الثلاثاء، 14 أبريل 2015

الانهيار القادم للثورة المضادة


الانهيار القادم للثورة المضادة

أحمد بن راشد بن سعيّد

المدهش والمؤلم في مآلات الربيع العربي حتى اللحظة ليس في الإنجاز الكبير الذي حققته الثورة المضادة، بل في احتفاء بعض العرب بها، وتبريرهم لاستمرار الوضع الراهن (status quo)، أو دبج المدائح في الاستبداد بصفته واحة الأمان، و «المنقذ من الضلال».
ولم يأل الليبروفاشي الخليجي جهداً في هذا الصدد، لاسيما لفيف من كتاب جريدة «الشرق الأوسط»، وآخرين من جريدة الرياض كمحمد المحمود ويوسف أبا الخيل الذي ما فتئ يهجو ما يسميه «البعير العربي»، ويعلق على مشاهد الدمار في مدينة حمص بقوله: «مجرم هذا الإعصار العربي».
 ظاهرة الثورة المضادة التي أخذت شكل الانقلابات والميليشيات والمال الفاسد والهياج الدعائي كان لا بد أن يصاحبها إرجاف شبيحة هذه الثورة عن خطورة الهبّات الشعبية ومآلاتها، وضرورة الخنوع للطغيان بوصفه واعداً ولو بحد أدنى من «الاستقرار» و «أكل العيش».

بعد الانقلاب الدموي في مصر، اختفى الحديث عن الديموقراطية واستقلال القضاء وحرية التعبير وغيرها من القضايا التي طنطن حولها الليبروفاشيون في مصر والخليج برهة من الزمن نكاية بمرسي والإخوان المسلمين، ولم يعد أحد هؤلاء وهو طارق الحميد، الكاتب في «الشرق الأوسط»، يزعق حول مسألة «فصل السلطات» التي خالفها مرسي بحسب زعمه، مع أن العالم كله سيسخر من شخص كالحميد لا يدرك ثقافة فصل السلطات، بل ربما لا يعرف معناها.
 تغوَّلت الثورة المضادة قي مفاصل المجتمع المصري، ما يعيد إلى الذاكرة حكاية «الأخونة» التي لم تكن سوى أسطورة. 
في الحقيقة، كانت السنة اليتيمة التي عاشتها الثورة المصرية بعد انتخاب أول رئيس مدني ملأى بالأساطير التي أُريد بها إجهاض تجربة ديموقراطية هشّة ووليدة؛ أساطير نجحت في تحويل العرس إلى مأتم.
ربما يسخر بعض المغيَّبين من نفسه الآن وهو يتذكر تصفيقه لكائن ليبروفاشي مصري ظهر على شاشة قناة العربية قبل أشهر من الانقلاب وهو يزعق: «لقد فعل مرسي ما لم يفعله هتلر في ألمانيا، وموسوليني في إيطاليا، وفرانكو في إسبانيا».
ولا أدري إن كان بعض هؤلاء يتذكر كيف انتشرت في الصحافة الغربية والإسرائيلية مقارنة مرسي بفرعون في إطار حملة كونية لشيطنته.
حتى مجلة الإيكونومست البريطانية (المعروفة برصانتها) صوّرت في رسم لها مرسي على شكل هرم (أبو الهول) وهو يسحق مواطناً مصرياً. حتى صحيفة كيهان الإيرانية وصفته بأنه فرعون في طور التشكّل.

نجحت الثورة المضادة ليس في إعادة الحكم إلى الحرس القديم فحسب، بل في خلخلة الإيمان بقيم الانتفاضات الشعبية والتشكيك في نجاعتها، فما الذي ستجنيه الشعوب من التغيير غير الفوضى والدم وانهيار الدولة فيما زعموا.
فداحة الخطب لا تكمن في إجهاض جنين الثورة، بل في إزهاق روحها: في إحلال الخوف محل التضحية؛ في استبدال تقديس الزعيم بإعلاء الكرامة؛ في الاستقواء بالطاغية بدلاً من الاحتكام إلى القضاء؛ في تغليب «لقمة العيش» على ضرورات الحرية وحقوق الإنسان والحكم الرشيد.
 لم تجد الثورة المضادة عناءً كبيراً في إعادة إنتاج الولاء للدولة العميقة؛ لأن هناك بالفعل حنيناً لها، وتماهياً معها؛ ولأن الثقافة الديموقراطية لم تضرب جذورها في العقل الجمعي والفضاء العام. 
ولهذا، لم يكن غريباً أن نرى من يقبّل «البيادة» أو حذاء العسكر، أو يحتضن صورة «المنقذ» الذي «كمّل جميله» فانتخب نفسه، ولم يكن غريباً أن تقوم مدارس تابعة للحرس القديم بنشر صور أطفال وهم يرفعون أحذية العسكر فوق رؤوسهم، ولم يفاجئني قول مواطن مصري وزوجته لي: «احنا ما ينفعش يحكمنا إلا العسكر، وهمّا اللي يقدروا يديروا البلد».
ولما كان المُقصى عن السلطة إسلاميين، فلا بأس أن يستثير الانقلابيون ضدهم غريزة الخوف؛ ويسوّقوا الانقلاب بوصفه «إنقاذاً» من «عودة إلى الوراء»، وحكم «قروسطي» و «خلافة» و «دولة دينية»، كما لا بد من التحذير من «همجيتهم» ضد النصاري، وترويج مزاعم عن تشكيلهم «ميليشيات» لحرق الكنائس وقتل مرتاديها.
وحتى بعد الانقلاب والزج بالرئيس مرسي وراء القضبان، ماتزال الحملة عليه قائمة، بما في ذلك التشكيك في عقيدته الدينية. 
في الفترة التي سبقت الانتخابات، وفي ظل هجمة مسعورة على الإسلاميين واتهامهم بالعزم على تهميش النصاري، صرّح مرسي لقناة تليفزيونية أنه «لا يوجد خلاف بين العقيدتين الإسلامية والمسيحية، فكل يعتقد بما يشاء»، وهي عبارة مُوهمة، وما كان له أن يقولها بلا إيضاح لاسيما في ظل سياق يتربص به الدوائر. التيار الجامي (أو أدعياء السلفية)، وهم من أجنحة الثورة المضادة، التقطوا هذا التصريح لينالوا ببساطة من عقيدة الرجل مستبعدين أي احتمال لسوء فهم أو تعبير، ولم ينظروا إلى انتمائه إلى حركة إسلامية، ولا إلى حفظه القرآن، ولم يسألوا أنفسهم: كيف لرجل مسلم يصلي ويصوم ويزكي ويحج، ثم يعتقد بعد ذلك أن دينه ودين النصارى سواء؟ لقد نسوا كل تاريخ الرجل وكفاحه من أجل الدعوة، وتجاهلوا عمداً كيف ترضّى على الخلفاء الراشدين بأسمائهم في عقر الدولة الصفوية حتى اضطرت أجهزة تلك الدولة إلى تحريف ترجمة خطابه--تجاهلوا ذلك واقتطعوا جزءاً من تصريح له في قناة تلفزيونية؛ ليرموه وجماعته عن قوس واحدة بفساد العقيدة.
وقد أوضح الشيخ محمد عبد المقصود في اتصال بقناة الناس أن مرسي أصدر بياناً بعد اللقاء قال فيه إنه «لا يمكن أن يقول مسلم بعدم وجود خلاف بين المسلمين والنصارى في العقيدة، وإنما قصدت (أنه يجب ألا يحدث خلاف بين المصريين) «بسبب العقيدة»، وقد كلمني الدكتور أيضاً، فينبغي أن يقف الأمر عند هذا الحد، وهذا هو الظن بالدكتور..وقد قلت له: لو أنك ذكرت كلمة «بسبب...» لانتهت القصة، فقال: ازاي تظنوا بيّا غير كده»!
هذا التوضيح لم ينل حظاً من الشهرة، واستمر أقوام في نهش عقيدة الرجل، وكأن عقيدتهم صافية كالبلّور، وكأنهم ملائكة لا يخطئون ولا ينبغي لهم أن يخطئوا، وكأن الولي «المتغلب» الذي خلف مرسي صحيح العقيدة قائم بشعائر التوحيد ومقتضيات الإيمان، وكأن الإمام المسلم في عصرنا يجب أن يكون نسخة من أبي بكر وعمر حتى يصبح أهلاً للولاية، وكأن هذه الأمة في تاريخها الطويل لم يقدها خلفاء وأمراء مؤمنين ارتكب كثير منهم أخطاء جسيمة (منها أخطاء في العقيدة) فما نال ذلك من «شرعيتهم»، ولا جوّز إقصاءهم وخطفهم وقتل أبنائهم والبغي عليهم.
يجهل أولئك أيضاً أو يتجاهلون أن للسياسة فقهها وسياقاتها وضروراتها التي قد لا تتفق تماماً مع ما درسوه في الكتب، ولم تحظ بتأصيل شرعي كافٍ عبر القرون.

نجحت الثورة المضادة ولم تنجح؛ إذ أكدت من خلال استباحتها الدين ثقافة وتاريخاً ومساجد ومناهج تعليم أن ذلك ما كانت تقصده بالأخونة. حتى الحجاب دعوا إلى مليونية لنزعه، وطالب كائن انقلابي اسمه سامح أبو عرايس بمنع المذيعات المحجبات من العمل في التلفزيون لأن الحجاب «عادة إخوانية».
حتى سِيَر أبطال الإسلام كعقبة بن نافع وصلاح الدين الأيوبي حذفوها من المقررات، بل أحرقوا الكتب الإسلامية كما فعلت مديرية تعليم الجيزة بحجة أنها تحرض على الإرهاب، منها ما ألّفه شيخ الأزهر عبد الحليم محمود، ومنها عناوين يُفهم منها الإرهاب المقصود مثل «دور المرأة ومكانتها في الحضارة الإسلامية»، و «أضواء على أهمية الصلاة في الإسلام»، و «حضارة الإسلام: دروس مستفادة» (لم يستدعِ أحد في وسائط التصهين في الخليج أمثولة «الفاشية»، ولم يعقد مقارنة بالغزو المغولي).
 الخصومة مع الثورات المعبرة عن أشواق الجماهير، والعداء للمرجعية الإسلامية لمن انتخبتهم هذه الجماهير، وانبعاث الدولة العميقة، وجر البلاد إلى حروب سرمدية على ما يُسمى «الإرهاب»--كل ذلك ينبي بفشل الثورة المضادة، وهو من ناحية أخرى، انتصار للمظلومين والمقهورين من ضحاياها.

ثمة وعي متزايد بخطورة الثورة المضادة على الأمن القومي، وفشلها في إدارة البلاد، لاسيما في ظل تسريبات لا تنتهي تؤكد ارتهانها لقوى إقليمية ودولية. ستنهار المنظومة الانقلابية؛ لأن الضحايا يقاومون ويرفضون الاستسلام، ولأن الانقلابي «محض لص» كما غرّد يوماً أمل دنقل، ولن يطول الوقت قبل أن يجلب المسلوبون اللص إلى العدالة.


• @LoveLiberty

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق