم يكن الأمر كذلك.
نعود إلى الشريف حسين الذي طالب بثمن الخيانة وتوليته عرش الحجاز والشام، وهنا دفعت بريطانيا بآل سعود وهزم الشريف حسين، ولما أبدى الغضب قدموا له رشوة بتولية أبنائه الثلاثة على سوريا والعراق والأردن، أما هو، فلأنه لم يصمت، فقد أدخلوه مستشفى الأمراض العقلية، فظل فيها حتى مات.
بدا أيامها أن بريطانيا الشفوقة قد اصطنعت إمارة الأردن التي ليس لها مقومات الدولة، وبدا أمام العميان أن بريطانيا حريصة على العدل بين أبناء الشريف حسين. فاختلقت إمارة جديدة. ولم يكن الأمر كذلك.
كانت بريطانيا تعرف -عام 1922- أنها ستنشئ إسرائيل بعد ربع قرن. وكانت تخشى على جنين تلك الدولة التي لم تولد بعد، فاختلقت وابتسرت الأردن كي تكون حاجزا بينها وبين الزخم الديني للسعودية والزخم العسكري للعراق.
انتهى الشريف حسين مجنونا في المستشفى، أما أبناؤه الثلاثة فقد كان لكل منهم نهاية فاجعة، وآخرهم الملك عبدالله جد الملك حسين ملك الأردن السابق، الملك حسين الذي عاد وهو ميت كي يغير من ولي العهد وكي ينقلها من أخيه المتمرد قليلا إلى ابنه المتغرب بالكامل. عاد شبيه له، وكان الملك قد مات بالفعل في مستشفى البحرية الأمريكية.
عام 1935 كتب بن غوريون أن عرب فلسطين سيمثلون مشكلة لليهود بعد إنشاء إسرائيل. وأنه لا توجد دولة لاستيعابهم إلا العراق، التي يجب احتلالها وتقسيمها إلى ثلاثة أقسام: الشمال الكردي كي يناويء تركيا والجنوب الشيعي كي يناويء الخليج والقسم الأوسط للسنة العرب العراقيين، والذين سيظلون يشكلون تهديدا لإسرائيل، ولذلك ينبغي تهجير عرب فلسطين إلى وسط العراق لخلق حرب طائفية وعرقية بين سنة فلسطين وسنة العراق (كان الانقسام والتقسيم مخططا ومصنوعا بنفس منطق: إحنا شعب وهما شعب .. لينا رب وليهم رب .. وكانت أجهزة المخابرات هي الفاعل في الحالين) ..
مع نهاية الحرب العالمية الثانية كانت الرأسمالية تتبدّى بأقصى درجات وحشيتها .. ليس ضد أعدائهم فقط .. بل ضد بعضهم البعض،، وقررت أمريكا أن الأب العجوز:"أوروبا" يجب أن يموت وأنها يجب أن ترثه، وفي هذا الإطار تأتي كل الثورات والانقلابات العربية والتركية والإيرانية والهندية؟ الباكستانية، وما حدث في المغرب العربي.
لننس كل هذا الآن ولنتساءل تساؤلا غريبا هو: هل كان انقلاب (ثورة .. كي لا يتشنج أحد) 23 يوليو ممكنا؟ ولننس الآن أو حتى لننكر أن أبوتها مشكوك فيها .. ولنتناولها كناصريين (والعياذ بالله).
الثورة التي شبعت موتا ثم يخرجون جدثها المتعفن الآن وسط احتفاء الانقلابيين، في مشهد كريه ومقزز، كزنا المحارم، ومضاجعة الوداع، فالسلطة التي يصدر عنها كل هذا الضجيج والصخب والوله بثورة 23 يوليو أكثر فسادا وأنكى ظلما من ذلك الذي قامت الثورة للقضاء عليه.
نعم .. الاحتفاء الانقلابي بثورة 23 يوليو أشبه بقرصان أو مملوك قتل أستاذه .. وصنع من جمجمته قدحا يشرب فيه الخمر في مخازيه كل مساء .. فلما انقلب عليه غلمانه، وعاداه سادته وتنكر له أقرانه وفقد سطوته وسلطته، لم يجد إلا أستاذه القديم يتمسح في ذكراه ويحتفل بها.
إذ نتناول ثورة 23 يوليو، علينا أن نحذر من ذئب التفاصيل، وغواية الحكايات، وطوفان الأحداث، فكل ذلك كفيل بإغراقنا، وبحصارنا في أنفاق مسدودة، متناقضة، متضادة، حيث يتشبث كل منا بأن نفقه هو الذي يشكل المجرى الرئيسي لثورة 23 يوليو.
الغرق في التفاصيل قد يكون مغريا، لكنه في نفس الوقت يمنعنا من تكوين نظرة شاملة للأمر، لأي أمر، إذ يمكن أن ينقضي العمر كله ونحن نناقش التفاصيل، دون أن نصل إلى أي نتيجة، أو تصور كلّى.
لكن هذا لا يعني أن نندفع إلى الاختزال المخل، الذي قد ييسر لنا الوصول إلى تصور شامل كلي، وإلى إصدار أحكام قاطعة، تكون في أغلب الأحيان خاطئة.
بين هذا وذاك إذن يجب أن يكون أمرنا، ومن هذا المنطلق، فإننا نستطيع القول بأن ثورة 23 يوليو هي جمال عبدالناصر وأن جمال عبدالناصر هو ثورة 23 يوليو.
انتهى الشريف حسين مجنونا في المستشفى، أما أبناؤه الثلاثة فقد كان لكل منهم نهاية فاجعة، وآخرهم الملك عبدالله جد الملك حسين ملك الأردن السابق، الملك حسين الذي عاد وهو ميت كي يغير من ولي العهد وكي ينقلها من أخيه المتمرد قليلا إلى ابنه المتغرب بالكامل. عاد شبيه له، وكان الملك قد مات بالفعل في مستشفى البحرية الأمريكية.
عام 1935 كتب بن غوريون أن عرب فلسطين سيمثلون مشكلة لليهود بعد إنشاء إسرائيل. وأنه لا توجد دولة لاستيعابهم إلا العراق، التي يجب احتلالها وتقسيمها إلى ثلاثة أقسام: الشمال الكردي كي يناويء تركيا والجنوب الشيعي كي يناويء الخليج والقسم الأوسط للسنة العرب العراقيين، والذين سيظلون يشكلون تهديدا لإسرائيل، ولذلك ينبغي تهجير عرب فلسطين إلى وسط العراق لخلق حرب طائفية وعرقية بين سنة فلسطين وسنة العراق (كان الانقسام والتقسيم مخططا ومصنوعا بنفس منطق: إحنا شعب وهما شعب .. لينا رب وليهم رب .. وكانت أجهزة المخابرات هي الفاعل في الحالين) ..
***
مع نهاية الحرب العالمية الثانية كانت الرأسمالية تتبدّى بأقصى درجات وحشيتها .. ليس ضد أعدائهم فقط .. بل ضد بعضهم البعض،، وقررت أمريكا أن الأب العجوز:"أوروبا" يجب أن يموت وأنها يجب أن ترثه، وفي هذا الإطار تأتي كل الثورات والانقلابات العربية والتركية والإيرانية والهندية؟ الباكستانية، وما حدث في المغرب العربي.
***
لننس كل هذا الآن ولنتساءل تساؤلا غريبا هو: هل كان انقلاب (ثورة .. كي لا يتشنج أحد) 23 يوليو ممكنا؟ ولننس الآن أو حتى لننكر أن أبوتها مشكوك فيها .. ولنتناولها كناصريين (والعياذ بالله).
***
الثورة التي شبعت موتا ثم يخرجون جدثها المتعفن الآن وسط احتفاء الانقلابيين، في مشهد كريه ومقزز، كزنا المحارم، ومضاجعة الوداع، فالسلطة التي يصدر عنها كل هذا الضجيج والصخب والوله بثورة 23 يوليو أكثر فسادا وأنكى ظلما من ذلك الذي قامت الثورة للقضاء عليه.
نعم .. الاحتفاء الانقلابي بثورة 23 يوليو أشبه بقرصان أو مملوك قتل أستاذه .. وصنع من جمجمته قدحا يشرب فيه الخمر في مخازيه كل مساء .. فلما انقلب عليه غلمانه، وعاداه سادته وتنكر له أقرانه وفقد سطوته وسلطته، لم يجد إلا أستاذه القديم يتمسح في ذكراه ويحتفل بها.
***
إذ نتناول ثورة 23 يوليو، علينا أن نحذر من ذئب التفاصيل، وغواية الحكايات، وطوفان الأحداث، فكل ذلك كفيل بإغراقنا، وبحصارنا في أنفاق مسدودة، متناقضة، متضادة، حيث يتشبث كل منا بأن نفقه هو الذي يشكل المجرى الرئيسي لثورة 23 يوليو.
الغرق في التفاصيل قد يكون مغريا، لكنه في نفس الوقت يمنعنا من تكوين نظرة شاملة للأمر، لأي أمر، إذ يمكن أن ينقضي العمر كله ونحن نناقش التفاصيل، دون أن نصل إلى أي نتيجة، أو تصور كلّى.
لكن هذا لا يعني أن نندفع إلى الاختزال المخل، الذي قد ييسر لنا الوصول إلى تصور شامل كلي، وإلى إصدار أحكام قاطعة، تكون في أغلب الأحيان خاطئة.
بين هذا وذاك إذن يجب أن يكون أمرنا، ومن هذا المنطلق، فإننا نستطيع القول بأن ثورة 23 يوليو هي جمال عبدالناصر وأن جمال عبدالناصر هو ثورة 23 يوليو.
لن ندخل في التفاصيل، لن نهتم على سبيل المثال بما بعد جمال عبدالناصر، لأنه يشكل شيئا آخر، لا يهمنا الآن إن كان مناقضا، أو إن كان استمرارا، لن نهتم أيضا بإيجابيات الثورة ولا بسلبياتها، ولا بهزائمها وانتصاراتها، فقد قتل كل ذلك بحثا، وما من صواب قيل إلا وفيه باطل، وما من باطل قيل إلا وفيه بعض صواب.
لا يدخل في بحثنا هذا إذن قضايا جوهرية، كدور الثورة في التحرر من الإنكليز لصالح أمريكا، أو مسئوليتها عن الاحتلال الإسرائيلى. لن نتحدث عما أحدثته من انقلاب اجتماعي، ولا نحن سنتورط في الغرق في تفاصيل ما إذا كان هذا التحول خيرا أم شرا.
لن نتحدث حتى عن التعذيب، الجريمة التي لا تفوقها جريمة، ولا يمكن غفرانها أو الدفاع عنها. ولا نحن سنتحدث عن برامج التصنيع، والتحديث، وتفجير وعي العرب بهويتهم.
سوف نترك ذلك كله، فلقد تحدث غيرنا فيه، ربما بأفضل مما نستطيع ..
نتركه كله لنسأل سؤالا واحدا:
- هل كانت ثورة 23 يوليو ممكنة؟! ..
نعم، ذلك هو السؤال الذي لم نتطرق أبدا – فيما أعلم- إليه ..
***
لن نحاسب ثورة 23 يوليو إذن من خلال كل ما نسب إليها من انتصارات وانكسارات، ولا من مظالم وجرائم أو إنصاف وعدل. ولا نحن سنحاسبها عن تحقيق أهدافها، فقد تقصر الأعمار فلا تتسع لأمر جليل.
سوف نحاسبها بمعيار آخر، ولكي نصل إلى هذا المعيار سوف نتعسف فنفترض افتراضات مذهلة، سنفترض على سبيل المثال أن كل ما نسب إلى الثورة من جرائم لم يحدث، ولا أيضا هزيمة 67، وسوف نفترض أيضا تضاعف الإنجازات الإيجابية، وسوف نفترض أكثر من هذا كله أن جمال عبدالناصر لم يمت – أويقتل – عام 1970. وبعد كل هذه الافتراضات سوف يكون من حقنا أن نوجه السؤال:
- هل كانت ثورة 23 يوليو ممكنة؟! ..
وأعني بالسؤال: هل كان يمكن للثورة، مع كل هذه الافتراضات، أن تحقق الأهداف التي قامت لتحققها؟.
سوف نتجنب الأنياب البارزة المتلمظة لذئب التفاصيل مرة أخرى .. وسوف نصل إلى غايتنا مباشرة: هل كان يمكن لثورة 23 يوليو أن تحقق – في إطار رؤيتها النظرية وفلسفتها بغض النظر عن الاتفاق والاختلاف والتأييد أو العداوة وحتى الإيمان أو الكفر – الانتصار في معركتها تلك، بل هل كان يمكن أن تصل إلى نوع من التعايش المقبول بالحد الأدنى من القوة والكرامة.
لو افترضنا أن مصر كان يمكنها الانتصار على إسرائيل، فهل كان يمكنها الانتصار على أمريكا؟ وعلى الدول الأوروبية مجتمعة؟
***
كيف لم يدرك رائد القومية العربية أن القومية كلها فكرة غربية ومنهج صليبي ..
ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن زعيما بقامته وتأثيره قد فهم جوهر الصراع بين الحضارات وأدرك أبعاد الصراع بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية فاتخذ الإسلام سبيلا ومنهجا وحاديا وهاديا ..
كيف لم يدرك أن الصراع هو ما أنبأنا به المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن الغرب سيحاربنا كافة، وأن علينا أن نتجمع كافة لكي نستطيع مواجهته والانتصار عليه .. كافة .. ليس تحت راية وطنية ولا قومية وإنما تحت راية الإسلام.
***
بدت لي المسألة في غاية الوضوع فرحت أتساءل في ذهول: " كيف لم يرها؟" ..
لم تكفني الكتب فلجأت إلى رفاقه ..
السيد حسين الشافعي، نائب جمال عبدالناصر ورفيقه فاجأني في لقاءات شخصية بإجابة لم أتوقعها أبدا حين قال:
- سوف يثبت التاريخ أن ثورة 23 يولية كانت شتلات الصحوة الإسلامية التي ستنهض لمواجهة الغرب.
والحقيقة أنني لم أقتنع، رغم أني أحب الرجل وأحترمه كثيرا، وهو شديد التدين، وكان أيامها قد جاوز الثمانين، ولم يعد بهرج الدنيا ومغانمها عنده غاية.
سمعت أيضا من السيد أحمد طعيمة وزير الأوقاف السابق- وهو من الضباط الأحرار- والذي يقرر أن تصرفات الأحزاب السياسية مع عبدالناصر هي التي حولته من شخص يترسم خطى عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى طاغية .. لكنه امتدح إسلامه وإخلاصه كثيرا
استمعت أيضا إلى اللواء جمال ربيع، أحد الضباط الأحرار وزملاء جمال عبدالناصر ..
كان الرجل حادا جدا وهو يدين ثورة 23 يوليو وجمال عبدالناصر .. كان الرجل حادا حتى إنه أخرجه من زمرة المؤمنين .. وأخذ يحدثني عن إجرامه. وقلت له:
- ألا تظن أن أحاديث التعذيب في عهده مبالغ فيها؟ .. وأن الخلاف لم يكن بينه وبين الإسلام، وإنما بينه وبين بعض المسلمين؟ ..
وهنا صرخ الرجل:
- قم .. تعال إلى جواري .. ضع يدك على ظهري ..
ووضعت .. وليتنى ما وضعت .. لم تخف ملابسه من على ظهره كله تلك التضاريس المرعبة للندبة الهائلة المتصلة فكأنما افترسه وحش مسعور ..
اقشعر شعر رأسي هولا .. منعت صرخة وكبحت دمعة ودوى في أذني طنين كأنه أنين المعذبين وآهات المكروبين .. ومن خلف الدمعة والصرخة والطنين كان يأتيني صوته:
- هذه آثار التعذيب المتبقية بعد نصف قرن ..
كنا في شقته الفاخرة في جاردن سيتي في العمارة المعروفة بعمارة السعوديين أو عمارة بلمونت.
لم أسأله ولا أحمد طعيمة عن مصدر أموالهما .. فشقة كل واحد منهما على النيل مباشرة تساوي الملايين. أما فيلا حسين الشافعي على النيل بالقرب من قصر السادات ومنزل هيكل فقد كانت تساوي عشرات الملايين.
***
وجهت إلي رفاق عبدالناصر السؤال:
- هل كانت الثورة ممكنة؟
كان السيد حسين الشافعي فخورا بالثورة رغم كل ما حدث مؤكدا أنها غيرت، وستواصل تغيير وجه التاريخ.
كانت إجابة اللواء جمال ربيع حادة باترة أن الثورة كانت نكبة ..
ولقد اتفق معه - لدهشتي وأساي - الوزير أحمد طعيمة رغم اختلافهما حين قال:
- قد بكيت طويلا لأنني شاركت في الثورة التي وصلت بالوطن والأمة والنظام إلى ما صاروا إليه، ليتني ما شاركت فيها، ليتنا ما قمنا بها.
***
- هل كانت ثورة 23 يوليو ممكنة؟.
أحد الأصدقاء، وهو كاتب كبير، ومفكر بالغ العمق، ووطني من الطراز الأول، ومثقف حقيقي واسع الاطلاع، راح يتساءل أثناء حوارنا حول ثورة 23 يوليو:
- كيف تسأل إن كانت الثورة ممكنة أم غير ممكنة بينما هي قد قامت فعلا، ووجدت على الساحة وكان لها تأثيراتها الكبرى؟.
قلت للصديق:
- دعني كي أوضح نفسي أبدأ بطرفة، إذ يحكى أن شابا ذهب إلى شيخ المسجد ليسأله: يا مولانا: هل تنفع الصلاة بغير وضوء؟ وأجابه الشيخ على الفور: لا يا بني .. لا تنفع أبدا، وهنا فاجأه الشاب: يا مولانا، لقد جربت بنفسي: "بس أنا عملتها ونفعت"!! ..
لقد قام هذا الشاب بكل حركات الصلاة، وربما يكون من حق كل من شاهده أن يقسم أنه صلى، إلا أنه في الواقع لم يصل!! .. كذلك ثورة 23 يوليو، مارست كل طقوس الثورة لكنها في الواقع لم تقم.
دعنا من الرمز المكثف الآن من أن الصلاة لا تصلح دون وضوء، وكذلك الثورة ما كانت لتصلح دون وضوء، ودون مرجعية إسلامية كاملة ومهيمنة، فالأمة لن تحررها إلا الأيدي المتوضئة.
قلت للصديق أن ثورة يوليو 52 قد قامت على خلفية قصور شامل في إدراك التاريخ من ناحية، وواجبات العقيدة من ناحية أخرى.
لم تفطن الثورة إلى قاعدتين أساسيتين لم يكن لقيامها أن يصح بدونهما: أننا كما يقول القرآن أمة واحدة، وأن أعداءنا يقاتلوننا كافة، وأنه يجب علينا أن نقاتلهم كافة. تبنت الثورة فكرة القومية وهي فكرة غربية، يقول جارودي (الإسلام الحي - دار البيروني - بيروت) أنه ليس هناك فكرة مناقضة لعقلية الأمة الإسلامية أكثر منها، وهي فكرة تتناقض مع وحدة الإنسانية التي تعتبر المفتاح الرئيسي للنظرة الإسلامية للعالم. كانت القومية تمزيقا للأمة، وكانت مؤامرة غربية صليبية، وكانت شَركا وقعت فيه الثورة، وطعما ابتلعته، فما نجحت في إرساء الدولة القومية ولا هي سعت إلى وحدة الدولة الإسلامية. بل لقد استبعدت الدين أصلا كمحرك للصراع. وتجاهلت تاريخا طويلا مضمخا بالدم والمعارك.
كان مد العرب الحضاري قد توقف وقوتهم قد استنزفت في الانتصار على الصليبيين والتتار، وكان يمكن أن يكون مصيرنا كمصير الهنود الحمر وأهل استراليا الأصليين (فوحشية استعمار القرن الخامس عشر بالظروف العالمية المحيطة لم تكن كوحشية استعمار القرن العشرين) لولا أن قيّض الله الدولة العثمانية .. الدولة العثمانية التي ابتلعت ثورة 23 يوليو الطعم واعتبرتها رمزا للجمود والتخلف .. وكانت في ذلك متطابقة تطابقا مذهلا مع وجهة نظر أعدائنا .. امتصت الدولة العثمانية الهجمة الشرسة للقوة الغربية المفعمة بالحقد والوحشية والرغبة في الانتقام، بل وحققت الكثير من الانتصارات، وكبحت سرعة الانهيار، وأجلت احتلال بلادنا ثلاثة قرون على الأقل.
لو أن المسألة كانت تنحصر في هزيمة 48 وإسرائيل لكانت مصر بالثورة كافية لهزيمتها .. لكنها كانت حربا شاملة لم تدرك الثورة أبعادها فلم تستعد لها كما يجب.
لم يكن الأمر يتعلق بعام 67 (حيث الهزيمة المذلة المهينة) ولا بعام 48 (حيث الهزيمة الأكثر إذلالا ومهانة) بل كان يتعلق بألف وخمسمائة عام من المواجهة، ظلت لنا فيها السيادة والانتصار ألف عام ثم بدأت الهزائم. ولم تكن 67 و48 إلا امتدادا لما حدث فى31 (عمر المختار) وفي 29 (ضم طاجكستان المسلمة إلى الاتحاد السوفيتى) وفي 25 (ضم جمهورية تركمانستان وجمهورية أوزبكستان إلى الاتحاد السوفيتى) وفي 24 (إلغاء الخلافة) وفي 22 (استشهاد أنور باشا وهزيمة المسلمين في آسيا الوسطى التي احتلها الروس البرابرة) وفي 20 (غورو يغزو دمشق صائحا: ها قد عدنا يا صلاح الدين) .. وفي 17 (وعد بلفور واحتلال القدس وبغداد) وفي 16 (الروس يقتلون 150000 مسلم في قيزغيزيا) وفي 16 (سايكس بيكو)، وفي 1911 (احتلال ليبيا- إيطاليا) وفي 8 (احتلال فاس بالمغرب - فرنسا) وفي 3 (احتلال موريتانيا - فرنسا) وفي 1899 (احتلال الكويت - بريطانيا) وفي 1892 (احتلال مسقط والبحرين - بريطانيا) وفي 1890 (احتلال تركستان الغربية - روسيا) وفي 1882 (أحمد عرابى) وفي 1881 (الفرنسيون يحتلون تونس ويذبحون 60000 جزائرى مسلم) وفي 1878 (احتلال سمرقند وبخارى وطشقند - روسيا) وفي 1878 (احتلال إريتريا - إيطاليا) وفي 1887 أيضا (احتلال البوسنة والهرسك - النمسا .. وولاية بيساربيا - روسيا) وفي 1864 (احتلال القفقاس - روسيا) وفي 1866 (احتلال إمارات الخليج - بريطانيا) وفي 1858 (البحرية الإنكليزية والفرنسية تقصف جدة فتقتل المئات) وفي عام 1840 (فصل الشام عن مصر) وفي عام 1839 (الألمان يطردون العثمانيين من بلجراد) وفي 1839 (احتلال عدن - بريطانيا) وفي 1830 (احتلال الجزائر - فرنسا) وفي 1830 (الجيش الهولندى يذبح 200000 مسلم في إندونيسيا بعد استيلائه على الفليبين) وفي عام 1827 (أوروبا تحطم جيش محمد على في ثلاث ساعات في نافارين) وفي 1827 (انفصال اليونان عن الدولة العثمانية) وفى1820 (احتلال مسقط – بريطانيا) وفى عام 1809 (الأسطول البريطانى يدمر رأس الخيمة) وفي عام 1807 (حملة فريرز على مصر) وفي 1799 (احتلال مصر - فرنسا) وفي عام 1774 (احتلال شبه جزيرة القرم وبحر أزوف والمناطق الشمالية للبحر الأسود ثم سلوفينيا - روسيا) وفي عام 1724 (احتلال مناطق بحر قزوين - روسيا)وفى عام 1699: (انفصال المجر وأوكرانيا وترانسفاليا عن الدولة العثمانية) وفي عام 1687 (انفصال المجر وقبلها مقاطعة كييف) وفي 1683 (تحالف ألمانيا والنمسا وفك الحصار العثمانى على فيينا) وفي عام 1658 (هزيمة آخر ثورة للمسلمين في الأندلس حين أصدر فيليب الثانى أمرا بذبح كل مسلم فوق سن الرابعة عشرة) وفي عام 1569 (صدور فرمان بتحريم الشعائر الإسلامية وتنصير المسلمين) وفي عام 1529 (حرق المسلمين الذين تنصروا بتهمة عدم التنصر الكامل) .. وفي عام 1517 (انتهاء الخلافة العباسية رسميا) وفي عام 1492 (آخر ملوك غرناطة يتركها ذليلا باكيا كالنساء ملكا لم يحافظ عليه كالرجال) و… و… و…
***
لو أدركت ثورة 23 يوليو أن معركتها مع الحضارة الوثنية التي تتستر بالصليب لاختلفت حساباتها ..
لو أدركت أنها مواجهة شاملة بين الإيمان والكفر لاختلف الأمر ..
لو أنها توضأت لقبلت صلاتها .. !!
نعم .. لم تقم ثورة 23 يوليو .. وأي ثورة لا تضع في حسبانها شمول المعركة وهيمنة العقيدة إنما هي صلاة .. لكن بغير وضوء.
***
ارفع اسم عبدالناصر وضع مكانه نموذجا شائها مثل حمدين صَبَاحي ..
أو نموذجا مثل عبدالفتاح السيسي يحاولون صناعة "كارزمية" عبدالناصر فيه .. ليكون الفارق بينهما كالفارق بين البطل والشبيه "الدوبلير" وفي كلٍّ شر.
وستدرك أيضا حتمية الفشل وحتمية الكوارث القادمة على يد الانقلاب.
ستدرك أن السبيل الوحيد للانعتاق هو الإسلام .. وأن الإسلام هو الثورة ..
ودونه انقلابات خائنة يصنعها الصليبيون واليهود ..
وأن ذلك تبدّى أكثر ما تبدّى في الانقلاب الأخير. انقلاب الكنيسة على المسجد .. والأحد على الجمعة .. والنصارى على المسلمين .. وقيام أجهزة مخابرات تتحرك بالريموت كنترول بصناعة فتنة هائلة وتقسيم شعب واغتيال أمة.
***
ما زلنا في البداية .. فانتظرونا!!
لا يدخل في بحثنا هذا إذن قضايا جوهرية، كدور الثورة في التحرر من الإنكليز لصالح أمريكا، أو مسئوليتها عن الاحتلال الإسرائيلى. لن نتحدث عما أحدثته من انقلاب اجتماعي، ولا نحن سنتورط في الغرق في تفاصيل ما إذا كان هذا التحول خيرا أم شرا.
لن نتحدث حتى عن التعذيب، الجريمة التي لا تفوقها جريمة، ولا يمكن غفرانها أو الدفاع عنها. ولا نحن سنتحدث عن برامج التصنيع، والتحديث، وتفجير وعي العرب بهويتهم.
سوف نترك ذلك كله، فلقد تحدث غيرنا فيه، ربما بأفضل مما نستطيع ..
نتركه كله لنسأل سؤالا واحدا:
- هل كانت ثورة 23 يوليو ممكنة؟! ..
نعم، ذلك هو السؤال الذي لم نتطرق أبدا – فيما أعلم- إليه ..
***
لن نحاسب ثورة 23 يوليو إذن من خلال كل ما نسب إليها من انتصارات وانكسارات، ولا من مظالم وجرائم أو إنصاف وعدل. ولا نحن سنحاسبها عن تحقيق أهدافها، فقد تقصر الأعمار فلا تتسع لأمر جليل.
سوف نحاسبها بمعيار آخر، ولكي نصل إلى هذا المعيار سوف نتعسف فنفترض افتراضات مذهلة، سنفترض على سبيل المثال أن كل ما نسب إلى الثورة من جرائم لم يحدث، ولا أيضا هزيمة 67، وسوف نفترض أيضا تضاعف الإنجازات الإيجابية، وسوف نفترض أكثر من هذا كله أن جمال عبدالناصر لم يمت – أويقتل – عام 1970. وبعد كل هذه الافتراضات سوف يكون من حقنا أن نوجه السؤال:
- هل كانت ثورة 23 يوليو ممكنة؟! ..
وأعني بالسؤال: هل كان يمكن للثورة، مع كل هذه الافتراضات، أن تحقق الأهداف التي قامت لتحققها؟.
سوف نتجنب الأنياب البارزة المتلمظة لذئب التفاصيل مرة أخرى .. وسوف نصل إلى غايتنا مباشرة: هل كان يمكن لثورة 23 يوليو أن تحقق – في إطار رؤيتها النظرية وفلسفتها بغض النظر عن الاتفاق والاختلاف والتأييد أو العداوة وحتى الإيمان أو الكفر – الانتصار في معركتها تلك، بل هل كان يمكن أن تصل إلى نوع من التعايش المقبول بالحد الأدنى من القوة والكرامة.
لو افترضنا أن مصر كان يمكنها الانتصار على إسرائيل، فهل كان يمكنها الانتصار على أمريكا؟ وعلى الدول الأوروبية مجتمعة؟
***
كيف لم يدرك رائد القومية العربية أن القومية كلها فكرة غربية ومنهج صليبي ..
ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن زعيما بقامته وتأثيره قد فهم جوهر الصراع بين الحضارات وأدرك أبعاد الصراع بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية فاتخذ الإسلام سبيلا ومنهجا وحاديا وهاديا ..
كيف لم يدرك أن الصراع هو ما أنبأنا به المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن الغرب سيحاربنا كافة، وأن علينا أن نتجمع كافة لكي نستطيع مواجهته والانتصار عليه .. كافة .. ليس تحت راية وطنية ولا قومية وإنما تحت راية الإسلام.
***
بدت لي المسألة في غاية الوضوع فرحت أتساءل في ذهول: " كيف لم يرها؟" ..
لم تكفني الكتب فلجأت إلى رفاقه ..
السيد حسين الشافعي، نائب جمال عبدالناصر ورفيقه فاجأني في لقاءات شخصية بإجابة لم أتوقعها أبدا حين قال:
- سوف يثبت التاريخ أن ثورة 23 يولية كانت شتلات الصحوة الإسلامية التي ستنهض لمواجهة الغرب.
والحقيقة أنني لم أقتنع، رغم أني أحب الرجل وأحترمه كثيرا، وهو شديد التدين، وكان أيامها قد جاوز الثمانين، ولم يعد بهرج الدنيا ومغانمها عنده غاية.
سمعت أيضا من السيد أحمد طعيمة وزير الأوقاف السابق- وهو من الضباط الأحرار- والذي يقرر أن تصرفات الأحزاب السياسية مع عبدالناصر هي التي حولته من شخص يترسم خطى عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى طاغية .. لكنه امتدح إسلامه وإخلاصه كثيرا
استمعت أيضا إلى اللواء جمال ربيع، أحد الضباط الأحرار وزملاء جمال عبدالناصر ..
كان الرجل حادا جدا وهو يدين ثورة 23 يوليو وجمال عبدالناصر .. كان الرجل حادا حتى إنه أخرجه من زمرة المؤمنين .. وأخذ يحدثني عن إجرامه. وقلت له:
- ألا تظن أن أحاديث التعذيب في عهده مبالغ فيها؟ .. وأن الخلاف لم يكن بينه وبين الإسلام، وإنما بينه وبين بعض المسلمين؟ ..
وهنا صرخ الرجل:
- قم .. تعال إلى جواري .. ضع يدك على ظهري ..
ووضعت .. وليتنى ما وضعت .. لم تخف ملابسه من على ظهره كله تلك التضاريس المرعبة للندبة الهائلة المتصلة فكأنما افترسه وحش مسعور ..
اقشعر شعر رأسي هولا .. منعت صرخة وكبحت دمعة ودوى في أذني طنين كأنه أنين المعذبين وآهات المكروبين .. ومن خلف الدمعة والصرخة والطنين كان يأتيني صوته:
- هذه آثار التعذيب المتبقية بعد نصف قرن ..
كنا في شقته الفاخرة في جاردن سيتي في العمارة المعروفة بعمارة السعوديين أو عمارة بلمونت.
لم أسأله ولا أحمد طعيمة عن مصدر أموالهما .. فشقة كل واحد منهما على النيل مباشرة تساوي الملايين. أما فيلا حسين الشافعي على النيل بالقرب من قصر السادات ومنزل هيكل فقد كانت تساوي عشرات الملايين.
***
وجهت إلي رفاق عبدالناصر السؤال:
- هل كانت الثورة ممكنة؟
كان السيد حسين الشافعي فخورا بالثورة رغم كل ما حدث مؤكدا أنها غيرت، وستواصل تغيير وجه التاريخ.
كانت إجابة اللواء جمال ربيع حادة باترة أن الثورة كانت نكبة ..
ولقد اتفق معه - لدهشتي وأساي - الوزير أحمد طعيمة رغم اختلافهما حين قال:
- قد بكيت طويلا لأنني شاركت في الثورة التي وصلت بالوطن والأمة والنظام إلى ما صاروا إليه، ليتني ما شاركت فيها، ليتنا ما قمنا بها.
***
- هل كانت ثورة 23 يوليو ممكنة؟.
أحد الأصدقاء، وهو كاتب كبير، ومفكر بالغ العمق، ووطني من الطراز الأول، ومثقف حقيقي واسع الاطلاع، راح يتساءل أثناء حوارنا حول ثورة 23 يوليو:
- كيف تسأل إن كانت الثورة ممكنة أم غير ممكنة بينما هي قد قامت فعلا، ووجدت على الساحة وكان لها تأثيراتها الكبرى؟.
قلت للصديق:
- دعني كي أوضح نفسي أبدأ بطرفة، إذ يحكى أن شابا ذهب إلى شيخ المسجد ليسأله: يا مولانا: هل تنفع الصلاة بغير وضوء؟ وأجابه الشيخ على الفور: لا يا بني .. لا تنفع أبدا، وهنا فاجأه الشاب: يا مولانا، لقد جربت بنفسي: "بس أنا عملتها ونفعت"!! ..
لقد قام هذا الشاب بكل حركات الصلاة، وربما يكون من حق كل من شاهده أن يقسم أنه صلى، إلا أنه في الواقع لم يصل!! .. كذلك ثورة 23 يوليو، مارست كل طقوس الثورة لكنها في الواقع لم تقم.
دعنا من الرمز المكثف الآن من أن الصلاة لا تصلح دون وضوء، وكذلك الثورة ما كانت لتصلح دون وضوء، ودون مرجعية إسلامية كاملة ومهيمنة، فالأمة لن تحررها إلا الأيدي المتوضئة.
قلت للصديق أن ثورة يوليو 52 قد قامت على خلفية قصور شامل في إدراك التاريخ من ناحية، وواجبات العقيدة من ناحية أخرى.
لم تفطن الثورة إلى قاعدتين أساسيتين لم يكن لقيامها أن يصح بدونهما: أننا كما يقول القرآن أمة واحدة، وأن أعداءنا يقاتلوننا كافة، وأنه يجب علينا أن نقاتلهم كافة. تبنت الثورة فكرة القومية وهي فكرة غربية، يقول جارودي (الإسلام الحي - دار البيروني - بيروت) أنه ليس هناك فكرة مناقضة لعقلية الأمة الإسلامية أكثر منها، وهي فكرة تتناقض مع وحدة الإنسانية التي تعتبر المفتاح الرئيسي للنظرة الإسلامية للعالم. كانت القومية تمزيقا للأمة، وكانت مؤامرة غربية صليبية، وكانت شَركا وقعت فيه الثورة، وطعما ابتلعته، فما نجحت في إرساء الدولة القومية ولا هي سعت إلى وحدة الدولة الإسلامية. بل لقد استبعدت الدين أصلا كمحرك للصراع. وتجاهلت تاريخا طويلا مضمخا بالدم والمعارك.
كان مد العرب الحضاري قد توقف وقوتهم قد استنزفت في الانتصار على الصليبيين والتتار، وكان يمكن أن يكون مصيرنا كمصير الهنود الحمر وأهل استراليا الأصليين (فوحشية استعمار القرن الخامس عشر بالظروف العالمية المحيطة لم تكن كوحشية استعمار القرن العشرين) لولا أن قيّض الله الدولة العثمانية .. الدولة العثمانية التي ابتلعت ثورة 23 يوليو الطعم واعتبرتها رمزا للجمود والتخلف .. وكانت في ذلك متطابقة تطابقا مذهلا مع وجهة نظر أعدائنا .. امتصت الدولة العثمانية الهجمة الشرسة للقوة الغربية المفعمة بالحقد والوحشية والرغبة في الانتقام، بل وحققت الكثير من الانتصارات، وكبحت سرعة الانهيار، وأجلت احتلال بلادنا ثلاثة قرون على الأقل.
لو أن المسألة كانت تنحصر في هزيمة 48 وإسرائيل لكانت مصر بالثورة كافية لهزيمتها .. لكنها كانت حربا شاملة لم تدرك الثورة أبعادها فلم تستعد لها كما يجب.
لم يكن الأمر يتعلق بعام 67 (حيث الهزيمة المذلة المهينة) ولا بعام 48 (حيث الهزيمة الأكثر إذلالا ومهانة) بل كان يتعلق بألف وخمسمائة عام من المواجهة، ظلت لنا فيها السيادة والانتصار ألف عام ثم بدأت الهزائم. ولم تكن 67 و48 إلا امتدادا لما حدث فى31 (عمر المختار) وفي 29 (ضم طاجكستان المسلمة إلى الاتحاد السوفيتى) وفي 25 (ضم جمهورية تركمانستان وجمهورية أوزبكستان إلى الاتحاد السوفيتى) وفي 24 (إلغاء الخلافة) وفي 22 (استشهاد أنور باشا وهزيمة المسلمين في آسيا الوسطى التي احتلها الروس البرابرة) وفي 20 (غورو يغزو دمشق صائحا: ها قد عدنا يا صلاح الدين) .. وفي 17 (وعد بلفور واحتلال القدس وبغداد) وفي 16 (الروس يقتلون 150000 مسلم في قيزغيزيا) وفي 16 (سايكس بيكو)، وفي 1911 (احتلال ليبيا- إيطاليا) وفي 8 (احتلال فاس بالمغرب - فرنسا) وفي 3 (احتلال موريتانيا - فرنسا) وفي 1899 (احتلال الكويت - بريطانيا) وفي 1892 (احتلال مسقط والبحرين - بريطانيا) وفي 1890 (احتلال تركستان الغربية - روسيا) وفي 1882 (أحمد عرابى) وفي 1881 (الفرنسيون يحتلون تونس ويذبحون 60000 جزائرى مسلم) وفي 1878 (احتلال سمرقند وبخارى وطشقند - روسيا) وفي 1878 (احتلال إريتريا - إيطاليا) وفي 1887 أيضا (احتلال البوسنة والهرسك - النمسا .. وولاية بيساربيا - روسيا) وفي 1864 (احتلال القفقاس - روسيا) وفي 1866 (احتلال إمارات الخليج - بريطانيا) وفي 1858 (البحرية الإنكليزية والفرنسية تقصف جدة فتقتل المئات) وفي عام 1840 (فصل الشام عن مصر) وفي عام 1839 (الألمان يطردون العثمانيين من بلجراد) وفي 1839 (احتلال عدن - بريطانيا) وفي 1830 (احتلال الجزائر - فرنسا) وفي 1830 (الجيش الهولندى يذبح 200000 مسلم في إندونيسيا بعد استيلائه على الفليبين) وفي عام 1827 (أوروبا تحطم جيش محمد على في ثلاث ساعات في نافارين) وفي 1827 (انفصال اليونان عن الدولة العثمانية) وفى1820 (احتلال مسقط – بريطانيا) وفى عام 1809 (الأسطول البريطانى يدمر رأس الخيمة) وفي عام 1807 (حملة فريرز على مصر) وفي 1799 (احتلال مصر - فرنسا) وفي عام 1774 (احتلال شبه جزيرة القرم وبحر أزوف والمناطق الشمالية للبحر الأسود ثم سلوفينيا - روسيا) وفي عام 1724 (احتلال مناطق بحر قزوين - روسيا)وفى عام 1699: (انفصال المجر وأوكرانيا وترانسفاليا عن الدولة العثمانية) وفي عام 1687 (انفصال المجر وقبلها مقاطعة كييف) وفي 1683 (تحالف ألمانيا والنمسا وفك الحصار العثمانى على فيينا) وفي عام 1658 (هزيمة آخر ثورة للمسلمين في الأندلس حين أصدر فيليب الثانى أمرا بذبح كل مسلم فوق سن الرابعة عشرة) وفي عام 1569 (صدور فرمان بتحريم الشعائر الإسلامية وتنصير المسلمين) وفي عام 1529 (حرق المسلمين الذين تنصروا بتهمة عدم التنصر الكامل) .. وفي عام 1517 (انتهاء الخلافة العباسية رسميا) وفي عام 1492 (آخر ملوك غرناطة يتركها ذليلا باكيا كالنساء ملكا لم يحافظ عليه كالرجال) و… و… و…
***
لو أدركت ثورة 23 يوليو أن معركتها مع الحضارة الوثنية التي تتستر بالصليب لاختلفت حساباتها ..
لو أدركت أنها مواجهة شاملة بين الإيمان والكفر لاختلف الأمر ..
لو أنها توضأت لقبلت صلاتها .. !!
نعم .. لم تقم ثورة 23 يوليو .. وأي ثورة لا تضع في حسبانها شمول المعركة وهيمنة العقيدة إنما هي صلاة .. لكن بغير وضوء.
***
ارفع اسم عبدالناصر وضع مكانه نموذجا شائها مثل حمدين صَبَاحي ..
أو نموذجا مثل عبدالفتاح السيسي يحاولون صناعة "كارزمية" عبدالناصر فيه .. ليكون الفارق بينهما كالفارق بين البطل والشبيه "الدوبلير" وفي كلٍّ شر.
وستدرك أيضا حتمية الفشل وحتمية الكوارث القادمة على يد الانقلاب.
ستدرك أن السبيل الوحيد للانعتاق هو الإسلام .. وأن الإسلام هو الثورة ..
ودونه انقلابات خائنة يصنعها الصليبيون واليهود ..
وأن ذلك تبدّى أكثر ما تبدّى في الانقلاب الأخير. انقلاب الكنيسة على المسجد .. والأحد على الجمعة .. والنصارى على المسلمين .. وقيام أجهزة مخابرات تتحرك بالريموت كنترول بصناعة فتنة هائلة وتقسيم شعب واغتيال أمة.
***
ما زلنا في البداية .. فانتظرونا!!
صراع اليأس والأمل في العام الجديد
|
أبعاد الوفاق الإيراني العالمي
أبعاد الوفاق الإيراني العالمي
محمد الأحمري
تمهيد
ليس بالإمكان تجاهل الحدث أوالحفلة الكبيرة التي هزت الدبلوماسية العالمية ومنطقتنا،التي كان لها النصيب الأكبر من وقع وآثار الاتفاق الإيراني مع العالم في فجر يوم 24 نوفمبر 2013م، ورغم التمهيد الذي سبق إعلان الاتفاق بنحو شهرين ثم تصاعد تأكيده حتى اللحظة الأخيرة؛ فإن التوقيع نفسه والحدث الأهم كان في اللحظات الأخيرة، وكانت تجري أثناء المفاوضات الأخيرة عمليات خداع، وتطمينات وتمويهات على منطقة الخليج، ما أربكها وقسمها وكشف لها ترهل سياستها.
وفي هذه الورقة نجول في جوانب عديدة من جوانب الاتفاق، و تفاعلاته، وما نتوقع له من آثار قريبة وبعيدة، ولا شك أن التمنيات تختلط بالمحاذير عند الجميع، ولكنها فرصة لتفهم الكثير من مشكلاتنا قبل التركيز على مشكلات الآخرين.
نظرا لوجود قضايا عديدة في الاتفاق وفي آثاره بشكل خاص؛ فقد حاولت جعل ذلك في نقاط لو قُرئت إحداها منفصلة عن الأخرى؛ فإنها غالبا تحمل فكرة مستقلة عن سواها، وسيكون النص متعبا لو سُرد دون فواصل بين قضاياه.
1
2
هناك تحول أمريكي من فكرة الهيمنة العسكرية المباشرة إلى التوجه الدبلوماسي الأقل عسكرة في المنطقة، بل في العالم، وذلك بسبب التكاليف المادية الهائلة، وبسبب الآثار المعنوية والصورة القبيحة عن أمريكا التي اقتنع بها العالم الإسلامي وغيره في زماننا، وارتفاع مؤشر الكراهية في العالم، وإن كان تراخي الحروب أعاد لها بعض السمعة، ولكن تراجع الاقتصاد أبقى مؤشر الشك عاليا، ونظرا لوجود أصوات إنسانية وتحررية بدأت تغزو الديموقراطيين وتكلف الجمهوريين في داخل الولايات المتحدة، ومع أن حكمة القوة:” أن تكون مخوفا خير من أن تكون مقدرا ومحترما” لكن السنين الأخيرة أوْدت بالقوة وبالاحترام معا. وهذا معناه ترتيب عام جديد في العلاقات، لا يقوم على بقاء توتر بين عدو وصديق للامبراطورية، ولكن الهدف وجود توتر متوازن ومخوفٍ بين رعايا الامبراطور، فلا تقدُّم ولا تقريب لطائفة منهم إلا بمقدار المساهمة في خدمة الامبراطورية.
3
هناك طاقم إيراني جديد أقل تشددا من طاقم الحكومة السابق، وهو أقرب للغرب من سابقه، وروحاني ينتمي إلى تيار مرن ومطلع على العالم، وميال إلى مكانة لبلده في الغرب، ومعجببه، والذين قالوا عنه إنه “جورباتشوف إيران” لم يكونوا واقعيين؛ فليس في إيران تلك الحالة الهائمة بإنهاء النظام، وروحاني من القيادة السابقة. وليس مثل السادات؛ لأن السادات كان مرتبطا بالغرب زمنا قبل وصوله، ولم يكن فوق السادات قيادة أعلى بينما في إيران هناك حدود لما يمكن لمثل روحاني أن يفعل؛ ذاك أن المرشد أعلى منه، ومجلس تشخيص مصلحة النظام، وهناك برلمان. لذا فتفهُّم الحال السياسي الإيراني الداخلي مهم قبل أن ننشغل بالمقارنات التي قد لا توصلنا إلى نتيجة. بل لا يهم حتى أن نحرص على المفارقة المميزة لهم عن غيرهم؛ فالفقر يعصف بهم كما عصف بروسيا؛ ولأن حكام إيران خليط من اليسار الإسلامي، الذي يحمل أثقال الفترة السوفيتية أو الحرب الباردة، وطبقة جديدة نشأت من تحولات يمينة وتجارية أصابت رؤوسا اغتنت من الثورة والثروة التي تسلطت عليها.
4
هناك رؤية استراتيجية مضادة لحلفاء الغرب في المنطقة من داخل المؤسسات الأمريكية، وقد عمِلَ خبراءُ إيرانيون مؤثرون أو موالون لإيران ولما يسمونه “القوة الشيعية” المؤثرة الموثوقة في العالم ضد الأغلبية السنية المعادية وغير الموثوقة، وهم يستعيدون هذه النظرية من رصيد التاريخ ومن جغرافية المكان، وبعض هؤلاء المنظرين أصواتهم مسموعة في مواقع مؤثرة مثل والي نصر، عميد كلية الدراسات المتقدمة في جامعة جون هوبكنز، وهو منصب تولاه من قبل بول وولفوتز، وشخصيات مؤثرة أخرى. وعمل والي من قبل في إحدى كليات الحرب، وهو ابن المفكر الصوفي حسين نصر ، المدير السابق لجامعة طهران، وفي كتابه “انبعاث الشيعة” أسس لنظرية تحويل الثقة والولاء من السنة إلى الشيعة. ولا يبدو أن هذه نظرية تصلح الآن للاتباع، ولكنها تستحق الاهتمام، أو على الأقل الاستفادة منها.
5
الاتفاق يعترف في النهاية بإيران كقوة نووية سلمية، وينهي الجدل حول هذا، ويبقي التسلح النووي محرما، والعقوبات باقية لم تنته، مع سماح بسبعة مليارات تتسلمها إيران من ثمن النفط ومبالغ متخلفة عند دول مختلفة أوقفها الحصار، ويعد الاتفاق بمزيد من العقوبات لو تبينت مخالفة للاتفاق لاحقا، وهذه الخطوة الأولى التي ما كان يمكن لإيران التخلي عنها، وهي معلنة من قبل، خاصة بعد إنفاقها ما يقرب من مائتي مليار دولار على المشروع النووي ومعاناتها مقاطعة طويلة قاسية ومدمرة للاقتصاد، بالإضافة إلى شعور إيران بأن هذا البرنامج رمز للهيبة وللعزة الوطنية فلا يمكن لأي حكومة في طهران أن تتنازل عنه، بدا ذلك في حديث أوباما أنه:”من غير الواقعي اعتقاد أن إيران ستوقف برنامجها النووي وتفككه بالكامل إذا استمر تشديد نظام العقوبات الناجح ولم يتم إعطاء المحادثات فرصة للنجاح”.
6
من المهم ملاحظة أن الاتفاق الذي وقّع مع إيران من طرف والطرف الآخر هو مجلس الأمن:الخمس دول وألمانيا، يعطي قوة لموقف الطرفين، وفي حال الخلاف مستقبلا حول الاتفاق قد تنحاز لاحقا حكومات إلى إيران وتمنع أمريكا وإسرائيل من عمل منفرد ضدها؛ لأن ذلك سيكون خلافا في التفاصيل، وهم حققوا كسرا لموقف دولي ونقلوه إلى حالة أخرى، ويرى آخرون أن هذا الاتفاق ليس هينا بل بالعكس؛ يجعل الصين وروسيا أقسى على إيران لو تبين أن لها برنامجا مختلفا، ثم إن إيجابيات الاتفاق عند كثير من الغربيين أحسن من سلبياته.
7
الاتفاق والمفاوضات تمّت على مدى نحو عام، وبعضهم يقصر ذلك على فترة روحاني، وكانت المفاوضات مجهدة، ونفذت الاتفاق شخصيات عديدة ذات قدرات وتأهيل من الطرفين، منهم عدد من ذوي المهارة السياسية والقانونية والتقنية، ما ينبه إلى أن الحكومات التي تفتقر إلى طواقم واسعة وكثيرة تخسر على كل صعيد في السلم والحرب والوفاق والخلاف. وقد أظهرت إيران رغم المقاطعة جيلا مؤهلا، فكلما خرج وزير خارجية بعد زمن قصير أخرجوا بعده آخر أقدر من سابقه.
8
كشفت إيران عن وجود رؤية ولا أقول “خطة” مستقبلية للمنطقة، ورؤية للتعامل مع عرب الخليج، أو على الأقل فكرة تخفف الأزمة ولو مؤقتا، وذلك ما أشار إليه مقال وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف الموجه إلى حكومات الخليج، وهو مقال يستحق القراءة؛ فهو يدعو لوجود أو إنشاء “منظومة” جديدة في منطقة الخليج، واستعمل كل طريقة ممكنة في مقالته للتخلص من ذكر اسم “الخليج العربي”ولم يستخدم “الفارسي”؛ ليطالب باتحاد جديد يشمل الدول الثمان المطلة على الخليج، ويعظ بمواعظ لحْنها جميل، وحقيقتها تستحق المعرفة لا في النيات ولكن في الأعمال.
9
رسالة ظريف المذكورة رسالة طمأنة، وزيارة كيري لبعض الحكومات حملت نفس الرسالة “طمأنة” ولا يرى كثير من المتابعين معنى “الطمأنة” وأنها مجرد تهدئة لهلع الخائفين، ولمن لم يستعد ليوم خروجه عاريا للواقع دون حماية أمريكية، ليقع بعدها تحت حماية وتطمين إسرائيلي وهذه الطمأنة هي عين الخوف، وقصة الطمأنة تحمل رسالة واحدة: أن من خاف من شعبه و جعله مصدر الشر الأعظم فلا محيد له من أن يقف شحاذا لأمنه من عداته، ومن كارهيه ومن الشامتين به. وسياسة بعض الحكومات صريحة -دائما وبلا تعديل ولو شكليّا- في خصومتها ومخالفتها لمصالح الشعوب، ولكل حكومة يأتي بها شعب، أو يختارها وينتخبها.
إسرائيل تستفيد من بقاء النقاش عن السلاح النووي على أرض الآخرين، وتطالب بمواقف جذرية فيما يخص غيرها، وقد صرح نتن ياهو بأن الاتفاق ما هو إلا “خطأ تاريخي”، وإن كان من اتفاق فنموذج ليبيا أو كما صرح أحدهم: “نريد ليبيا” لأنها سلمت كل شيء يخص مشروعها النووي، فهي الأنموذج الذي تريده إسرائيل من إيران. وتلك مزايدة على ضجةٍ لتصرف العين عن عملها الذي يطور ما يزيد عن 200 رأس نووي، كما في بعض التقديرات، ولديها أكثر من 400 طائرة مقاتلة.
10
توجه وزير الخارجية الأمريكية كيري لتطمين إسرائيل قبل التوقيع، ثم توجه للإمارات بعده، ولم يقم بتطمين آخرين، وكأن وعود نتن ياهو كافية بأن لا يخاف الخليجيون من الصفقة، وادعى لهم أن بيده الكونجرس والجمهوريين والآي باك “أحد أهم اللوبيات الصهيونية الأمريكية” والإعلام، وبقايا المحافظين الجدد، ولم يخبرهم بالصلاحيات التنفيذية العاجلة التي يمنحها الكونجرس للرئيس في هذا الجانب، ولكن هذا الحشد التطميني الإسرائيلي أغوى عن عدة حقائق، أولها أن نتن ياهو مطلع أكثر هو وحكومته على تفصيلات عديدة في الاتفاق لا ينقلها للعرب، كما قد تلتزم أمريكا بوجود مفتشين يهود من جمهور مفتشي المواقع الإيرانية.
كما أن كراهية نتن ياهو لأوباما لا تعني تحكمه في مصير أمريكا مهما كانت قوة اليهود هناك، فهناك قوى يهودية في أمريكا وإسرائيل تكرهه، وتكره حكومته وتطرفها وترى أنها تضر بإسرائيل وأمريكا، ولن تؤمّن إسرائيل الحاكم العربي من الشعب ولا من الخارج، فإن كانت أمريكا تخلت، فإن يهود إن تولوا حماية حكام عرب فسيأخذون كل شيء، ولا يعطون، وسوف يبتزونهم بحجة الحماية أكثر مما ابتزتهم أمريكا، ويجندونهم ضد قضاياهم مثل قضية فلسطين، كما حدث في مذابح غزة عندما وقف عرب معها في المذبحة الجريمة 2008-2009. وإسرائيل العدو القريب الفقير الطامع المستعمر المتوسع، الذي استولى على جزر خليجية.
أما فرنسا التي أظهرت ميلا في البداية للمواقف الخليجية والإسرائيلية من الاتفاق لأسباب عديدة -منها مساعدات مالية خليجية أثناء غزوها لمالي- فإنها بادرت للحصول على ثمن مجاملتها عقودا وبيع أسلحة لتعوض ما يمكن أن يكون تجافيا إيرانيا مستقبليا للتجارة معها.
11
الاتفاق أعطى ملاحظة مهمة أن سلاح الدمار الشامل يعطي حماية ومهابة، ونعلم أن جولدا مائير جهزت السلاح النووي عام 1973 لمواجهة مصر وسورية، لولا أن أمريكا أغدقت عليها بجسر دائم من السلاح التقليدي والأحدث، والنووي أعظم الأسلحة مهابة ونفوذا في عالمنا، ومفيد جدا لمن يملكه -رغم شروره-، وإن أسلحة الدمار الشامل تحمي صاحبها، أو تؤجل سقوطه، أو يبادل بها، فحتى بشار كسب به زمنا لا ندري مدى طوله، بعد استخدام الكيماوي ضد الشعب، ولكن تنازله عنه أعطاه وقتا وتأجيلا لمصيره، وكذا غيره من قبله، فقد نال القذافي استقراره عشر سنوات حكم إضافية بعد تخليه عن النووي، وهنا ملاحظة مهمة وهي أن سلاح الدولة في عالم الحكومات الدكتاتوريات هو مجرد “سلاح شخصي” لشخص الحاكم وليس للبلاد، وهذا لا نراه في ظاهرة السلاح الإيراني والإسرائيلي وهذا تعامل قريب من حال الديمقراطيات والقوى الكبرى.
12
زيادة تخوف شخصيات خليجية من الدين وكراهية الأحزاب الدينية جعلها عمياء عن كل شيء، فالمريض النفسي بـ “البارانويا” أو “الارتياب” بعدو واحد يراه في كل شأن، وفي كل مكان؛ من السهل جدا تسخيره لمصالح أعداء مجاورين أو بُعَداء فيقيم سياسته على قاعدة: “عدو عدوي صديقي”.
13
بحكم الإقصاء الدائم للشعوب ومنعها من المشاركة، فإن حكومات عربية رأت في انتصار ديمقراطية مصر انتصارا للخصم: “الشعب” فسخرت كل شيء لإسقاطة ولقيت عونا إسرائيليا كثيفا لتدمير مصر، وغفلت عن أنه كان بإمكانها السير مع مصر لبناء قوة إقليمية جبارة لن ترعبها إيران ولا إسرائيل، ولكن الصغير لا يكبر مهما عُمّر، فغدروا بمصر، واستولى عليها من يكره الجميع وهو معقد من الجميع ويبتز الجميع ولا يهتدي طريقا لا محليا ولا قوميا ولا إسلاميا ولا وطنيا، فتعرى الخليجيون من كل جهة.
14
أظهرت الاتفاقية للعالم الخلاف الخليجي مكشوفا للجميع، فمثلا: هناك عمان التي كانت ترتب للاتفاق واتُخذ منها موقعا لكثير من المفاوضات بين الطرفين، وفي بعض مفاصله احتيج لذهاب السلطان قابوس لطهران، وقد أعلنت عُمان يوم 8 ديسمبر 2013 أنها لا ترغب في مشروع الوحدة الخليجية وستبقى خارجه. وأكد يوسف بن علوي المسؤول عن الشؤون الخارجية في عمان أنها “لن تكون جزءا منه” وأنها غير مستعدة للدخول في أي صراعات على الإطلاق لا شرقا ولا غربا. أما موقف قطر فهي لا تعامل إيران بِعَداء، ولا تقبل مواقف متطرفة مع ولا ضد، ومناطق اتفاقها في أمور كثيرة مع إيران معلومة وخلافهما في سورية معلن أيضا، علما أن المنطقة في حال تحولات سريعة جدا، وجذرية أيضا.
أما البحرين فظروفها لا تسمح بموقف صريح، والانقسام فيها كبير، لأن المعارضة في طرف والحكومة في طرف مقابل في السياسية الداخلية والخارجية، وما هو مشهور أن الأغلبية في البحرين شيعة وقضيتهم ومطالبهم قوية وتجد تأييدا دوليا، وبعد هذا الاتفاق ستكون هناك تحولات قسرية جديدة في المشهد، أما الكويت ففيها نسبة تقارب 30% من الشيعة، وأطراف من الحكومة تؤيد توجهاتهم أكثر من تأييدها لعلاقة وطيدة مع مجلس التعاون الخليجي. والرياض لها مواقف متقاربة وإن لم تكن متطابقة، وبخاصة مع وجود شخصيات نافذة في العائلة الحاكمة تخالف التأييد للرياض في موقفها. الإمارات شديدة الخطاب وشديدة الشكوى، ولكن موقف السياسي فيها يختلف دائما عن موقف التاجر، فوجود نصف مليون إيرانيوقوتهم التجارية فيها، وكون تجارة إيران بشكل رئيس مع دبي؛ فإن ذلك يجعل الموقف مضطربا، ويميل في النهاية إلى التهدئة، وكان موقف الشيخ زايد أيام حرب العراق وإيران الوقوف بين الطرفين فيما يشبه الحياد عمليا وإن كان ساهم بدور رئيس في تأييد إنشاء مجلس التعاون الذي قام لمواجهة نفوذ الثورة الإيرانية.
15
ومن أبعاد الاتفاق ما يتعلق بتركيا وإيران؛ فإن الأتراك لما رأوا عربا توجهوا نحو تدمير ديموقراطية مصر الحليف المتوقع وألحقوها بحالة عسكرية وإسرائيلية خافت تركيا من حصار نفوذها التجاري والاقتصادي والسياسي أن تفرضه إسرائيل بعد تقويها ببعض دول الخليج وبمصر، أو أن تكتسح إيران بعد المصالحة المنطقة، فبادرت لعلاقة أقوى مع إيران، ومن قبل مع العراق والكرد، وما صاحب ذلك من اتفاقيات أنابيب النفط والغاز.
16
بحكم كراهية إسرائيل للحزب الحاكم في تركيا ولشخص أردوغان وجد خليجيون أنفسهم مسخرين لإسرائيل ولحلف نتن ياهو، وأصبحوا في معسكره ضد تركيا، واستطاع نتن ياهو تسخيرهم لحزبه ولن يكونوا في هذه الظروف إلا كذلك، ولأسباب خطيرة أخرى، فكانت مصر الحرة الديمقراطية سندا إسلاميا وعربيا لتركيا وحلفا ضد تحالف نتن ياهو مع “عرب الاعتدال”، ولما سقطت مصر في حضن إسرائيل سخطت تركيا بسبب خبرتها مع الفشل العسكري ودكتاتوريات العساكر الطويلة في تركيا بل في العالم الواسع كله.
17
هناك حكومات عربية مهما تحسنت ظاهرا علاقاتها مع تركيا فلن تكون العلاقة إلا عدائية أو شبه عدائية؛ لأن تركيا ديموقراطية وهم دكتاتوريات، ولأن تركيا بعد نجاح ديمقراطية يقودها إسلاميون فإن الحكومات العربية التي تعودت العداء مع كل ما هو إسلامي لن يسعها إلا استمرار الخلاف، ولأنهم ناجحون والناجحون يورطون الفاشل في الكراهية والحسد، ثم إن النجاح سبب جاذبية كبيرة لا يمكن مقاومتها إلا بهجوم كاسح على كل ما تمثل. ثم إن هناك عداءا تاريخيا من زمن الخلاف بين ممثليات تركيا من طرف وممثليات بريطانيا من طرف آخر في المنطقة.
والحقيقة الواقعية: أنه لو تخلص العرب من عقد التخلف والفشل والرغبة في التبعية للصهاينة ومن كراهية الشعوب فإن تركيا هي الحليف الأمثل؛ بسبب الخصومات القائمة والمتوقعة بين إيران وتركيا، وبين إسرائيل وتركيا، ولأن إيران القومية ما بعد الثورية سوف تذهب لإسرائيل، أما تركيا فهجرت إسرائيل جزئيا ولا يتوقع قريبا علاقات حسنة معها، ولأن مشكلة النفط والغاز في البحر المتوسط ومشكلة قبرص وسورية وفلسطين وغزة تحديدا تتعاظم.
18
إيران سوف تتجه لإسرائيل، لأسباب منها: أن إيران أصبحت أكثر قومية من أي لحظة سابقة، والمزاج القومي كعقيدة إن لم يتنافر جغرافيا “حدوديا” فإنه ثقافة جامعة، ولأن الموقف اللاديني المتصاعد في إيران يخفف من المواقف الثورية الأولى، ثم إن الموقف العام من العرب ومن تركيا ومن السنة يمكن استعادته كأيام الشاة، وقد يكون محفزا في التواصل، وهناك تواصل بينهم في مواقع عديدة. ونعلم أن بيريز كان قد زار الشاة في السبعينيات ليؤسس له مفاعلا نوويا عسكريا، وكان بيريز يتاجر بالتقنية النووية التي كان طرفا لحصول بلده عليها -كما فعل عبد القدير خان مهندس السلاح النووي الباكستاني والليبي -، وهناك فرق بينهما: وهو أن بيريز موالٍ للغرب فهو ملاك، أما خان فهو مسلم باكستاني فهو شر! ثم إنه لا يستبعد أن يحتوي الاتفاق شيئا من التأسيس لتخفيف العداء مع الوجود الغربي في المنطقة، وأهمه إسرائيل.
نشر فريدمان عن تحالفٍ غير معلن بين حكومات خليجية حددها في مقال له وبين إسرائيل وأنه قد عاش حتى رأى ذلك، ورأى الوزراء العرب يجلسون في قاعة ومعهم مسؤولو الأمن في بلادهم ويحاضر لهم بيريز. فكم شعوبنا غائبة عن متابعة هذه العلاقات والولاءات الجديدة؟ المعادية لمصالحها ومغيبة عن تفهم هذه التحالفات وآثارها، ونلاحظ أنه بعد مجاملة نتن ياهو وتفهمه وهو شريك مكين في الاتفاق ثم تراجع في تشدده، فتراجع بعده خطاب العرب وقبلوا علنا بالاتفاق، مع أن قبولهم أو رفضهم لا يملكون غيره أصلا.
19
في إحدى المفاوضات السابقة مع الأمريكان التي قادها علي لاريجاني طالبت إيران بنفوذ في الخليج كبند من بنود التفاوض، والاحتمال قائم أن هذا طرح في المفوضات، أو وعدت إيران به بدور مقابل تنازلهم للأمريكان، وهي طموحات تتجاوز الأفق القريب والمستوى البسيط؛
مثال تلك الطموحات لإيران تصريح مهدي طائب رئيس مركز مكافحة الحرب الناعمة بأن:
” سورية هي المحافظة ال 35 وتعد محافظة استراتيجية بالنسبة لنا.” والهبّة للحج إلى طهران ما هي إلا مظهر للاحتماء والتواصل والغنائم التجارية لمن فشل في السياسة، ولكن هناك من لا يسمح بالتجارة للشعب، ولا يجيد السياسة ويخسر على كل الجبهات؛ حتى تلك التي صنعها دمرها أو تحولت ضده.
عانت إيران من انهيار اقتصادي كبير من الحصار واستمر انخفاض العملة مع شدة الحصار، وزاد الضيق الاقتصادي؛ ما أخاف الحكومة من زيادة الاعتراضات مما قد يشكل تحديا للسلطة وربما الاستقرار عموما، وحينها لا تغني قوة الجيش في مواجهة ثورة جياع.
ومع الاتفاق انتعشت الأسواق المالية العالمية في اليوم التالي للاتفاق، وانتعش السوق وسوق العملة تحديدا في دبي، بحسب وكالة رويتر وارتفعت العملة الإيرانية في اليوم التالي بمجرد الإعلان عن الاتفاق بمعدل 3%.
ثم إن الاتفاق يجعل دولا عطشى للنفط والمعادن والتصدير مع إيران تسعد بكسر الطوق. وهذا سيجعل أسعار النفط تتراجع ولو على مدى أبعد من زمن الاتفاق. وهو مفيد لإيران ومخيف لحكومات النفط، ولا يبدو أنه سيكون الانخفاض كبيرا بسبب حاجة أصحاب النفط الصخري والشركات لارتفاع الأسعار.
الاتفاق قد تكون له آثار اقتصادية دولية جيدة، والأثر الاقتصادي لا يعني أنه شر للمنطقة، قد يكون سلبيا على الضعفاء والشعوب المنهكة بالاستبداد وعديمة المبادارات، ولكن تحسن الاقتصاد وتحسن وضع الشعوب عالميا؛ أمر مفيد أن يقوم عالم الوفرة والرزق والصناعة والتجارة، بل إن الغرب يقرض أسواقا وحكومات ومناطق أحيانا على حساب بلاده –مؤقتا- ليبني له في الخارج أسواقا ويحرك اقتصادا يفيده، فليس الموقف الغربي المنفتح على إيران كله لصالحها فقط، بل إن الانفتاح مصلحة للشعوب المتعدية المصالح.
ليس صحيحا أن فقر منطقة يعني غنى أخرى، وانتشار الفقر يعني سيادة القلاقل، والشعوب الجائعة تنتقم ولو بالهجرة فقط، وقديوصلها آخرون أو الأغنياء المجاورون إلى أن تكون الحرب آخر ملجأ؛ فليحذر من يكيد جيرانه بإفقارهم أن يصبح هو ضحية حيلته.
كتبت النيويورك تايمز في صفحة “التحرير” استنكارا لموقف نتن ياهو وحكومته وانتقدت أيضا الجمهوريين –غالب الناقدين جمهوريون إلا “شومر” فهو من اليهود الصهاينة المتزمتين في ولائه لإسرائيل- في الكونجرس على سعيهم لمضاعفة الضغط والعقوبات على إسرائيل. وأن هذا الاستمرار ومضاعفة الحصار قد يسبب حربا، ويعيق التقدم في المصالحة، وكان تشديد الحصار قد قلل الدخل من النفط الإيراني من 110-120 مليار دولار إلى 40-50 مليار دولار أي أقل من النصف أو حوالي الثلث، ويقر المقال بأن إيران لن تتخلى عن برنامج صرفت عليه المليارات ومنعها من امتلاك السلاح النووي الذي أصبح يمثل رمزا للعزة الوطنية، وأن أمريكا لن تدخل في حرب مكلفة وتهز منطقة مضطربة، وقد التزم أوباما بالإقناع بأن العرض معقول ومقبول لكل الجهات.
خدعت أمريكا حكومات عربية خليجية واستنزفت النفط بأقصى ما يمكن للحقول والمعدات استخراجه، واستعملت نفط الخليج سلاحا لتركيع إيران، بحيث يتوافر النفط في الأسواق بكميات هائلة تمنع حاجة السوق العالمية للنفط الإيراني، وحاصرت نفط إيران بنفط العرب وبكل فعالية وتأثير، فلما خضعت إيران فاوضتهم واتفقت معهم، وتركت العرب بنفط مسفوك، ونقد محول لبنوكها، وبلا أمن، وللأسف فهي لما قررت الصلح لم ترسل لهم ولو مندوبا واحدا من باب “جبر الخواطر” ولكن كمية النفط الذي حاربت به أمريكا إيران كان ضد مصالح ومستقبل الشعوب في المنطقة، وسوف يأكله التضخم وآفات أخرى خليجية كثيرة، ولو بقي مخزونا استراتيجا لكان خيرا للمنطقة، لا سيّما في ظل أبحاث كثيرة مهمة تتحدث عن نضوب النفط.
الاتفاق قضى على صحة عقائد خليجية كثيرة، منها:
العقيدة الخليجية القائمة على أن مصدر الخوف هو الشعب وليس الخارج، قد تكون هذه الحادثة مساعدة في إعادة ترتيب مراتب الخوف.
نهاية التستر وراء عقيدة إقصاء الشعوب الدائم، فإن التخلي الأمريكي يجب أن يجلب الشعب لعلاقة حسنة مع الحاكم، وليس الهروب من مأمن غربي إلى مأمن إسرائيلي أو روسي أو إيراني وإبعاد الشعب.
نهاية عقيدة أن الحكومة الخليجية وكيلة للغرب ضد خصومه في المنطقة بدءا بالشعوب وانتهاءا بقوى بديلة جديدة.
نهاية عقيدة أن الزبون الذي يشتري السلاح الغربي آمن، لأنه يعمر ويحرك الأسواق وصناعة السلاح الغربي، ولكن يبدو أن الزبون سوف يبقى خائفا يتسول الأمن، وكلما تعرض للتعرية أكثر اقترب واشترى أكثر، فقد لا يبقى وليا فحسب بل خائفا ومستنزفا دائما، وهذا مؤشر توجه السياسة القادمة. ويبقى استذلاله بالمزيد من شراء السلاح، وإن كان سيذهب ليشتري من سوق أخرى كروسيا والصين وربما إسرائيل.
عقيدة أن هذه الأنظمة حليفة أو موالية لأنها تحارب التوجهات الإسلامية والعروبية،عقيدة تستحق إعادة النظر، لأن الغرب أصبح يفرق بين درجات الخلاف، ويعرف أن الإسلاميين لهم الشعبية والقدرة، وأن يوالي بعضهم ضد بعض، أو يقبل بالمعتدلين منهم، وليس من مصلحته بقاء مواجهات دائمة مع الإسلاميين، لأن العالم الإسلامي فهم أن هذا الموقف هو مجرد عداء للإسلام لا لفصيل منه، فوصل إلى نتيجة أن يقبل بوجود تيارات إسلامية حاكمة أو مشاركة في الحكم ولا يخرجها فيزيد العداء له، وحتى لا يبرر هذا عداء المجموعات الأكثر تشددا ضد الغرب، وحتى لا يكثّف عداوتها ويزيد عددها وأنصارها.
قلّت أهمية حكام الخليج كأعداء مجندين ضد التوجهات الإسلامية غربيا، بعد تواصل الغرب تعرفه على تفاصيل الحركات الإسلامية وخصوصا جماعة الإخوان في مصر، ولكن إسرائيل بحكم عدائها لحماس استطاعت تجنيد حكومات خليجية ضد الإسلاميين المعتدلين، فالهرهرة العربية والضجيج ضد الإخوان في الخليج أكثره مجرد صدى لموقف إسرائيلي أولا، ثم لموقف حكومي محلي ثانيا، ومتى عرفنا أن كثيرا من المعونات الخليجية تصرف للمجموعة الفلسطينية الموالية لإسرائيل، وتشارك إسرائيل في الموقف من حصارها لغزة، بل رضيت واستمرت في الصمت أو تأييد الحصار من قبل مذبحة 2008-2009 ومن بعدها إلى اليوم.
انتهى الكثير من فوائد الحكومات الخليجية بكونهم ممثلين للغرب ضد طموحات الشعوب في الديمقراطية والحرية، لأن قبضة الوكلاء الحديدية على الشعوب أنتجت عنفا ضد الغرب، وتبين أن دكتاتورية الحكومات الخليجية ومحاكمها الصورية وفشلها السياسي الظاهر ماهي إلا وجه من وجوه الفساد والنهب وتصاعد الغليان ضدها، وهذا يهدئه في نظر الغرب شيء من الحرية والعدالة، والذي لا يمكن للحكومات التابعة قبوله وهو منطقة خلاف بينهم وبين الأمريكان والأوروبيين، ولكن المصالح تكبت كثيرا ظهور هذا الصوت.
السياسات الخارجية المملاة على الحكومات الخليجية أنتجت تسليمها الخليج لطموحات خارجية كثيرة، كانوا يرونها في مصلحتهم، وساعدوا على تقوية تحالف بين من يرونهم خصومهم كإيران وتركيا. أما شعوبهم فأصبحت أكثر شكا وأقل ثقة في نياتهم تجاه مستقبلهم وحرياتهم، خاصة أن أمن وسياسة الخليج قد تتركه أمريكا لإسرائيل في ظل تغييب الشعوب عن المشاركة.
أنهى هذا فعالية الدوغمائية الخليجية في محاربة كل توجه إسلامي حتى ولو كان سينفعها، أورثت فشلا دائما جليا، ومتوقعا، فقد عادوا الثورة الإيرانية وكان من الأسباب كونها إسلامية، أو لفكرة تصدير الثورة، غير أن السبب الأكبر كونها ضد المصالح الغربية، ونسوا مصالحهم. وعادوا السودان بحجة أن حكومة البشير إسلامية، وبناء عليه أعانت حكومات عربية عبر تجار سلاحها المعروفين –بعضهم فاعل إلى اليوم- جرنج زعيم انفصال جنوب السودان على الانفصال، و وقتها كان الفاعلون في اقتطاع جنوب السودان الكنائس الأمريكية خصوصا وبقية خصوم الإسلام والعرب في السودان وانتهينا إلى مانراه الآن من خسارة عظمى مشهودة في السودان واقتطاع نصفه الغني.
إن الخلط الدائم بين الموقف الأيديولجي الحكومي المناوئ للمصالح العربية والإسلامية مع المصلحة الغربية وأيديولوجيتها تصبح أثقالا على الحكومات العربية متوالية وثقيلة فتضعفها وتسوقها إلى تصرفات متطرفة تودي بمصالحها أولا، قبل الضرر بمصالح العرب والمسلمين.
عقيدة “تدمير الآخرين لنبقى نحن”عقيدة فاشلةٌ تماما، فتدمير العراق والسودان واليمن ومصر لا يعني أنك الفائز حين تدمر جيرانك، إن الإضرار الحاصل أصبح علما على شخصيات معروفة منذ ثلاثة عقود لا تفهم إلا لغة التدمير والاغتيال، وهي تنفذ ما كانت تسمعه عن طريق السي أي أيه زمن الحرب الباردة، متكررة الأساليب باستمرار، ولو عاد عليها وعلى شعوبها بالضرر، فالأطراف نفسها وأحيانا الأشخاص أنفسهم ساعدوا وألبوا وقدموا كل عون متخيل لإسقاط صدام، فبدا الأمر شبيها بقصة تأخير حلق اللحية حتى يسقط صدام المشهورة التي قصّها بوب وود وورد. وانتهى الأمر بإسقاط صدام، وجاءت إيران وأصبحت على الحدود، ليطلق بعض متطرفي الشيعة العراقيين أو الإيرانيين صورايخ جراد منها، والواقع أسوأ من إطلاق الصواريخ، وهكذا تم إهداء أو تسليم العراق لإيران بسياسة عربية خليجية كان من دوافعها رغبة المحافظين الجدد “اليهود” في تأمين إسرائيل، وعبرت الخدعة بتمويل وسياسة عربية، وقل مثل هذا في الانقلاب الذي نرى مؤشرات فشله في مصر، وآثاره السيئة على من أعان عليه، فالانقلاب يتجه نحو جهات معادية لمن موله ورشى له كل جهات عديدة.
ينهي هذا الاتفاق -مهما قالوا إنه صغير- تلك العقلية المزاجيةالفردية التي تدير الأمور ببدائية، وأخذ يشد الجميع نحو مواقف لمصلحة الدول وليس لمصالح الأشخاص الشخصية والعارضة والتابعة. فبعض هؤلاء لا يفرقون بين مزاجهم الشخصي ومصير حكومات وشعوب، إن لك أن تكره أي فصيل في بلدك ولكن أن تكون مصدر تطرف استبدادي وفساد فهذه كارثة على الجميع.
بسبب تمكن الكراهية للإسلاميين وسيطرة العقد الشخصية لم يفكر خليجيون بحركة ولو تمثيلية أن يفتحوا أيديهم لقوى فلسطينية وعربية حقيقية مؤثرة، لتكون سترا لهم من العراء، وعونا لهم عند تخلي الحامي، فليس لهم من الجرأة والشجاعة ما يقربهم لسياسة واقعية، هذا مع آفاق ضيقة وقدرات ضعيفة محزنة، وتركوا زعماء سياسيين ومؤثرين على قوائم المنع من التواصل خضوعا لمطالب صهيونية متطرفة، ولو كانت هناك ذرة من نجابة سياسية لكان الحال غير الحال، ولكن السياسة تموت على أيدي بعضهم كموت الهمم والعقول والمبادرات.
عقيدة الخليج القائلة بأن إسرائيل هي أمريكا، هذه عقيدة مريحة للفكر، وموقف بدائي مهما بدا مبدئيا، وكان من المهم كسر الالتباس، ومعرفة الواقع، لا التبعية العمياء، فالتفاصيل مهمة، وهم يعرفون مسبقا أن هناك كراهية شخصية عميقة بين الرئيس الأمريكي ونتن ياهو.
رد بعض الحكومات العربية بالقول بـ “أن المهم هو النوايا الصادقة أو الطيبة”؛ قول لا معنى له فليس في السياسة تعلق بالنيات بل تعلق بالوقائع ونصوص العقود، وإذا كانت النيات لا قيمة لها في عالم العقود، فمن باب أولى ألا يفكر واعٍ في قصة النيات في التحالفات الدولية، بل هي في عالمنا القوة والقدرة والاستفادة من الفرص.
عقيدة بعض الحكومات أن السياسة هي: تأمين التحالف مع الخارج والقمع في الداخل، سياسة فاشلة ويجب أن تتغير، علاوة على أنها معادية للشعوب في زمن نهوضها، فإن الحكومة القوية هي تلك التي لها علاقة ثقة وتجانس في الداخل، والحكومات المهترئة هي تلك الحكومات القامعة في الداخل والعدائية معه، الودودة مع قوى الخارج، فكلما أظهر الدكتاتور توددا للخارج ظهر تناقضه وعدم الثقة بمسلكه وبمستقبله، وتلك كانت عقيدة قذافية خليجية مشتركة، ولذا عز سقوطه على شركائه في المهنة.
خيار الخليج الذهاب لروسيا ولإسرائيل ليكونا حليفين؛ مجرد خطوة خاطئة وفاشلة أخرى، لأن إسرائيل بعد التطبيع الواقعي مع عدد من الخليجيين تتحدث عن هيمنة قادمة لها على القرار السياسي في الخليج، وهذه ليست أساطير تقال بل حقائق تحدث أمامنا، ولم ننس تحالف مبارك مع إسرائيل في مذبحة غزة المؤسفة في تاريخ كل من سكت أو تهاون أو صمت فضلا عن من شارك.
سوف تبتز إسرائيل الخليج بحجة حمايتهم من إيران موقتا ثم تتركهم بعد استلامها لمقدراتهم وتورطهم في كل شيء، وقد تبين أن الشعوب المسلمة البعيدة وحكومات حرة كثيرة تخالف إسرائيل بينما يواليها ويخنع لها خط عربي قريب وبعيد منها.
خلافات الخليجين عميقة رغم التظاهر، وتجعلهم أقرب للتنسيق مع خصوم الخليج بعضهم ضد بعض.
ماذا تستفيد أمريكا والغرب؟
إنهاء حالة عداء مرهق تبين أنه لا يكف الإيرانيين عن تطوير سلاحهم ومواقفهم العسكرية، بل ضاعف المنتجات، وقد تولى أوباما الرئاسة والكمية المخصبة من اليورانيوم كانت قد بلغت ألفي كيلو غرام أويزيد قليلا، والآن بلغت كميةاليورانيوم المخصب حواليتسعة آلاف كيلو غرام. ومما علق به العلماء أنه في حال نجاح التخصيب والتجارب وتمرد إيران على الاتفاقات فإنها تحتاج إلى قريب من سنة ونصف لتستطيع تركيب القنبلة على صاروخ شهاب. كما يرى بعض المراقبين أن الاتفاق هو لمجرد شراء مدة ستة أشهر نحو إنجاز القنبلة. أما أحد شخصيات إدارة أوباما فيقول إنه في الخمسة عشر عاما الأخيرة كان دائما لدى إيران برنامج تسلح سري أو محاولة نووية سرية، ثم إن الأمريكان لا يثقون بأن الحرس الثوري لا يعد سلاحه النووي الخاص. وهناك من يرى أن تأجيل إنتاج السلاح النووي سيكون مفيدا حتى لأمريكا، فكما صرح كرستوفر هيل المفاوض الأمريكي في أزمة نووي كوريا الشمالية؛ “إن خمس سنوات من تأجيل العمل في المفاعل الكوري تستحق المحاولة.”
وقد أنفقت إيران في عام 2012 ستة مليارات على السلاح، وأنفقت حكومات الخليج مائة مليار، وأربعة ونصفالمصر، وإحدى حكوماته هي في السنوات القادمة خامس حكومة في العالم في التسليح، والسادسة بعدها خليجية أيضا، ومع هذا فقد بقي الخليج خائفا يهيم ظمأ للسلاح.
وكان من نصوص الاتفاق: إيقاف التطوير من نسبة 20% إلى أقل من 5% والتمكن من معرفة ما يحدث فعلا في المفاعلات، بمراقبة دائمة على مدار الساعة، وإيقاف منشأة أرك والماء الثقيل بها، وإيقاف استخدام ثمانية آلاف جهاز طرد مركزي تم تركيبها من قبل ولم تبدأ العمل. وهي اتفاقية مؤقتة لستة أشهر ويجري الاستعداد للجولات الطويلة التالية.
حاجة أمريكا إلى إيران في أفغانستان بعد خروجها، والطواقم المدربة والمتعلمة الآن في أفغانستان تدربت أو درست في جامعات إيرانية وشيعية في كابل، إذ استغلت إيران هزيمة طالبان فبنت قيادات وكوادر موالية لها في أفغانستان.
ثم حاجة أمريكا المستمرة لإيران في العراق، وحتى في سورية ولبنان، فقد تبين لها أن التحالف مع الخليج لا يساوي في السياسة ولا في المكاسب علاقتها مع إيران، وهي لن تفقد الخليج الخائف، وهو محتوى في الحضن ولن يفوت،أما مناورات تعلقه بروسيا فهي لا تزيد عن رشاوى عارضة، ولم تعد بعد روسيا لمنافسة الغرب.
الخليج قطع صلاته بالعالم ليرضي أمريكا، ومن الطريف أن حكومة خليجية كانت أيام صدام تمنع التعامل مع المعارضة الإسلامية السنية العراقية، وتقبل بالتعامل مع الشيعة، بل منعت السنة حتى من حقوق مشروعة لهم، هذه البدائية السياسية لم تطقها أمريكا ففتحت الخط مع إيران، خاصّة والسياسيون الأمريكيون تحدثوا بما كان يسوؤها من عدم وجود سياسيين في بعض البلدان لتتفاهم أو تتواصل معهم.
القيادات في منطقتنا يتمتعون بغفلة عن الجغرافيا السياسية، لأن غيرهم لا يريدهم أن يروها، فإن حكومات العرب على شاطئ الخليج حالها يختلف عن موقع وعلاقات إسرائيل وأمريكا فالجوار هنا يعني أن تصوغ نمطا سياسيا يناسبك ويختلف عن رأي إسرائيل ورأي أمريكا. ولو غادرت أمريكا غدا وراء المحيطات فما مقدار تضررها مقارنة بسكان هذه الأقاليم المجاورة لإيران؟ إن هؤلاء للأسف يأخذون المواقف ممن يؤثر عليهم جملة، وينفذونها كما قيلت لهم، ويزيدون كيلة، وهي كيلة المذهب والعنصرية المتبادلة عبر القرون، وهي ظواهر بعضها ثقافية ومنتشرة في كل بلاد الله. فتجدهم ينفذون العداء جملة والولاء جملة، وهذا نمط وافد وغير عملي ولا سياسي ويضر ويسيئ لكل شيء هنا، ولو وقع فيه غيرهم لما كان لائقا بهم ، كيف وهم أغلب من يوقده، ولا يتجاوز شيئا منه.
قطع الطريق على تقوية مجموعة البريكس علاقاتها مع إيران ودول البريكس هي: “البرازيل، وروسيا، والصين، والهند، وجنوب أفريقيا” خاصة أن هذه الحكومات رفضت المقاطعة النهائية وبعضها تناور على نسب تعامل قليلة مثل الهند وبدائل مادية عن الدولار، وهناك خوف من تفكك مجموعة الضغط على إيران.
طالما استطاع أعداء العالم العربي أن يملوا على الحكومات العربية تحديد عدوها بأنه الأفكار في المنطقة، أي الأفكار الإسلامية والقومية، وأي عناصر للحياة والتفكير والتأثير. وقد التزمت حكومات المنطقة التابعة بالعهد وهو إقصاء من كان له رأي أو أي فكرة أو أيديولجية مضادة للمحتل الغربي تحديدا، فهي تواجه اليساريين والقوميين والإسلاميين بالعزل والمنع عن أماكن التأثير والقرار، ولم يسقط هذاالعهد بعد سقوط روسيا، مع أنه كان من موروثات منظومة الحرب الباردة، السوفياتية الأمريكية، هذا العهد والوعد دمر القدرة السياسية في دول المنطقة، فليس كل مثقف بعثيّا ولا ناصريّا ولا إخوانيّا، وهؤلاء ليس كلهم يحملون خلافا حادا مع حكوماتهم، وإذا كان بعض اليسار المغضوب عليه واليمين الغربي تحسنت ظروفه أو تغير فكره فاستطاع وبسبب البيئة الديمقراطية أن يساهم في منظومات بلاده فإن هذا قد حرمت منه الحكومات والشعوب العربية فكانت خلافاتها الحزبية مرضا على وهن، فهي لا تملك الطاقات واستبعدت الموجود والمؤثر.
كما أن حكومات الخليج انشغلت مؤخرا بحرب الديمقراطية في بلدان الثورات، وكان همها كيف تعيد تنصيب الاستبداد على رؤوس الشعوب، فضيّعت العمل السياسي الدولي وضيعت مصالحها لاشتغالها بالإضرار بالعرب الآخرين.
المصالحة بين الغرب وأمريكا تعني تغييرا مهما قادما في أزمة البحرين، فمن غير الممكن استمرار التأزم هذا بعد المصالحة الأمريكية، وربما تتسع مناطق المصالحة إلى سوريةوإلى مناطق عديدة، لأن إيران تتقدم شابة وسياسية واعية ومتصالحة ومرنة وبراجماتية في مقابل مناطق عربية راكدة ويائسة وشائخة وعاجزة عن عرض أي بديل وأي محاولة قادرة على العمل مع غياب تام للمشاركة الشعبية.
قبل الاتفاق كانت بعض الدراسات تؤكد أن إيران قد تُغلب مصالحها النفعية على الأيديولوجيا الثورية والدينية، وبهذا يمكن أن تتنازل لإسرائيل وللغرب في مسألة السلاح النووي مقابل الحفاظ على سورية ولبنان مناطق نفوذ لها. وهي بهذا وبما يجري الآن تحقق بقاء مصالحها في سورية ولبنان وتكسر الحصار السياسي والاقتصادي، وتمد نفوذها، ليس إلى الخليج فقط ولكن للحفاظ على أطراف الامبراطورية الممتدة من حدود الصين إلى البحر الأبيض المتوسط، وكان لفشل حكومات خليجية دور في تأسيس هذا الوضع.
في إيران هناك صوت شعبي حقيقي وموجود مهما عورض وكبت ويتنفس من وقت لآخر ويؤثر، وهناك معارضة حقيقية مهما أسكتت، ولكنها جزء من الشعب ومن الصوت، وهناك جهات وأحزاب تنقسم بين الموافق والمخالف، وكان خامنئي قد رحب بالاتفاق بحذر، أما التوجه العام فهو تأييد وحفلة شعبية وحكومية عامة وفرحة بالاتفاق، لأسباب الخناق الاقتصادي الطويل، والملل من سياسة التجمد ضد الغرب، وهناك الشباب المتأثر المجذوب إلى نمط للعيش جديد، ولم يعاصر زمن ما قبل الثورة ولا مزاج الانتقام. غير أن أصوات من قبل الباسيج لم تزل عالية، تعترض على الاتفاق، وهناك خوف من هياج أو مظاهرات يسببها محافظون معترضون، ومنهم قريبون من الحكومة ومن المحافظين.
الطريف أن معارضة الكونجرس والسعودية وإسرائيل للاتفاق ساعدت روحاني والمرشد في الإقناع العام بأن الاتفاق مفيد لإيران عندما عارضه خصوم إيران التقليديون. وأيضا فإن من أهم مبررات القبول السائد في إيرانبالاتفاق هو النتيجة وهي الاعتراف العالمي بإيران نووية، وفك الحصار، وكذا الفهم بأن المرشد موافق، ويضغط متشددون إيرانيون بإنهاء كل الحصار، وإلا فإن المخالفين سيضغطون على روحاني للتراجع عن الاتفاق. وسبق للمخالفين أن واجهوا روحاني واستقبلوه برمي البيض والأحذية عليه عند عودته من نيويورك بعد مكالمة أوباما، التي رأوها مهينة لهم. وشبهوا الصلح باتفاق صدام مع الغرب “النفط مقابل الغذاء.” وهذا مشهد من الدبلوماسية الإيرانية المتوازية بين دبلوماسية الخارج وسياسة الداخل. كما أن التقسيم الشكلي للسلطات على ضعفه في إيران يقوي البلاد وينوع الرؤى، وهذا ما تفتقده حكومات الخليج.
من المهم ملاحظة أن الثورة الإيرانية ما زال بعض قياداتها يفكر باليسار واليمين ومعسكرات الحرب الباردة، ونتائج تفكيرها، وحكومات الخليج مهما كبرت وتعلمت وسافرت فإنها ترجع إلى عقلية خيمة في الصحراء يهددها غاز من قبيلة أخرى، وصاحب الضجة والعجة نافذ على طريقة القدماء، ولم تدخل بعض منظومات السياسة الخليجية إلى العصر الحديث، فهي ترى الخير في قبيلة الحاكم محضا والشر في القبائل الأخرى محضا، وهذا يمنع قيام مؤسسات ذات قدرة، ويمنع صعود حكومات ذات فكرة، أو حيوية سياسية.
الذي تحقق في الاتفاق يبدو صغيرا وإن كانت الحفلة كبيرة، ولكن المهم دلالاته ومستقبله فإن ما يشير إليه أمر كبير. كما أنه ليس نهائيا، ويمكن التراجع إلى بعض ما كان عليه الحال إلا الاعتراف بالبرنامج السلمي فقد حسم، ولو عند غيرهم. وليس لحكومات الخليج مكانة لأسباب عديدة حين يتحاور الكبار لحرص حكومات الخليج على أن تبقى ضعيفة وتابعة وصغيرة.
الخلاصة:
الاتفاق الإيراني ضرورة وليس مجرد حاجة، ولو تنازلت إيران عن النووي نهائيا فتجنبا لما هو أسوأ، وأما إن تمكنت إيران من إنجاز السلاح النووي فقد يعمل هذا على وجود توازن للإرهاب النووي بينها وبين إسرائيل، وسيجلب المزيد من التسلح النووي في تركيا وغيرها. وليس وجود السلاح الإيراني أقل خطرا وضررا من السلاح الاستعماري الصهيوني. وفي حال صدقت إيران في إنهاء مشروعها، فإن حال السلم والمصالحة تفسره حكومات خليجية شرا عليها، وليس الأمر كذلك، لأن مشكلة الموقف من إيران في أساسه مشكلة ضعف حكومات الخليجالسياسي المعروف، فإن الاتفاق إما أن يحسن من حالة التحدي، فتتحسن حقوق السكان، وتتحسن القدرات السياسية، أو تبقى على حالها، فهذه ليست مشكلة الإسرائيليينوإيران، إنها أزمات داخلية عويصة تريد إيقاف العالم مكانه كما هي واقفة: “تأكل القوت وتنتظر الموت”، وهذا لا يقبله آخرون ولا يريدونه.
كما أن بقاء حالة الانتظار الخليجية لدمار الآخرين أو ضربهم دلت التجارب الماضية أنه لا يزيد حكومات خليجية إلا المزيد من التخلف المتزمت، وما شراء السلاح من الغرب إلا مجرد رشاوى للغرب ليبقي حصاره قائما هناك، أو ليبقى كل شيء مكانه، وكل حال كما هو، وليست هذه سنة الحياة، والتجميد إن كان استراتيجة حكومات فإن غيرها يسعى لكسره، لكونه ضررا بالمنطقة وبالجميع، وإن وقفت فإن العالم يَسير ويُسيّر لما يسر ولما يضر. وقد يكون تورط إيران في علاقات سياسية منفتحة مع الغرب يخفف من غلواء شخصيات وأجنحة متزمتة في سلطتها.
” سورية هي المحافظة ال 35 وتعد محافظة استراتيجية بالنسبة لنا.” والهبّة للحج إلى طهران ما هي إلا مظهر للاحتماء والتواصل والغنائم التجارية لمن فشل في السياسة، ولكن هناك من لا يسمح بالتجارة للشعب، ولا يجيد السياسة ويخسر على كل الجبهات؛ حتى تلك التي صنعها دمرها أو تحولت ضده.
20
ومع الاتفاق انتعشت الأسواق المالية العالمية في اليوم التالي للاتفاق، وانتعش السوق وسوق العملة تحديدا في دبي، بحسب وكالة رويتر وارتفعت العملة الإيرانية في اليوم التالي بمجرد الإعلان عن الاتفاق بمعدل 3%.
ثم إن الاتفاق يجعل دولا عطشى للنفط والمعادن والتصدير مع إيران تسعد بكسر الطوق. وهذا سيجعل أسعار النفط تتراجع ولو على مدى أبعد من زمن الاتفاق. وهو مفيد لإيران ومخيف لحكومات النفط، ولا يبدو أنه سيكون الانخفاض كبيرا بسبب حاجة أصحاب النفط الصخري والشركات لارتفاع الأسعار.
21
الاتفاق قد تكون له آثار اقتصادية دولية جيدة، والأثر الاقتصادي لا يعني أنه شر للمنطقة، قد يكون سلبيا على الضعفاء والشعوب المنهكة بالاستبداد وعديمة المبادارات، ولكن تحسن الاقتصاد وتحسن وضع الشعوب عالميا؛ أمر مفيد أن يقوم عالم الوفرة والرزق والصناعة والتجارة، بل إن الغرب يقرض أسواقا وحكومات ومناطق أحيانا على حساب بلاده –مؤقتا- ليبني له في الخارج أسواقا ويحرك اقتصادا يفيده، فليس الموقف الغربي المنفتح على إيران كله لصالحها فقط، بل إن الانفتاح مصلحة للشعوب المتعدية المصالح.
22
ليس صحيحا أن فقر منطقة يعني غنى أخرى، وانتشار الفقر يعني سيادة القلاقل، والشعوب الجائعة تنتقم ولو بالهجرة فقط، وقديوصلها آخرون أو الأغنياء المجاورون إلى أن تكون الحرب آخر ملجأ؛ فليحذر من يكيد جيرانه بإفقارهم أن يصبح هو ضحية حيلته.
23
كتبت النيويورك تايمز في صفحة “التحرير” استنكارا لموقف نتن ياهو وحكومته وانتقدت أيضا الجمهوريين –غالب الناقدين جمهوريون إلا “شومر” فهو من اليهود الصهاينة المتزمتين في ولائه لإسرائيل- في الكونجرس على سعيهم لمضاعفة الضغط والعقوبات على إسرائيل. وأن هذا الاستمرار ومضاعفة الحصار قد يسبب حربا، ويعيق التقدم في المصالحة، وكان تشديد الحصار قد قلل الدخل من النفط الإيراني من 110-120 مليار دولار إلى 40-50 مليار دولار أي أقل من النصف أو حوالي الثلث، ويقر المقال بأن إيران لن تتخلى عن برنامج صرفت عليه المليارات ومنعها من امتلاك السلاح النووي الذي أصبح يمثل رمزا للعزة الوطنية، وأن أمريكا لن تدخل في حرب مكلفة وتهز منطقة مضطربة، وقد التزم أوباما بالإقناع بأن العرض معقول ومقبول لكل الجهات.
24
خدعت أمريكا حكومات عربية خليجية واستنزفت النفط بأقصى ما يمكن للحقول والمعدات استخراجه، واستعملت نفط الخليج سلاحا لتركيع إيران، بحيث يتوافر النفط في الأسواق بكميات هائلة تمنع حاجة السوق العالمية للنفط الإيراني، وحاصرت نفط إيران بنفط العرب وبكل فعالية وتأثير، فلما خضعت إيران فاوضتهم واتفقت معهم، وتركت العرب بنفط مسفوك، ونقد محول لبنوكها، وبلا أمن، وللأسف فهي لما قررت الصلح لم ترسل لهم ولو مندوبا واحدا من باب “جبر الخواطر” ولكن كمية النفط الذي حاربت به أمريكا إيران كان ضد مصالح ومستقبل الشعوب في المنطقة، وسوف يأكله التضخم وآفات أخرى خليجية كثيرة، ولو بقي مخزونا استراتيجا لكان خيرا للمنطقة، لا سيّما في ظل أبحاث كثيرة مهمة تتحدث عن نضوب النفط.
25
الاتفاق قضى على صحة عقائد خليجية كثيرة، منها:
العقيدة الخليجية القائمة على أن مصدر الخوف هو الشعب وليس الخارج، قد تكون هذه الحادثة مساعدة في إعادة ترتيب مراتب الخوف.
نهاية التستر وراء عقيدة إقصاء الشعوب الدائم، فإن التخلي الأمريكي يجب أن يجلب الشعب لعلاقة حسنة مع الحاكم، وليس الهروب من مأمن غربي إلى مأمن إسرائيلي أو روسي أو إيراني وإبعاد الشعب.
نهاية عقيدة أن الحكومة الخليجية وكيلة للغرب ضد خصومه في المنطقة بدءا بالشعوب وانتهاءا بقوى بديلة جديدة.
نهاية عقيدة أن الزبون الذي يشتري السلاح الغربي آمن، لأنه يعمر ويحرك الأسواق وصناعة السلاح الغربي، ولكن يبدو أن الزبون سوف يبقى خائفا يتسول الأمن، وكلما تعرض للتعرية أكثر اقترب واشترى أكثر، فقد لا يبقى وليا فحسب بل خائفا ومستنزفا دائما، وهذا مؤشر توجه السياسة القادمة. ويبقى استذلاله بالمزيد من شراء السلاح، وإن كان سيذهب ليشتري من سوق أخرى كروسيا والصين وربما إسرائيل.
عقيدة أن هذه الأنظمة حليفة أو موالية لأنها تحارب التوجهات الإسلامية والعروبية،عقيدة تستحق إعادة النظر، لأن الغرب أصبح يفرق بين درجات الخلاف، ويعرف أن الإسلاميين لهم الشعبية والقدرة، وأن يوالي بعضهم ضد بعض، أو يقبل بالمعتدلين منهم، وليس من مصلحته بقاء مواجهات دائمة مع الإسلاميين، لأن العالم الإسلامي فهم أن هذا الموقف هو مجرد عداء للإسلام لا لفصيل منه، فوصل إلى نتيجة أن يقبل بوجود تيارات إسلامية حاكمة أو مشاركة في الحكم ولا يخرجها فيزيد العداء له، وحتى لا يبرر هذا عداء المجموعات الأكثر تشددا ضد الغرب، وحتى لا يكثّف عداوتها ويزيد عددها وأنصارها.
قلّت أهمية حكام الخليج كأعداء مجندين ضد التوجهات الإسلامية غربيا، بعد تواصل الغرب تعرفه على تفاصيل الحركات الإسلامية وخصوصا جماعة الإخوان في مصر، ولكن إسرائيل بحكم عدائها لحماس استطاعت تجنيد حكومات خليجية ضد الإسلاميين المعتدلين، فالهرهرة العربية والضجيج ضد الإخوان في الخليج أكثره مجرد صدى لموقف إسرائيلي أولا، ثم لموقف حكومي محلي ثانيا، ومتى عرفنا أن كثيرا من المعونات الخليجية تصرف للمجموعة الفلسطينية الموالية لإسرائيل، وتشارك إسرائيل في الموقف من حصارها لغزة، بل رضيت واستمرت في الصمت أو تأييد الحصار من قبل مذبحة 2008-2009 ومن بعدها إلى اليوم.
انتهى الكثير من فوائد الحكومات الخليجية بكونهم ممثلين للغرب ضد طموحات الشعوب في الديمقراطية والحرية، لأن قبضة الوكلاء الحديدية على الشعوب أنتجت عنفا ضد الغرب، وتبين أن دكتاتورية الحكومات الخليجية ومحاكمها الصورية وفشلها السياسي الظاهر ماهي إلا وجه من وجوه الفساد والنهب وتصاعد الغليان ضدها، وهذا يهدئه في نظر الغرب شيء من الحرية والعدالة، والذي لا يمكن للحكومات التابعة قبوله وهو منطقة خلاف بينهم وبين الأمريكان والأوروبيين، ولكن المصالح تكبت كثيرا ظهور هذا الصوت.
السياسات الخارجية المملاة على الحكومات الخليجية أنتجت تسليمها الخليج لطموحات خارجية كثيرة، كانوا يرونها في مصلحتهم، وساعدوا على تقوية تحالف بين من يرونهم خصومهم كإيران وتركيا. أما شعوبهم فأصبحت أكثر شكا وأقل ثقة في نياتهم تجاه مستقبلهم وحرياتهم، خاصة أن أمن وسياسة الخليج قد تتركه أمريكا لإسرائيل في ظل تغييب الشعوب عن المشاركة.
أنهى هذا فعالية الدوغمائية الخليجية في محاربة كل توجه إسلامي حتى ولو كان سينفعها، أورثت فشلا دائما جليا، ومتوقعا، فقد عادوا الثورة الإيرانية وكان من الأسباب كونها إسلامية، أو لفكرة تصدير الثورة، غير أن السبب الأكبر كونها ضد المصالح الغربية، ونسوا مصالحهم. وعادوا السودان بحجة أن حكومة البشير إسلامية، وبناء عليه أعانت حكومات عربية عبر تجار سلاحها المعروفين –بعضهم فاعل إلى اليوم- جرنج زعيم انفصال جنوب السودان على الانفصال، و وقتها كان الفاعلون في اقتطاع جنوب السودان الكنائس الأمريكية خصوصا وبقية خصوم الإسلام والعرب في السودان وانتهينا إلى مانراه الآن من خسارة عظمى مشهودة في السودان واقتطاع نصفه الغني.
إن الخلط الدائم بين الموقف الأيديولجي الحكومي المناوئ للمصالح العربية والإسلامية مع المصلحة الغربية وأيديولوجيتها تصبح أثقالا على الحكومات العربية متوالية وثقيلة فتضعفها وتسوقها إلى تصرفات متطرفة تودي بمصالحها أولا، قبل الضرر بمصالح العرب والمسلمين.
عقيدة “تدمير الآخرين لنبقى نحن”عقيدة فاشلةٌ تماما، فتدمير العراق والسودان واليمن ومصر لا يعني أنك الفائز حين تدمر جيرانك، إن الإضرار الحاصل أصبح علما على شخصيات معروفة منذ ثلاثة عقود لا تفهم إلا لغة التدمير والاغتيال، وهي تنفذ ما كانت تسمعه عن طريق السي أي أيه زمن الحرب الباردة، متكررة الأساليب باستمرار، ولو عاد عليها وعلى شعوبها بالضرر، فالأطراف نفسها وأحيانا الأشخاص أنفسهم ساعدوا وألبوا وقدموا كل عون متخيل لإسقاط صدام، فبدا الأمر شبيها بقصة تأخير حلق اللحية حتى يسقط صدام المشهورة التي قصّها بوب وود وورد. وانتهى الأمر بإسقاط صدام، وجاءت إيران وأصبحت على الحدود، ليطلق بعض متطرفي الشيعة العراقيين أو الإيرانيين صورايخ جراد منها، والواقع أسوأ من إطلاق الصواريخ، وهكذا تم إهداء أو تسليم العراق لإيران بسياسة عربية خليجية كان من دوافعها رغبة المحافظين الجدد “اليهود” في تأمين إسرائيل، وعبرت الخدعة بتمويل وسياسة عربية، وقل مثل هذا في الانقلاب الذي نرى مؤشرات فشله في مصر، وآثاره السيئة على من أعان عليه، فالانقلاب يتجه نحو جهات معادية لمن موله ورشى له كل جهات عديدة.
ينهي هذا الاتفاق -مهما قالوا إنه صغير- تلك العقلية المزاجيةالفردية التي تدير الأمور ببدائية، وأخذ يشد الجميع نحو مواقف لمصلحة الدول وليس لمصالح الأشخاص الشخصية والعارضة والتابعة. فبعض هؤلاء لا يفرقون بين مزاجهم الشخصي ومصير حكومات وشعوب، إن لك أن تكره أي فصيل في بلدك ولكن أن تكون مصدر تطرف استبدادي وفساد فهذه كارثة على الجميع.
بسبب تمكن الكراهية للإسلاميين وسيطرة العقد الشخصية لم يفكر خليجيون بحركة ولو تمثيلية أن يفتحوا أيديهم لقوى فلسطينية وعربية حقيقية مؤثرة، لتكون سترا لهم من العراء، وعونا لهم عند تخلي الحامي، فليس لهم من الجرأة والشجاعة ما يقربهم لسياسة واقعية، هذا مع آفاق ضيقة وقدرات ضعيفة محزنة، وتركوا زعماء سياسيين ومؤثرين على قوائم المنع من التواصل خضوعا لمطالب صهيونية متطرفة، ولو كانت هناك ذرة من نجابة سياسية لكان الحال غير الحال، ولكن السياسة تموت على أيدي بعضهم كموت الهمم والعقول والمبادرات.
عقيدة الخليج القائلة بأن إسرائيل هي أمريكا، هذه عقيدة مريحة للفكر، وموقف بدائي مهما بدا مبدئيا، وكان من المهم كسر الالتباس، ومعرفة الواقع، لا التبعية العمياء، فالتفاصيل مهمة، وهم يعرفون مسبقا أن هناك كراهية شخصية عميقة بين الرئيس الأمريكي ونتن ياهو.
رد بعض الحكومات العربية بالقول بـ “أن المهم هو النوايا الصادقة أو الطيبة”؛ قول لا معنى له فليس في السياسة تعلق بالنيات بل تعلق بالوقائع ونصوص العقود، وإذا كانت النيات لا قيمة لها في عالم العقود، فمن باب أولى ألا يفكر واعٍ في قصة النيات في التحالفات الدولية، بل هي في عالمنا القوة والقدرة والاستفادة من الفرص.
عقيدة بعض الحكومات أن السياسة هي: تأمين التحالف مع الخارج والقمع في الداخل، سياسة فاشلة ويجب أن تتغير، علاوة على أنها معادية للشعوب في زمن نهوضها، فإن الحكومة القوية هي تلك التي لها علاقة ثقة وتجانس في الداخل، والحكومات المهترئة هي تلك الحكومات القامعة في الداخل والعدائية معه، الودودة مع قوى الخارج، فكلما أظهر الدكتاتور توددا للخارج ظهر تناقضه وعدم الثقة بمسلكه وبمستقبله، وتلك كانت عقيدة قذافية خليجية مشتركة، ولذا عز سقوطه على شركائه في المهنة.
خيار الخليج الذهاب لروسيا ولإسرائيل ليكونا حليفين؛ مجرد خطوة خاطئة وفاشلة أخرى، لأن إسرائيل بعد التطبيع الواقعي مع عدد من الخليجيين تتحدث عن هيمنة قادمة لها على القرار السياسي في الخليج، وهذه ليست أساطير تقال بل حقائق تحدث أمامنا، ولم ننس تحالف مبارك مع إسرائيل في مذبحة غزة المؤسفة في تاريخ كل من سكت أو تهاون أو صمت فضلا عن من شارك.
سوف تبتز إسرائيل الخليج بحجة حمايتهم من إيران موقتا ثم تتركهم بعد استلامها لمقدراتهم وتورطهم في كل شيء، وقد تبين أن الشعوب المسلمة البعيدة وحكومات حرة كثيرة تخالف إسرائيل بينما يواليها ويخنع لها خط عربي قريب وبعيد منها.
خلافات الخليجين عميقة رغم التظاهر، وتجعلهم أقرب للتنسيق مع خصوم الخليج بعضهم ضد بعض.
26
ماذا تستفيد أمريكا والغرب؟
إنهاء حالة عداء مرهق تبين أنه لا يكف الإيرانيين عن تطوير سلاحهم ومواقفهم العسكرية، بل ضاعف المنتجات، وقد تولى أوباما الرئاسة والكمية المخصبة من اليورانيوم كانت قد بلغت ألفي كيلو غرام أويزيد قليلا، والآن بلغت كميةاليورانيوم المخصب حواليتسعة آلاف كيلو غرام. ومما علق به العلماء أنه في حال نجاح التخصيب والتجارب وتمرد إيران على الاتفاقات فإنها تحتاج إلى قريب من سنة ونصف لتستطيع تركيب القنبلة على صاروخ شهاب. كما يرى بعض المراقبين أن الاتفاق هو لمجرد شراء مدة ستة أشهر نحو إنجاز القنبلة. أما أحد شخصيات إدارة أوباما فيقول إنه في الخمسة عشر عاما الأخيرة كان دائما لدى إيران برنامج تسلح سري أو محاولة نووية سرية، ثم إن الأمريكان لا يثقون بأن الحرس الثوري لا يعد سلاحه النووي الخاص. وهناك من يرى أن تأجيل إنتاج السلاح النووي سيكون مفيدا حتى لأمريكا، فكما صرح كرستوفر هيل المفاوض الأمريكي في أزمة نووي كوريا الشمالية؛ “إن خمس سنوات من تأجيل العمل في المفاعل الكوري تستحق المحاولة.”
وقد أنفقت إيران في عام 2012 ستة مليارات على السلاح، وأنفقت حكومات الخليج مائة مليار، وأربعة ونصفالمصر، وإحدى حكوماته هي في السنوات القادمة خامس حكومة في العالم في التسليح، والسادسة بعدها خليجية أيضا، ومع هذا فقد بقي الخليج خائفا يهيم ظمأ للسلاح.
وكان من نصوص الاتفاق: إيقاف التطوير من نسبة 20% إلى أقل من 5% والتمكن من معرفة ما يحدث فعلا في المفاعلات، بمراقبة دائمة على مدار الساعة، وإيقاف منشأة أرك والماء الثقيل بها، وإيقاف استخدام ثمانية آلاف جهاز طرد مركزي تم تركيبها من قبل ولم تبدأ العمل. وهي اتفاقية مؤقتة لستة أشهر ويجري الاستعداد للجولات الطويلة التالية.
حاجة أمريكا إلى إيران في أفغانستان بعد خروجها، والطواقم المدربة والمتعلمة الآن في أفغانستان تدربت أو درست في جامعات إيرانية وشيعية في كابل، إذ استغلت إيران هزيمة طالبان فبنت قيادات وكوادر موالية لها في أفغانستان.
ثم حاجة أمريكا المستمرة لإيران في العراق، وحتى في سورية ولبنان، فقد تبين لها أن التحالف مع الخليج لا يساوي في السياسة ولا في المكاسب علاقتها مع إيران، وهي لن تفقد الخليج الخائف، وهو محتوى في الحضن ولن يفوت،أما مناورات تعلقه بروسيا فهي لا تزيد عن رشاوى عارضة، ولم تعد بعد روسيا لمنافسة الغرب.
الخليج قطع صلاته بالعالم ليرضي أمريكا، ومن الطريف أن حكومة خليجية كانت أيام صدام تمنع التعامل مع المعارضة الإسلامية السنية العراقية، وتقبل بالتعامل مع الشيعة، بل منعت السنة حتى من حقوق مشروعة لهم، هذه البدائية السياسية لم تطقها أمريكا ففتحت الخط مع إيران، خاصّة والسياسيون الأمريكيون تحدثوا بما كان يسوؤها من عدم وجود سياسيين في بعض البلدان لتتفاهم أو تتواصل معهم.
القيادات في منطقتنا يتمتعون بغفلة عن الجغرافيا السياسية، لأن غيرهم لا يريدهم أن يروها، فإن حكومات العرب على شاطئ الخليج حالها يختلف عن موقع وعلاقات إسرائيل وأمريكا فالجوار هنا يعني أن تصوغ نمطا سياسيا يناسبك ويختلف عن رأي إسرائيل ورأي أمريكا. ولو غادرت أمريكا غدا وراء المحيطات فما مقدار تضررها مقارنة بسكان هذه الأقاليم المجاورة لإيران؟ إن هؤلاء للأسف يأخذون المواقف ممن يؤثر عليهم جملة، وينفذونها كما قيلت لهم، ويزيدون كيلة، وهي كيلة المذهب والعنصرية المتبادلة عبر القرون، وهي ظواهر بعضها ثقافية ومنتشرة في كل بلاد الله. فتجدهم ينفذون العداء جملة والولاء جملة، وهذا نمط وافد وغير عملي ولا سياسي ويضر ويسيئ لكل شيء هنا، ولو وقع فيه غيرهم لما كان لائقا بهم ، كيف وهم أغلب من يوقده، ولا يتجاوز شيئا منه.
قطع الطريق على تقوية مجموعة البريكس علاقاتها مع إيران ودول البريكس هي: “البرازيل، وروسيا، والصين، والهند، وجنوب أفريقيا” خاصة أن هذه الحكومات رفضت المقاطعة النهائية وبعضها تناور على نسب تعامل قليلة مثل الهند وبدائل مادية عن الدولار، وهناك خوف من تفكك مجموعة الضغط على إيران.
طالما استطاع أعداء العالم العربي أن يملوا على الحكومات العربية تحديد عدوها بأنه الأفكار في المنطقة، أي الأفكار الإسلامية والقومية، وأي عناصر للحياة والتفكير والتأثير. وقد التزمت حكومات المنطقة التابعة بالعهد وهو إقصاء من كان له رأي أو أي فكرة أو أيديولجية مضادة للمحتل الغربي تحديدا، فهي تواجه اليساريين والقوميين والإسلاميين بالعزل والمنع عن أماكن التأثير والقرار، ولم يسقط هذاالعهد بعد سقوط روسيا، مع أنه كان من موروثات منظومة الحرب الباردة، السوفياتية الأمريكية، هذا العهد والوعد دمر القدرة السياسية في دول المنطقة، فليس كل مثقف بعثيّا ولا ناصريّا ولا إخوانيّا، وهؤلاء ليس كلهم يحملون خلافا حادا مع حكوماتهم، وإذا كان بعض اليسار المغضوب عليه واليمين الغربي تحسنت ظروفه أو تغير فكره فاستطاع وبسبب البيئة الديمقراطية أن يساهم في منظومات بلاده فإن هذا قد حرمت منه الحكومات والشعوب العربية فكانت خلافاتها الحزبية مرضا على وهن، فهي لا تملك الطاقات واستبعدت الموجود والمؤثر.
كما أن حكومات الخليج انشغلت مؤخرا بحرب الديمقراطية في بلدان الثورات، وكان همها كيف تعيد تنصيب الاستبداد على رؤوس الشعوب، فضيّعت العمل السياسي الدولي وضيعت مصالحها لاشتغالها بالإضرار بالعرب الآخرين.
المصالحة بين الغرب وأمريكا تعني تغييرا مهما قادما في أزمة البحرين، فمن غير الممكن استمرار التأزم هذا بعد المصالحة الأمريكية، وربما تتسع مناطق المصالحة إلى سوريةوإلى مناطق عديدة، لأن إيران تتقدم شابة وسياسية واعية ومتصالحة ومرنة وبراجماتية في مقابل مناطق عربية راكدة ويائسة وشائخة وعاجزة عن عرض أي بديل وأي محاولة قادرة على العمل مع غياب تام للمشاركة الشعبية.
27
قبل الاتفاق كانت بعض الدراسات تؤكد أن إيران قد تُغلب مصالحها النفعية على الأيديولوجيا الثورية والدينية، وبهذا يمكن أن تتنازل لإسرائيل وللغرب في مسألة السلاح النووي مقابل الحفاظ على سورية ولبنان مناطق نفوذ لها. وهي بهذا وبما يجري الآن تحقق بقاء مصالحها في سورية ولبنان وتكسر الحصار السياسي والاقتصادي، وتمد نفوذها، ليس إلى الخليج فقط ولكن للحفاظ على أطراف الامبراطورية الممتدة من حدود الصين إلى البحر الأبيض المتوسط، وكان لفشل حكومات خليجية دور في تأسيس هذا الوضع.
28
في إيران هناك صوت شعبي حقيقي وموجود مهما عورض وكبت ويتنفس من وقت لآخر ويؤثر، وهناك معارضة حقيقية مهما أسكتت، ولكنها جزء من الشعب ومن الصوت، وهناك جهات وأحزاب تنقسم بين الموافق والمخالف، وكان خامنئي قد رحب بالاتفاق بحذر، أما التوجه العام فهو تأييد وحفلة شعبية وحكومية عامة وفرحة بالاتفاق، لأسباب الخناق الاقتصادي الطويل، والملل من سياسة التجمد ضد الغرب، وهناك الشباب المتأثر المجذوب إلى نمط للعيش جديد، ولم يعاصر زمن ما قبل الثورة ولا مزاج الانتقام. غير أن أصوات من قبل الباسيج لم تزل عالية، تعترض على الاتفاق، وهناك خوف من هياج أو مظاهرات يسببها محافظون معترضون، ومنهم قريبون من الحكومة ومن المحافظين.
الطريف أن معارضة الكونجرس والسعودية وإسرائيل للاتفاق ساعدت روحاني والمرشد في الإقناع العام بأن الاتفاق مفيد لإيران عندما عارضه خصوم إيران التقليديون. وأيضا فإن من أهم مبررات القبول السائد في إيرانبالاتفاق هو النتيجة وهي الاعتراف العالمي بإيران نووية، وفك الحصار، وكذا الفهم بأن المرشد موافق، ويضغط متشددون إيرانيون بإنهاء كل الحصار، وإلا فإن المخالفين سيضغطون على روحاني للتراجع عن الاتفاق. وسبق للمخالفين أن واجهوا روحاني واستقبلوه برمي البيض والأحذية عليه عند عودته من نيويورك بعد مكالمة أوباما، التي رأوها مهينة لهم. وشبهوا الصلح باتفاق صدام مع الغرب “النفط مقابل الغذاء.” وهذا مشهد من الدبلوماسية الإيرانية المتوازية بين دبلوماسية الخارج وسياسة الداخل. كما أن التقسيم الشكلي للسلطات على ضعفه في إيران يقوي البلاد وينوع الرؤى، وهذا ما تفتقده حكومات الخليج.
29
من المهم ملاحظة أن الثورة الإيرانية ما زال بعض قياداتها يفكر باليسار واليمين ومعسكرات الحرب الباردة، ونتائج تفكيرها، وحكومات الخليج مهما كبرت وتعلمت وسافرت فإنها ترجع إلى عقلية خيمة في الصحراء يهددها غاز من قبيلة أخرى، وصاحب الضجة والعجة نافذ على طريقة القدماء، ولم تدخل بعض منظومات السياسة الخليجية إلى العصر الحديث، فهي ترى الخير في قبيلة الحاكم محضا والشر في القبائل الأخرى محضا، وهذا يمنع قيام مؤسسات ذات قدرة، ويمنع صعود حكومات ذات فكرة، أو حيوية سياسية.
30
الذي تحقق في الاتفاق يبدو صغيرا وإن كانت الحفلة كبيرة، ولكن المهم دلالاته ومستقبله فإن ما يشير إليه أمر كبير. كما أنه ليس نهائيا، ويمكن التراجع إلى بعض ما كان عليه الحال إلا الاعتراف بالبرنامج السلمي فقد حسم، ولو عند غيرهم. وليس لحكومات الخليج مكانة لأسباب عديدة حين يتحاور الكبار لحرص حكومات الخليج على أن تبقى ضعيفة وتابعة وصغيرة.
الخلاصة:
الاتفاق الإيراني ضرورة وليس مجرد حاجة، ولو تنازلت إيران عن النووي نهائيا فتجنبا لما هو أسوأ، وأما إن تمكنت إيران من إنجاز السلاح النووي فقد يعمل هذا على وجود توازن للإرهاب النووي بينها وبين إسرائيل، وسيجلب المزيد من التسلح النووي في تركيا وغيرها. وليس وجود السلاح الإيراني أقل خطرا وضررا من السلاح الاستعماري الصهيوني. وفي حال صدقت إيران في إنهاء مشروعها، فإن حال السلم والمصالحة تفسره حكومات خليجية شرا عليها، وليس الأمر كذلك، لأن مشكلة الموقف من إيران في أساسه مشكلة ضعف حكومات الخليجالسياسي المعروف، فإن الاتفاق إما أن يحسن من حالة التحدي، فتتحسن حقوق السكان، وتتحسن القدرات السياسية، أو تبقى على حالها، فهذه ليست مشكلة الإسرائيليينوإيران، إنها أزمات داخلية عويصة تريد إيقاف العالم مكانه كما هي واقفة: “تأكل القوت وتنتظر الموت”، وهذا لا يقبله آخرون ولا يريدونه.
كما أن بقاء حالة الانتظار الخليجية لدمار الآخرين أو ضربهم دلت التجارب الماضية أنه لا يزيد حكومات خليجية إلا المزيد من التخلف المتزمت، وما شراء السلاح من الغرب إلا مجرد رشاوى للغرب ليبقي حصاره قائما هناك، أو ليبقى كل شيء مكانه، وكل حال كما هو، وليست هذه سنة الحياة، والتجميد إن كان استراتيجة حكومات فإن غيرها يسعى لكسره، لكونه ضررا بالمنطقة وبالجميع، وإن وقفت فإن العالم يَسير ويُسيّر لما يسر ولما يضر. وقد يكون تورط إيران في علاقات سياسية منفتحة مع الغرب يخفف من غلواء شخصيات وأجنحة متزمتة في سلطتها.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)