عندما يحتقر اليسار العربي نفسه
قامت القيامة، ولم تقعد حتى الآن، بعد الإعلان عن منع صحافية إسرائيلية تعمل في صحيفة "هآرتس" الصهيونية، من المشاركة في مؤتمر عن "بدائل التطوير الليبرالي" في جامعة بير زيت في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
الصحافية عميرة هاس، والتي يحوّلها أصدقاؤنا اليساريون العرب إلى "أميرة"، إمعاناً في حشد مشاعر الاستنكار والإدانة للطلبة الفلسطينيين الذين أصرّوا على منعها من الحضور، كاتبة يسارية تكتب ضد الوحشية الإسرائيلية في التعامل مع الشعب الفلسطيني المحتل..
وهو ما صوّر لأصدقائنا في اليسار العربي كافياً لكي نغضّ الطرف عن هذا الاختراق التطبيعي، ونتناسى أنها، في نهاية المطاف، مواطنة إسرائيلية تعيش بالضرورة فوق أرض لفلسطيني أو فلسطينية أخرى، وتسكن بيتاً كان لفلسطينية سابقة، هجرت قسراً أو قُتلت أو أُبعدت بلا حقّ في العودة.
إن العودة إلى المراوغات التطبيعية المضحكة، بعد أكثر من عشرين عاماً على تجريب تلك الثنائيات اللطيفة عن "صقور وحمائم" بين الإسرائيليين، يعدّ نوعاً من إدمان احتقار الذات، والانسحاق الكامل أمام مقولاتٍ جرى اختبارها عمليّاً على مدى عقود، لم يكن لها من نتائج سوى أن الاحتلال يتجذّر ويتمدّد، والحق الفلسطيني يتآكل ويتراجع.
ومن عجب أن الذين انهالوا بسياط الكلام على ظهور طلبة الجامعة الرافضين لهذا الاختراق، ما زالوا يتعاطون تلك الأوهام السخيفة عن المستعمر الطيّب والمستعمر الشرير، والإسرائيلي المبتسم والإسرائيلي المتجهّم، وكأن الابتسامة تكفي لكي تنسينا أنهم كلّهم، بصقورهم وحمائمهم، يعيشون فوق عظام أسلافنا الذين قتلهم وأبادهم أسلافهم.
ولا يصلح القول بأنها تُعارض وحشية ممارسات الاحتلال حجةً لكي نعتبرها منّا، ونحن منها، فالسيدة ليست ضد الاحتلال، وليست ضد استباحة الأرض والتاريخ، هي فقط ضد توحّش الاحتلال، ومن ثم لن يغيّر كونها يسارية تقدمية من كونها مستعمرة شيئاً، هي في نهاية المطاف "عدو"، وإن ابتسمت في وجوهنا أو تأثرت لمشاهد قتلنا.
وما يدور من ضجيج بعد منع الصحافية الإسرائيلية من أن تحاضر في جامعة بيزيت العربية، لا يختلف كثيراً عن مماحكات تطبيعية جرت في سنوات مضت، لعلّ أحدثها محاولة وزارة الثقافة المصرية، في عهد حسني مبارك وفاروق حسني، إيجاد ثغرة في حائط رفض التطبيع الثقافي باستقدام الموسيقار الإسرائيلي، دانيال بارنبويم، مسبوقاً بكلمة "الأرجنتيني"، ساعتها قلنا إن لصق "الأرجنتيني الأصل" قبل اسمه، لن يقلّل من إسرائيليته في شيء، مهما حاول البعض إقناعنا بأنه إسرائيلي لطيف، يحب الفلسطينيين ويكره إسرائيل، كما أن محاولة استثمار صداقته المفكر الفلسطيني ـ الأميركي، إدوارد سعيد، لنفي صفة "التطبيع" عن زيارته، ليست أكثر من نكتة.
ويبقى أن أقصى ما يمكن أن تقدمه الصحافية الإسرائيلية لن يزيد عمّا صدر عن الموسيقار بارانبويم، كتصوّر لعلاقة الاحتلال الصهيوني والشعب الفلسطيني، والتي رآها الموسيقار كالتالي: "إذا عاش زوج وزوجته لسنوات، وظل يعاملها بطريقة سيئة جداً إلى درجة أن تشعر في النهاية بأنه ليس هناك من شيء تخاف فقدانه، فإنها تذهب، أو تقتل زوجها".
ولو كانت الصحافية مع الحق الفلسطيني فعلاً، لما تباطأت لحظة في التخلّص من "إسرائيليتها"، كما فعل يهود آخرون انحازوا لإنسانيتهم وأقرّوا بالحق، مثل الحاخام الذي أحرق جواز سفره الإسرائيلي أمام عدسات التلفزيون في تظاهرات منددة بالهمجية الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني في غزة ٢٠٠٩، وكما فعلت أيضاً المحامية اليهودية فيليتسيا لانجر، التي لم تكتفِ بأن أخذت على عاتقها الدفاع عن الفلسطينيين في غزة والضفة، بل تخلّصت من جواز سفرها الإسرائيلي، بعد الانتفاضة الأولى، وقررت العيش في أوروبا بجنسية أخرى.
وفّر دموعك أيها اليسار العربي، فشهداؤنا وأسرانا أولى بها، أما محاولة وضع هذه المستعمِرة ـ بكسر الميم الثاني ـ في سياق واحد مع محمود درويش وآخرين حملوا الجنسية الإسرائيلية قسراً، فهذا هو المعنى الكامل لاحتقار الذات، والانسحاق التام أمام ابتسامة مصنوعة من العدو.
إن العودة إلى المراوغات التطبيعية المضحكة، بعد أكثر من عشرين عاماً على تجريب تلك الثنائيات اللطيفة عن "صقور وحمائم" بين الإسرائيليين، يعدّ نوعاً من إدمان احتقار الذات، والانسحاق الكامل أمام مقولاتٍ جرى اختبارها عمليّاً على مدى عقود، لم يكن لها من نتائج سوى أن الاحتلال يتجذّر ويتمدّد، والحق الفلسطيني يتآكل ويتراجع.
ومن عجب أن الذين انهالوا بسياط الكلام على ظهور طلبة الجامعة الرافضين لهذا الاختراق، ما زالوا يتعاطون تلك الأوهام السخيفة عن المستعمر الطيّب والمستعمر الشرير، والإسرائيلي المبتسم والإسرائيلي المتجهّم، وكأن الابتسامة تكفي لكي تنسينا أنهم كلّهم، بصقورهم وحمائمهم، يعيشون فوق عظام أسلافنا الذين قتلهم وأبادهم أسلافهم.
ولا يصلح القول بأنها تُعارض وحشية ممارسات الاحتلال حجةً لكي نعتبرها منّا، ونحن منها، فالسيدة ليست ضد الاحتلال، وليست ضد استباحة الأرض والتاريخ، هي فقط ضد توحّش الاحتلال، ومن ثم لن يغيّر كونها يسارية تقدمية من كونها مستعمرة شيئاً، هي في نهاية المطاف "عدو"، وإن ابتسمت في وجوهنا أو تأثرت لمشاهد قتلنا.
وما يدور من ضجيج بعد منع الصحافية الإسرائيلية من أن تحاضر في جامعة بيزيت العربية، لا يختلف كثيراً عن مماحكات تطبيعية جرت في سنوات مضت، لعلّ أحدثها محاولة وزارة الثقافة المصرية، في عهد حسني مبارك وفاروق حسني، إيجاد ثغرة في حائط رفض التطبيع الثقافي باستقدام الموسيقار الإسرائيلي، دانيال بارنبويم، مسبوقاً بكلمة "الأرجنتيني"، ساعتها قلنا إن لصق "الأرجنتيني الأصل" قبل اسمه، لن يقلّل من إسرائيليته في شيء، مهما حاول البعض إقناعنا بأنه إسرائيلي لطيف، يحب الفلسطينيين ويكره إسرائيل، كما أن محاولة استثمار صداقته المفكر الفلسطيني ـ الأميركي، إدوارد سعيد، لنفي صفة "التطبيع" عن زيارته، ليست أكثر من نكتة.
ويبقى أن أقصى ما يمكن أن تقدمه الصحافية الإسرائيلية لن يزيد عمّا صدر عن الموسيقار بارانبويم، كتصوّر لعلاقة الاحتلال الصهيوني والشعب الفلسطيني، والتي رآها الموسيقار كالتالي: "إذا عاش زوج وزوجته لسنوات، وظل يعاملها بطريقة سيئة جداً إلى درجة أن تشعر في النهاية بأنه ليس هناك من شيء تخاف فقدانه، فإنها تذهب، أو تقتل زوجها".
ولو كانت الصحافية مع الحق الفلسطيني فعلاً، لما تباطأت لحظة في التخلّص من "إسرائيليتها"، كما فعل يهود آخرون انحازوا لإنسانيتهم وأقرّوا بالحق، مثل الحاخام الذي أحرق جواز سفره الإسرائيلي أمام عدسات التلفزيون في تظاهرات منددة بالهمجية الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني في غزة ٢٠٠٩، وكما فعلت أيضاً المحامية اليهودية فيليتسيا لانجر، التي لم تكتفِ بأن أخذت على عاتقها الدفاع عن الفلسطينيين في غزة والضفة، بل تخلّصت من جواز سفرها الإسرائيلي، بعد الانتفاضة الأولى، وقررت العيش في أوروبا بجنسية أخرى.
وفّر دموعك أيها اليسار العربي، فشهداؤنا وأسرانا أولى بها، أما محاولة وضع هذه المستعمِرة ـ بكسر الميم الثاني ـ في سياق واحد مع محمود درويش وآخرين حملوا الجنسية الإسرائيلية قسراً، فهذا هو المعنى الكامل لاحتقار الذات، والانسحاق التام أمام ابتسامة مصنوعة من العدو.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق