نظرة عامة على العصر العباسي الأول
لقد كان عصر العباسيين الأقوياء هو عصر مجد الدولة العباسية، وكالعادة في عصور المؤسسين يكثر الرجال الأقوياء الذين أقاموا الدولة فحولوها إلى واقع بعد ما كانت حُلمًا وأمنية، ثم إن هذا الجيل يورثها إلى أبنائه ممن تعهدهم بالرعاية والعناية والتدريب لكي يحملوا هذه الأمانة من بعدهم، ثم يأخذ الحال في الضعف والانحلال بنشوء جيل نشأ في القصور والترف ولم يعانِ مما ذاقه جيل المؤسسين، ولم تبلغ بهم الرعاية والعناية مثلما بلغت المعاناة الحقيقية بآبائهم، وهكذا حتى يظهر الخلفاء الضعفاء فيتسلط عليهم الوزراء أو العسكر أو تأتي دولة أخرى تذهب بالدولة كلها وتعيد سيرة السابقين!
وقد شهد هذا العصر العباسي عدة تغيرات مهمة في مسار التاريخ الإسلامي نشير إليها بإيجاز سريع:
(1)
الإمامة وتغير الفكرة عن الحاكم
لقد توفي رسول الله – صلى الله عليه وسلم- دون أن يعهد إلى أحد بعينه بالخلافة، وترك الأمر شورى، ولذا اختلف المسلمون فيمن يولونه عليهم حتى استقر أمرهم على أبي بكر الصديق (رضي الله عنه)، ثم كان واضحًا لدى المسلمين ولدى أبي بكر أن استحقاقه الخلافة لم يكن إلا باختيار الناس وبتوكيل الأمة له، فهو وكيل عن الأمة وليس وصيًّا عليها أو مستحقًا للخلافة بميزة أو بعهد! فكان للأمة أن تعزله مثلما نصبته وأن تحاسبه وتراقبه، فهو واحد منها.وقد استمر هذا ثابتًا راسخًا في عهد الخلافة الراشدة، الخليفة يكتسب شرعيته من اختيار الناس له، فهكذا كان عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم جميعًا!
ثم رأى معاوية (رضي الله عنه) أن يعهد بالخلافة لابنه من بعده، تجنبًا للفتن والمشكلات والصراع على منصب الخلافة بعد ذهاب الكبار وعودة العصبيات (1)، وقد رضيت الأمة بهذا فيما عدا اثنين: خرج أحدهما (الحسين بن علي) ولم يخرج الآخر (عبد الله بن الزبير)، ثم أثبت التاريخ أن بني أمية كانوا العصبة الأقوى والأقدر على حكم الدولة الإسلامية، بل وهم الذين حققوا أوسع الفتوحات التي نشرت الإسلام في جنبات الدنيا مما لم يستطعه أحد بعدهم.
إلا أن تلك اللحظة كانت أول انحراف عن الشورى التي أقرها النبي – صلى الله عليه وسلم- والتي اطردت في عهد الخلافة الراشدة، لكن بقي الحاكم يعرف أن لا شرعية له إلا باختيار الناس ولا ميزة له عليهم ولا اختصاص له دونهم، وكان الحكم ينتقل في الدولة الأموية إلى الأقوى من بيت الخلافة وليس الابن بالضرورة.
أما التغير الكبير فقد جاء مع الدولة العباسية، فهنا ظهرت للمرة الأولى فكرة «استحقاق آل البيت بالخلافة» وأن الأمر ليس مجرد اختيار الناس لخليفتهم، بل هو أمر مقرر سلفًا، فالخليفة متميز بأنه من بيت النبوة، وأن الله قد اختص هذا البيت بعلم لم يكشفه لأحد غيرهم، يجعلهم وحدهم أهل تولي هذه المسؤولية، وتظل بيعة الناس التزامًا على الناس بالسمع والطاعة لخليفتهم.
وهذه الفكرة ابتكرها اليهودي عبد الله بن سبأ منذ عهد عثمان رضي الله عنه وكانت أول الفتنة، لكنها تسربت فيما بعد إلى الشيعة وظلت تتمدد وتُلتمس لها الأدلة والروايات حتى صارت فكرة راسخة لديهم قامت كثير من الشخصيات بترجمتها إلى ثورات طوال العهد الأموي، ثم كانت هي الفكرة الأساسية التي اعتمدت عليها الدولة العباسية.. الدعوة إلى «الرضا من آل محمد».
ولما كانت هذه الفكرة تجمع العباسيين والعلويين، وتُشَغِّب على العباسيين انفرادهم بالخلافة من بين آل البيت، ظهرت فكرة أخرى تجعل العباسيين وحدهم أولى بهذا المنصب.. تلك هي اعتبار الخلافة ميراثًا، وحيث إنها كذلك فإن أولى الناس بها بعد النبي – صلى الله عليه وسلم- هو عمه العباس، فقد مات النبي ولا ولد له، ولكن العباسيين لم يصنعوا مذهبًا جديدًا على غرار الشيعة بل كان الأفضل لهم أن يقولوا بأنه طالما رضي العباس عن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان فخلافتهم صحيحة من قبيل تنازل صاحب الحق عن حقه.
والصحيح الذي لا شك فيه أن كل هذا كلام باطل، وأنه اختُرِع لإسباغ الشرعية على الصراع السياسي، لكن الذي يهمنا في هذا السياق هو الإشارة إلى تغير الفكرة عن الخليفة، فهو لم يعد اختيار الناس بل هو حق شرعي لمجموعة من الناس هم «آل البيت»، ثم هم «العباسيون».
وهذا الانحراف عن الإسلام هو أكبر بكثير وأعظم بكثير من ذلك الانحراف الجزئي الذي كان في صدر الدولة الأموية، لأنه يؤسس لفكرة شرعية ولا يتحدث عن الاضطرار وحكم الضرورة ومصلحة الأمة كما كان الأمويون يتحدثون.
فمن هنا بدأت فكرة «الإمام الولي أو الوصي على الأمة» من بعد ما أسس الإسلام لقاعدة «الإمام وكيل عن الأمة».
وقد ساهم في رسوخ هذه الفكرة وتجذرها عدد من العوامل منها:
1. استمرار التنظيم العباسي «الدعوي» حتى بعد قيام الدولة، فقد «ظل الخليفة العباسي صاحب الدولة في مقام الإمام صاحب الدعوة وكانت له رسائل إلى أتباعه، كما كان لأتباعه رسائل إليه، واستمرت الصلات بتنظيمات الدعوة وجماهيرها، واعتمد الحكم في العصر العباسي الأول على القاعدة الجماهيرية للدعوة، وبالنظر في الرسائل المحفوظة – ومنها على سبيل المثال رسائل الخميس لأحمد بن يوسف، والتي استمرت حتى عهد المتوكل- يتبين أن التعليمات كانت تُرسل إلى المريدين من مختلف الأقطار للاحتفاظ بتشكيل الدعاة والنقباء والعمال، ولعلَّ هذا هو ما أكسب النظام السياسي صلابة وقوة، وهو يفسر ما قام به أنصار الخلافة من تبرير لأعمالهم في «رسائل التقريظ» (2).
2. ومنها كون الفرس والموالي قد أصبحوا هم رجال الدولة العباسية، وهم الذين اعتادوا على فكرة الولاء للسيد، فالفارسي صاحب تقاليد عريقة ضاربة في القدم منذ الحكم الكسروي في الإمبراطوريات الفارسية، والمولى لا طمع له في المنافسة على السلطان!
وقد كان من البصيرة النافذة للإمام محمد بن علي إدراك هذا الأمر، وهو الاستعانة بالموالي من غير ذوي الأصول العربية، فبهذا استطاعت الدولة العباسية أن تحفظ بقاءها لفترة طويلة حتى وإن كان الخليفة ضعيفًا مغلوبًا على أمره كما سيبدو في العصور التالية، لكن وجودهم رسخ فكرة حق العباسيين في الخلافة وكيف أن أحدًا لا ينبغي له منافستهم عليها، فقنعوا بالوجود في مصاف الوزراء والأجناد.
على أن ثمة نتيجة أخرى في غاية الأهمية ترتبت على وجود الفرس كرجال للدولة، تلك هي:
(2)
المظاهر السلطانية
لقد ظلت الدولة الأموية عربية في أسلوبها وتقاليدها، فهم لم يتخذوا قصورًا ملكية للحكم، ولم يتخاطبوا مع الناس بـ«سيدي» أو «مولاي»، ولم يكن في بلاطهم تقبيل اليد أو تقبيل الأرض أمام الخليفة، ولم يتخذوا ألقابًا ملكية.
بينما سنجد المظاهر السلطانية انتقلت إلى الدولة العباسية، فكأنما جددت البلاط الفارسي الكسروي، فصار للخليفة ألقاب ومراسم وتقاليد ملكية، ودخل التعظيم الكسروي إلى قصر الخليفة العباسي، ودخلت في النظام الإسلامي فكرة الوزير صاحب الصلاحيات الواسعة في التصريف والتدبير.
وعلى الجانب الآخر كان اشتعال نزاع عربي- عربي كبير كفيلًا بتقويض الدولة الأموية، بينما كان غاية ما تفعله الصراعات الفارسية أو التركية أو العربية أن تنقل الخلافة من عباسي إلى عباسي آخر، لأنهم جميعا يعلمون استحالة قبول الناس لهم كخلفاء!
وهكذا، كان دخول الفرس بميراثهم الكسروي من عوامل الاستقرار نوعًا ما وإطالة عمر الخلافة العباسية، ولكنه كان أيضًا من عوامل انحراف كبير عن الأسلوب الإسلامي في تقرب الخلفاء من الناس ورعايتهم المباشرة لأحوالهم.
لقد صار الخلفاء محجوبين عن العامة، قد يظهرون في العام مرة أو مرتين، ويفصلهم في حال احتجابهم مساحات من الفخامة والترف والمظاهر الملكية، فإذا كان حال ظهورهم ظهروا في مواكب ملكية فاخرة تزيغ لها العيون رهبة ورغبة!
لقد كانت طبقة الكُتَّاب وأصحاب الدواوين غالبًا من الفرس في ذلك العصر، فنقلوا الأدبيات السلطانية الفارسية، ويعد تراث ابن المقفع مثالًا واضحًا، بل إن ثمة مؤلفات – مثل الوزراء والكتاب للجهشياري- يبدو واضحًا فيها استقرار الأمر على اعتبار تاريخ الوزراء الإسلامي تَبَعًا لتاريخ الوزراء الفرس، وشاعت في أدبيات تلك الفترة الحِكَم الفارسية وتاريخ ملوك آل ساسان وأقوالهم وأفعالهم وأسلوبهم في السياسة والإدارة، بل إن موجة الترجمة الهائلة التي بلغت ذروتها في عهد المأمون والتي نقلت كل ما طالته يدها من تراث روماني لم تنقل أبدًا آداب الرومان ومسرحياتهم وأساطيرهم، ومن أقوى ما قيل في تفسير هذا إن الأدب الفارسي كان أقرب إلى الإسلام من الأدب الروماني واليوناني الممتلئ بتعدد الآلهة وصراعاتها وقصصها الأسطورية السخيفة، ثم إن هذا الأدب الفارسي الذي شاع في تلك الفترة خصم طبيعي وتاريخي للأدب اليوناني، فيصح أن يقال إن الأدب الفارسي كان قد سدَّ هذا الاحتياج أو حتى منع من تسرب هذه الأفكار – المخاصمة للتراث الفارسي- عن وعي!
ومن هنا دخلت المظاهر السلطانية إلى الحياة الإسلامية، ثم دخل التنافس إلى قلوب الخلفاء في بناء القصور وتكثيرها والمبالغة في فخامتها لتحكي للأجيال سيرته وعظمته، وكان هذا انحرافًا جديدًا عن المسار الإسلامي كما تبدى في سيرة النبي والخلفاء الراشدين.
وحيث بُنيِت القصور الفاخرة التي احتجب فيها الخلفاء عن الناس، فقد استتبع هذا ظاهرة أخرى، تلك هي:
(3)
الشراب ومجالس السمر
لقد صار من اليسير بعد هذا الاحتجاب عن العامة أن تنشأ مجالس تشهد ما لا يمكن أن تقبله العامة، وأن تنمو حاشية تحف بالملك في أوقات سمره ولهوه، فتطربه بأخبار القدماء وأيامهم وآدابهم وأشعارهم وطرائفهم ونوادرهم، ولئن كان خلفاء العصر العباسي الأول من الجد واليقظة ما جعل مجالسهم هذه بحرًا من الثقافة، فإن من بعدهم لم يكونوا هكذا، بل صارت مجالسهم بحرًا من اللهو!
وفيما عدا المنصور يعد وجود الشراب جزءًا من سيرة أولئك الخلفاء في لحظات سمرهم، وقد اخْتُلِفَ كثيرًا فيما إذا كان هذا الشراب من المُسكر المحرم أم هو من الحلال، وهو خلاف مشهور بين علماء العراق وعلماء الحجاز، لكن كثيرًا من المجالس شُرب فيها الخمر وقيل فيها ما هو حرام من الأشعار، وكتب الأدب تفيض بأخبار هذا وتبالغ فيه جدًّا إلى الحد الذي يجعل الأخذ منها والثقة في أخبارها في حكم المستحيل أحيانًا. وأشهر ما يُذكر في هذا كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني الذي وُصِف بحق بأنه «النهر المسموم» لكثرة ما يرويه من الخرافات والأكاذيب (3)!
لكن المبالغات لا تنفي الأصل الذي تتناثر أخباره في كتب التاريخ والتراجم وغيرها، وهذا بلا شك انحراف عن المسار الإسلامي!
ولعل كل هذه الانحرافات تجعل القارئ يتساءل:
(4)
أين كانت الأمة؟
أين كانت الأمة لتصحح هذا وتقومه وتعيده إلى مساره؟ وأين كان علماؤها وفقهاؤها؟
لقد كانت الأمة موجودة وقائمة وتمارس مقاومتها لكل هذه الانحرافات؛ فالعلماء يمارسون المقاومة العلمية بالكتابة والتأليف والتدريس، كما يمارسون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو للخليفة نفسه، وكم استطاع العلماء رد الخلفاء عن انحرافات ومنعهم منها، وكم استطاعوا تعديل أوضاع خاطئة أو منعها والوقوف دون تمريرها.
لقد وقف العلماء ضد أفكار العباسيين والعلويين في الإمامة، وما زالت كتب الأحكام السلطانية وكتب الفقه التي كتبت في ذلك الوقت تؤكد على أن الخليفة بالاختيار وأنه وكيل عن الأمة وليس وصيًّا عليها، وأن الخلافة ليست ميراثًا ليكون مختصًا في آل البيت أو في نسل العباس عم النبي – صلى الله عليه وسلم-، لكنهم كانوا يوازنون بين السكوت على هذه الانحرافات لا سيما والخلفاء يقيمون الشريعة ويجاهدون العدو ويحفظون الثغور وبين الخروج عليهم، فمنهم من رأى الخروج ومنهم من أدت به الموازنة إلى السكوت على منكر دفعًا لمنكر وفتنة أشد منه وأعظم!
ووقف العلماء المسلمون بالمرصاد أمام تسرب الثقافة الفارسية إلى الحياة العربية، ونقبوا وقلبوا ليعيدوا كتابة تاريخ العرب وأيامهم وأنسابهم وأبطالهم، فظهرت مؤلفات كثيرة كانت تُغني عن سير الأكاسرة وعن بلاطهم، كما كان العلماء خلف كل حركة شعوبية تحاول القضاء على الإسلام أو نشر الإلحاد والزندقة والمجون والاستهتار، وفي كتب الطبقات والتراجم أخبار كثيرة تثبت وقوف الأمة في مواجهة انحرافات السلطة، ولولا هذه المقاومة لكنا نكتب الآن تاريخًا آخر، حتى وإن كنا نقر ونعترف أنها مقاومة لم تبلغ غايتها التي كانت تطلبها كاملة.
وفاضت كتب العلماء بالتحريض على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والفقه الإسلامي هو الفقه الحافل بهذه الشعيرة غير الموجودة في أي منهج آخر – كما شهد بذلك المستشرق الأمريكي مايكل كوك وأفاض فيه، في كتابه الضخم “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي”- لكي تعظم “مناعة المجتمع” ضد ما يمكن أن يتسرب إليها من انحراف مع طول الأمد أو لأي سبب آخر (4).
المصادر
[1] انظر في هذا مقال: هل كان معاوية مخطئا حين ورث الخلافة ليزيد؟ ومقالات: معاوية والتوريث مرة أخرى (ج1، ج2، ج3).
[2] د. حسن أحمد محمود: العالم الإسلامي في العصر العباسي ص128، 129.
[3] ولتقريب الصورة، فإن هذا الوضع هو شبيه بأن تأخذ صورة للمجتمع من المسلسلات والأفلام، فهي صورة كاذبة بيقين إلا أن لها أصلا صحيحا، ونحن المصريون أعرف الناس بأن المسلسلات والأفلام المصرية لا تنقل حقيقة الناس والمجتمع، وكم عانى المتغربون حين رأوا بعض الشعوب تظن أن المصريات كلهن راقصات وأن المصريين كلهم منحرفين، وأن الخمر مشروب حاضر في البيوت، وأن البار جزء أساسي من الديكور!
[4] انظر لتفصيل هذا مقال: صناعة مناعة المجتمع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق