السعودية ومواجهة بحر النار الإقليمي
شريف عبدالعزيز
من قال أن التاريخ لا يمكن أن يعيد نفسه ؟! ومن قال أن لكل عصر أزماته وأدواته التي لا تتكرر؟! ومن قال أن زمان الحروب الصليبية قد انتهى ؟! وأن فكر أوربان الثاني وطموحات أنوسنت الثالث ، ونبؤات ليو العاشر قد اندرست ونسيت؟! أو أن طموحات الرافضة الاثنى عشرية قد توقفت؟! ومن قال أن أحلام إسماعيل الصفوي، ورايات طهماسب، وخطط عباس الثاني لم تعد تصلح للتطبيق وطواها الزمان ؟! بل من قال أن أعداء العالم الإسلامي – على اختلاف راياتهم - قد تخلصوا من عماية التعصب والبغي والرغبة الجامحة في القضاء على الأمة المحمدية أينما وجدت؟!
فالحق الذي لا مراء فيه ، والذي تصدقه الوقائع كل يوم ؛أن الغرب وحلفاءه لم يتخلصوا يوما من ميراث العداوة مع العالم الإسلامي ، ولم ينسوا يوما أن المسلمين قد فتحوا الصين والهند والأندلس والقسطنطينية ودوى آذانهم في جميع ربوع الأرض من أدناها إلى أقصاها ، وأذلوا الجبابرة ، وهدموا عروش الأكاسرة والأباطرة .
ولكن أعجب ما في هذه العداوة المزمنة أن الغرب وحلفاءه مازالوا يستخدمون نفس الأدوات التي استخدموها من قبل في محاربة العالم الإسلامي ومحاولات تفجيره وتفخيخه ،دون مراعاة لفروق التوقيت،واختلاف العصر،وتغير الطبائع والمجتمعات.
فقديما ومع نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر بدأت الدول الأوروبية تتبنى استراتيجية توظيف الأقليات سياسياً لحل المسألة الشرقية، أي تفكيك الدولة العثمانية، والقضاء على وحدتها، وكانت روسيا تتدخل بشكل سافر لصالح الأرثوذكس، وفرنسا كانت تتدخل لحماية الكاثوليك، وأمريكا تتدخل لحماية البروتستانت، واستغلت هذه الدول الامتيازات أسوأ استغلال لتعزيز الأقليات اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً إلى حد أنها أصبحت الجزر التي استندت إليها قوى الاستعمار في نهاية القرن التاسع عشر والعشرين لاحتلال العالم الإسلامي، كما أن الدول الغربية تحت دعوى مبدأ القومية وحق الشعوب في تقرير مصيرها شجعت الأقليات على الثورة العسكرية المسلحة ضد الدولة العثمانية, حتى استقلت وانفصلت عنها.
وفي الفترة الاستعمارية كانت العقلية الغربية القائمة على زرع الفتن والمؤامرات, تضع ألغاماً لصنع مشكلة أقليات بعد رحيل الاستعمار، وكل مشكلات التوترات العالمية اليوم في القارة الأفريقية، وفي المجتمعات الإسلامية هي وليدة الفترة الاستعمارية التي كانت تستند إلى الأقليات في الحكم والسيطرة، وهو ما جعل الأغلبيات تنتفض ضد تحكم الأقليات، لتدشن أسوأ أنواع الحروب وأشدها بغيا وأنكاها أثرا وأطولها عمرا ؛الحرب الطائفية .
الطائفية منتج ثقافي يمثل أسوأ إفرازات العقل عندما يتحجر ويفقد صلته بنور السماء ، تاريخها قديم موغل في القدم ، ابتدعها يهود عندما زعموا أنهم شعب الله المختار ، وأنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه ، عندما أطلقوا على غيرهم من الأمم والشعوب اسم " الأميين " وأباحوا لأنفسهم فعل كل المحرمات والموبقات بحق غيرهم من الأميين ، لذلك كان أول ظهور لفكرة الطائفية في الأمة الإسلامية على يد يهود أيضا ، فعبد الله بن سبأ اليهودي المتأسلم هو الذي أوجد بذرة الطائفية في العالم الإسلامي ، فهو رائد فكرة التشيع الذي فرق به الأمة الواحدة .والطائفية بدأت كفكرة لا تروج إلا على الموتورين و الحاقدين والشعوبيين و المغفلين إلا إنها ومع مرور الزمان وكثرة المصائب أصبحت مثل كرة الثلج التي ألقيت من على قمة الجبل فتدحرجت حتى صارت مثل السيل الذي يكتسح كل شيء في طريقه ، وهو ما يحاول الغرب استساخ تجاربه المريرة عبر العصور ، بضخ دماء جديدة في شرايين الطائفية في محيطنا العربي والإسلامي ، وكلمة السر هذه المرة هي " التمكين للأقليات " .
مسألة التلاعب أو التحكّم بورقة الأقليّات وحقوق الإنسان مسألة معروفة قديما في العرف السياسي الأمريكي الخارجي، وهذا الأسلوب يظهر الولايات المتّحدة بمظهر المدافع عن حقوق البشر وتوجّهاتهم في وقت تعاني هي أصلا فيه من عنصرية بغيضة تجاه الأقليات سواء العرقية أو القوميّة.والخطة الأمريكية الجديدة تقوم على استعمال ورقة الأقليات لزعزعة استقرار ووحدة الدول القائمة في الشرق الأوسط لاسيما أن لهذه الورقة قوّة كبيرة وقد تؤدي إلى مواجهات عنيفة تتفكك على إثرها الدولة إلى دويلات طائفية وعرقية أو تضعف الدول كثيرا في أحسن الأحوال؛ لأنّ الدولة في الشرق الأوسط بطبيعتها الحاليّة ومنذ انهيار الدولة العثمانيّة هي دولة قوميّة بالأساس وتضم عددا كبيرا ومتنوعا من الأعراف والطوائف والقوميات.
هنري كسينجر عرّاب السياسة الخارجية الأمريكية لعقود ، ومازال ، وضع في أوائل الثمانينيات نظرية "حرب المائة عام" بين السنّة والشيعة ، على غرار حرب المائة عام الأوروبية في القرن السادس عشر بين الكاثوليك والبروتستانت ، خلاصتها :"يمكن الولايات المتحدة الأمريكية ومعها حليفتها إسرائيل من أن تفرض هيمنتها على منطقة مجزأة، تشتعل فيها الحروب المذهبية والطائفية والإثنية هو تأجيج الخلاف العقائدي بين السنة والشيعة" .
تعكس تلك النظرية التي تلاقي رواجا واسعا في دوائر صنع القرار في أمريكا والغرب ، المزاج التفسيري السائد في المنطقة، الذي ينظر إلى المعارك المشتعلة في مناطق مختلفة من جغرافيا العالم العربي بخلفياتها ودوافعها "الطائفية" باعتبارها تخطيطا ماكرا، أو توظيفا ذكيا لورقة الطائفية للوصول إلى ما تسعى إليه إسرائيل من إضعاف الدول العربية وتفتيتها عرقيا ودينيا ومذهبيا.
ولئن كانت بعض الدول العربية قد اصطلت بنيران الطائفية المحرقة، وتجرعت غصصها المريرة، كما في الحالة العراقية والسورية واليمنية، فإن الهدف الأهم الذي طالما حلم بتحقيقه مدبرو الحروب الطائفية ، هو المملكة السعودية التي تمثل حاضرة الإسلام السنّي ، وقلب العالم الإسلامي كله .
أمريكا تراهن على إيران منذ وصول أوباما للبيت الأبيض لتنفيذ إستراتيجيتها القديمة الحديثة ، فأساس التفكير الأميركي الحالي مبني على رؤية أوباما لإيران كقوة تتحلى بمنطق ويبرع حكامها في "حسابات الربح والخسارة"، حسب تعبير الرئيس الأميركي.كما يعتقد أوباما أن للإيرانيين حضارة تمتد آلاف السنوات،وإعادة إيران كحليف أمريكا الرئيس في الشرق الأوسط،كما قبل العام 1979،هو مصلحة أمريكية بحتة.وتظهر سلسلة مواقف أوباما، منذ دخوله البيت الأبيض مطلع العام 2009، أنه لم يألو جهدا للتقرب من إيران وحكامها،ففي "الثورة الخضراء"،وقفت أمريكا متفرجة ولم تدِن قمع النظام الإيراني الدموي للمنتفضين، وفي الأعوام 2010 و2011، فتح أوباما باب العراق على مصراعيه أمام النفوذ الإيراني الذي أخلّ بالموازين الطائفية الدقيقة وأعاد العراق الى حربه الاهلية التي اندلعت بين الأعوام 2006 و2008 ، ومنذ العام 2009، رمى أوباما ثقله خلف المفاوضات النووية التي أفضت لاتفاقية مع الإيرانيين.
وعلى مرّ السنوات السبع الماضية، دأب الرئيس الأميركي على إرسال الرسائل الخطية إلى مرشد الثورة الإيراني علي خامنئي في محاولة لرأب الصدع بين البلدين.
وتجلى التعاون بين فريق أوباما و"اللوبي" الإيراني في قيام الرئيس الأميركي بتعيين "سحر نوريزادة" مديرة الشؤون الإيرانية في مجلس الأمن القومي الذي تترأسه سوزان رايس. وقبل تعيينها في منصبها الرفيع في البيت الأبيض، سبق لنوريزادة أن عملت في المجلس القومي الإيراني - الأميركي، الذي يترأسه تريتا بارسي، والأخير يتمتّع بصداقة وثيقة مع وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف منذ أن عمل الأخير موفداً لبلاده في الأمم المتحدة في نيويورك.
طبعا هذا التقارب والانسجام الذي يصل لمرحلة العشق والغرام المتبادل بين أمريكا وطهران له ما يبرره وفق الخطوط العامة للسياسة الأمريكية القائمة على إغراق منطقة الشرق الأوسط بالصراعات الطائفية ، فإيران خير من يلعب هذا الدور.
فتاريخيا وأيديولوجيا ومجتمعيا وثقافيا ، إيران هي رائدة التوتر الطائفي في العالم الإسلامي ، والراعية الأولى للفرقة والاختلاف والتكفير باسم الدين في العالم الإسلامي.
ولنا أن نتسائل في هذا المقام عن عدة أمور :
فمن أشعل نيران الطائفية في العراق حتى جعلها بحرا من الصراعات المميتة التي ابتلعت مئات الآلاف من أهل العراق؟ وصدّر أمثال المالكي والجعفري والخزعلي والعامري وغيرهم من السفاحين باسم الطائفة واستعادة الحق المسلوب؟
ومن سلّح المليشيات الشيعية في العراق لتكون عصابات تصفية وانتقام من أهل السنّة ؟
ومن أشرف وأخرج مشروع الحوثيين في اليمن ، بعد إعادة تدوير لتصورات زيدية راديكالية، أقرب إلى التشيع الاثني عشري منها إلى الاتجاه العام للميراث الزيدي؟
وعملت العلاقة المتنامية بين الحوثيين وإيران خلال التسعينات والعقد الأول من هذا القرن على تأكيد التوجه الشيعي للجماعة اليمنية الدينية الهامشية، وعلى تعزيز مقدراتها التسليحية والمالية، ونشاطاتها التعليمية والتبشيرية، حيث يقدم الحوثيون أنفسهم في محافظات الأغلبية الزيدية، باعتبارهم حراس المذهب وحماة أتباعه، ويضفون طابعاً طائفياً على حرب هي في أصلها وحقيقتها حرب جيوسياسية . ومن دفع بحزب الله اللبناني إلى الداخل السوري للمشاركة بقوة ومبكرا في قمع السوريين ودعم نظام الأسد ؟ وتورط الحزب الطائفي في الشأن السوري حتى قبل ظهور المعارضة المسلحة ، اعتباره دفاعاً استباقياً عن بعلبك والهرمل في مواجهة خطر التكفيريين (السنة) .
والحقيقة أن حزب الله ذهب إلى سوريا لأسباب طائفية بحتة؛ لأن إيران على قناعة بأن النظام السوري هو نظام علوي – شيعي يواجه ثورة سنية.
ومن المسئول عن ولادة الحشد الشعبي،آخر ظواهر الطائفية الإيرانية في المشرق والعالم الإسلامي ؟!فقد تشكل الحشد بفتوى دينية من مرجع شيعي، وتشكل حصرياً من وحدات شيعية، وينحدر أغلب قياداته وكوادره من تنظيمات شيعية طائفية، مارست القتل والخطف على الهوية والتفجير خلال سنوات التدافع الطائفي السابقة في العراق ، ليلعب هذا الظهير الطائفي الجديد دور الجيش الوطني في دولة ولاية الفقيه الإيراني على العراق .
كل هذه الأفخاح الطائفية والألغام الشيعية المسئول عنها إيران وحليفتها الوثيقة أمريكا ، واللذان يسعيان سويا لتفجير المنطقة بموجة جديدة من الصراع الطائفي الذي يحيل المنطقة من المحيط إلى الخليج إلى بحر من النيران اللاهبة التي لا تبقي ولا تذر ، ولم يبق على إنفاذ هذا المشروع الشيطاني سوى جر السعودية لهذا المستنقع الطائفي من أجل تفجيرها وتفخيخها ، لو عدنا للواراء قليلا لوجدنا تصريحات من أعلى المسئوليين الإيرانيين تتحدث عن ذلك صراحة ، أجرأها التصريح العاصف للسياسي والبرلماني المخضرم " على رضا زكاني" في جلسة 5 نوفمبر 2014 والذي تحدث فيها عن قرب إنهيار المملكة السعودية ، وهيمنة إيران على العالم الإسلامي بعدها ، وأشار إلى سماه مرحلة “الجهاد الأكبر” لدى إيران. مشيرا إلى نية إيران لإعداد وتصدير مشروعها ونموذجها من الثورة الإسلامية للمنطقة الأكبر، من أجل تحقيق ما يُفهم على أنه استقلال وتحرر سياسي واجتماعي وديني في إطار ثوابت الإسلام .
وللتأكيد على هذه العلاقة الوثيقة والخطة المعدة سلفا بين أمريكا وإيران من أجل تفجير المنطقة بالصراعات الطائفية ، واستهداف السعودية تحديدا بهذه الحرب ، تبارت الصحف الأمريكية هذا الأسبوع في الهجوم على المملكة بعد إعدام "النمر" وقرار قطع العلاقات مع إيران ، حتى أن من فجاجة الهجوم الإعلامي الأمريكي على السعودية تشعر أن اللطمة السعودية قد وقعت على صدغ أمريكا وليس إيران.
صحيفة "نيويورك تايمز"، الأقرب إلى البيت الأبيض، نشرت افتتاحية وصفت فيها إعدام السعودية لمواطنيها بـ"العمل البربري"، ونشرت في صفحة مقالات الرأي -وهذه غالباً ما تكون الرأي الآخر المخالف لرأي الصحيفة- مقالة أخرى بعنوان: "لعبة السعودية الطائفية الخطيرة"، فيما قام مراسلها في البيت الأبيض، ديفيد سانجر، بتدبيج مقالة حمّل فيها السعودية مسؤولية التوتر في المنطقة واحتمال انفراط عقد المفاوضات السورية المقررة في جنيف ، حتى في صفحة "مساحة للنقاش"، نشرت الصحيفة 4 مقالات، بقلم الإيرانية هالة إسفندياري والمعارض السعودي علي الأحمد والفلسطيني الذي سبق طرده من الخليج إياد بغدادي،والمقالة الرابعة، وهي الأقل عداء للمملكة، جاءت بقلم مسؤول أوباما السابق للملف الإيراني دنيس روس.
وفي مراكز الأبحاث وبين الأكاديميين، تحرّك مناصرو إيران، وتصدّرهم عميد كلية الدراسات الدولية الإيراني "ولي نصر"، ابن آية الله رضا نصر. واتهم نصر في تغريداته السعودية بإثارة النعرات الطائفية. أما المفارقة، فتكمن في أن نصر هو صاحب كتاب "النهضة الشيعية" الذي يحضّ فيه واشنطن على استبدال حلفائها الحاليين السنّة في الشرق الأوسط بإيران .
بالجملة فإن الخلافات السنية الشيعية خلافات عقائدية وتاريخية قديمة، لكن ما يبعثها بين الحين والآخر ويؤجج نيرانها هي الأجندات السياسية المتصارعة في المنطقة، التي تجد في تلك الورقة الطائفية بابا واسعا لتحقيق أهدافها المحددة بعناية
لذلك حسنا ما فعلت السعودية عندما انتبهت للفخ الإيراني الأمريكي ، وأكدت على لسان وزير دفاعها أنها لن تتورط في حرب طائفية ضد إيران ،وأنها تتدرك طبيعة العلاقات الأمريكية الإيرانية ،وانحياز إدارة أوباما لمشروع إيران الطائفي ، ولكنها لن تقف كتوفة الأيدي أمام كل هذه المؤامرات ، لذلك يجب الحذر والانتباه بشدة في الأيام القادمة ، فالمملكة قد كشفت الغطاء ، وفضحت المؤامرة ، واللعب في الأيام المقبلة سيكون على المكشوف.
ولكن يبقى في النهاية تقرير الحقيقة التي لابد أن تعيها إيران وحلفاؤها من الأمريكان والروس؛أن الصراع مع السعودية بهذا المنطق الطائفي ،سوف يقود إلى جحيم لن تكون طهران أو حلفاؤها هم الطرف الرابح فيه بكل تأكيد؛ فالرياض لو أعلنت "نفير الجهاد" ضد الشيعة لن يكون بمقدور أي أحد الحديث عن وجود إيراني مستقر في المشرق الإسلامي، وتضيع مكتسبات عقود طويلة ماضية حاربت فيها طهران لتكريس مناطق نفوذها الحالية، خصوصًا في العراق وسوريا ولبنان. لذلك فهي لعبة خطرة يجب على الجميع الانتباه لها .
ولكن أعجب ما في هذه العداوة المزمنة أن الغرب وحلفاءه مازالوا يستخدمون نفس الأدوات التي استخدموها من قبل في محاربة العالم الإسلامي ومحاولات تفجيره وتفخيخه ،دون مراعاة لفروق التوقيت،واختلاف العصر،وتغير الطبائع والمجتمعات.
فقديما ومع نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر بدأت الدول الأوروبية تتبنى استراتيجية توظيف الأقليات سياسياً لحل المسألة الشرقية، أي تفكيك الدولة العثمانية، والقضاء على وحدتها، وكانت روسيا تتدخل بشكل سافر لصالح الأرثوذكس، وفرنسا كانت تتدخل لحماية الكاثوليك، وأمريكا تتدخل لحماية البروتستانت، واستغلت هذه الدول الامتيازات أسوأ استغلال لتعزيز الأقليات اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً إلى حد أنها أصبحت الجزر التي استندت إليها قوى الاستعمار في نهاية القرن التاسع عشر والعشرين لاحتلال العالم الإسلامي، كما أن الدول الغربية تحت دعوى مبدأ القومية وحق الشعوب في تقرير مصيرها شجعت الأقليات على الثورة العسكرية المسلحة ضد الدولة العثمانية, حتى استقلت وانفصلت عنها.
وفي الفترة الاستعمارية كانت العقلية الغربية القائمة على زرع الفتن والمؤامرات, تضع ألغاماً لصنع مشكلة أقليات بعد رحيل الاستعمار، وكل مشكلات التوترات العالمية اليوم في القارة الأفريقية، وفي المجتمعات الإسلامية هي وليدة الفترة الاستعمارية التي كانت تستند إلى الأقليات في الحكم والسيطرة، وهو ما جعل الأغلبيات تنتفض ضد تحكم الأقليات، لتدشن أسوأ أنواع الحروب وأشدها بغيا وأنكاها أثرا وأطولها عمرا ؛الحرب الطائفية .
الطائفية منتج ثقافي يمثل أسوأ إفرازات العقل عندما يتحجر ويفقد صلته بنور السماء ، تاريخها قديم موغل في القدم ، ابتدعها يهود عندما زعموا أنهم شعب الله المختار ، وأنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه ، عندما أطلقوا على غيرهم من الأمم والشعوب اسم " الأميين " وأباحوا لأنفسهم فعل كل المحرمات والموبقات بحق غيرهم من الأميين ، لذلك كان أول ظهور لفكرة الطائفية في الأمة الإسلامية على يد يهود أيضا ، فعبد الله بن سبأ اليهودي المتأسلم هو الذي أوجد بذرة الطائفية في العالم الإسلامي ، فهو رائد فكرة التشيع الذي فرق به الأمة الواحدة .والطائفية بدأت كفكرة لا تروج إلا على الموتورين و الحاقدين والشعوبيين و المغفلين إلا إنها ومع مرور الزمان وكثرة المصائب أصبحت مثل كرة الثلج التي ألقيت من على قمة الجبل فتدحرجت حتى صارت مثل السيل الذي يكتسح كل شيء في طريقه ، وهو ما يحاول الغرب استساخ تجاربه المريرة عبر العصور ، بضخ دماء جديدة في شرايين الطائفية في محيطنا العربي والإسلامي ، وكلمة السر هذه المرة هي " التمكين للأقليات " .
مسألة التلاعب أو التحكّم بورقة الأقليّات وحقوق الإنسان مسألة معروفة قديما في العرف السياسي الأمريكي الخارجي، وهذا الأسلوب يظهر الولايات المتّحدة بمظهر المدافع عن حقوق البشر وتوجّهاتهم في وقت تعاني هي أصلا فيه من عنصرية بغيضة تجاه الأقليات سواء العرقية أو القوميّة.والخطة الأمريكية الجديدة تقوم على استعمال ورقة الأقليات لزعزعة استقرار ووحدة الدول القائمة في الشرق الأوسط لاسيما أن لهذه الورقة قوّة كبيرة وقد تؤدي إلى مواجهات عنيفة تتفكك على إثرها الدولة إلى دويلات طائفية وعرقية أو تضعف الدول كثيرا في أحسن الأحوال؛ لأنّ الدولة في الشرق الأوسط بطبيعتها الحاليّة ومنذ انهيار الدولة العثمانيّة هي دولة قوميّة بالأساس وتضم عددا كبيرا ومتنوعا من الأعراف والطوائف والقوميات.
هنري كسينجر عرّاب السياسة الخارجية الأمريكية لعقود ، ومازال ، وضع في أوائل الثمانينيات نظرية "حرب المائة عام" بين السنّة والشيعة ، على غرار حرب المائة عام الأوروبية في القرن السادس عشر بين الكاثوليك والبروتستانت ، خلاصتها :"يمكن الولايات المتحدة الأمريكية ومعها حليفتها إسرائيل من أن تفرض هيمنتها على منطقة مجزأة، تشتعل فيها الحروب المذهبية والطائفية والإثنية هو تأجيج الخلاف العقائدي بين السنة والشيعة" .
تعكس تلك النظرية التي تلاقي رواجا واسعا في دوائر صنع القرار في أمريكا والغرب ، المزاج التفسيري السائد في المنطقة، الذي ينظر إلى المعارك المشتعلة في مناطق مختلفة من جغرافيا العالم العربي بخلفياتها ودوافعها "الطائفية" باعتبارها تخطيطا ماكرا، أو توظيفا ذكيا لورقة الطائفية للوصول إلى ما تسعى إليه إسرائيل من إضعاف الدول العربية وتفتيتها عرقيا ودينيا ومذهبيا.
ولئن كانت بعض الدول العربية قد اصطلت بنيران الطائفية المحرقة، وتجرعت غصصها المريرة، كما في الحالة العراقية والسورية واليمنية، فإن الهدف الأهم الذي طالما حلم بتحقيقه مدبرو الحروب الطائفية ، هو المملكة السعودية التي تمثل حاضرة الإسلام السنّي ، وقلب العالم الإسلامي كله .
أمريكا تراهن على إيران منذ وصول أوباما للبيت الأبيض لتنفيذ إستراتيجيتها القديمة الحديثة ، فأساس التفكير الأميركي الحالي مبني على رؤية أوباما لإيران كقوة تتحلى بمنطق ويبرع حكامها في "حسابات الربح والخسارة"، حسب تعبير الرئيس الأميركي.كما يعتقد أوباما أن للإيرانيين حضارة تمتد آلاف السنوات،وإعادة إيران كحليف أمريكا الرئيس في الشرق الأوسط،كما قبل العام 1979،هو مصلحة أمريكية بحتة.وتظهر سلسلة مواقف أوباما، منذ دخوله البيت الأبيض مطلع العام 2009، أنه لم يألو جهدا للتقرب من إيران وحكامها،ففي "الثورة الخضراء"،وقفت أمريكا متفرجة ولم تدِن قمع النظام الإيراني الدموي للمنتفضين، وفي الأعوام 2010 و2011، فتح أوباما باب العراق على مصراعيه أمام النفوذ الإيراني الذي أخلّ بالموازين الطائفية الدقيقة وأعاد العراق الى حربه الاهلية التي اندلعت بين الأعوام 2006 و2008 ، ومنذ العام 2009، رمى أوباما ثقله خلف المفاوضات النووية التي أفضت لاتفاقية مع الإيرانيين.
وعلى مرّ السنوات السبع الماضية، دأب الرئيس الأميركي على إرسال الرسائل الخطية إلى مرشد الثورة الإيراني علي خامنئي في محاولة لرأب الصدع بين البلدين.
وتجلى التعاون بين فريق أوباما و"اللوبي" الإيراني في قيام الرئيس الأميركي بتعيين "سحر نوريزادة" مديرة الشؤون الإيرانية في مجلس الأمن القومي الذي تترأسه سوزان رايس. وقبل تعيينها في منصبها الرفيع في البيت الأبيض، سبق لنوريزادة أن عملت في المجلس القومي الإيراني - الأميركي، الذي يترأسه تريتا بارسي، والأخير يتمتّع بصداقة وثيقة مع وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف منذ أن عمل الأخير موفداً لبلاده في الأمم المتحدة في نيويورك.
طبعا هذا التقارب والانسجام الذي يصل لمرحلة العشق والغرام المتبادل بين أمريكا وطهران له ما يبرره وفق الخطوط العامة للسياسة الأمريكية القائمة على إغراق منطقة الشرق الأوسط بالصراعات الطائفية ، فإيران خير من يلعب هذا الدور.
فتاريخيا وأيديولوجيا ومجتمعيا وثقافيا ، إيران هي رائدة التوتر الطائفي في العالم الإسلامي ، والراعية الأولى للفرقة والاختلاف والتكفير باسم الدين في العالم الإسلامي.
ولنا أن نتسائل في هذا المقام عن عدة أمور :
فمن أشعل نيران الطائفية في العراق حتى جعلها بحرا من الصراعات المميتة التي ابتلعت مئات الآلاف من أهل العراق؟ وصدّر أمثال المالكي والجعفري والخزعلي والعامري وغيرهم من السفاحين باسم الطائفة واستعادة الحق المسلوب؟
ومن سلّح المليشيات الشيعية في العراق لتكون عصابات تصفية وانتقام من أهل السنّة ؟
ومن أشرف وأخرج مشروع الحوثيين في اليمن ، بعد إعادة تدوير لتصورات زيدية راديكالية، أقرب إلى التشيع الاثني عشري منها إلى الاتجاه العام للميراث الزيدي؟
وعملت العلاقة المتنامية بين الحوثيين وإيران خلال التسعينات والعقد الأول من هذا القرن على تأكيد التوجه الشيعي للجماعة اليمنية الدينية الهامشية، وعلى تعزيز مقدراتها التسليحية والمالية، ونشاطاتها التعليمية والتبشيرية، حيث يقدم الحوثيون أنفسهم في محافظات الأغلبية الزيدية، باعتبارهم حراس المذهب وحماة أتباعه، ويضفون طابعاً طائفياً على حرب هي في أصلها وحقيقتها حرب جيوسياسية . ومن دفع بحزب الله اللبناني إلى الداخل السوري للمشاركة بقوة ومبكرا في قمع السوريين ودعم نظام الأسد ؟ وتورط الحزب الطائفي في الشأن السوري حتى قبل ظهور المعارضة المسلحة ، اعتباره دفاعاً استباقياً عن بعلبك والهرمل في مواجهة خطر التكفيريين (السنة) .
والحقيقة أن حزب الله ذهب إلى سوريا لأسباب طائفية بحتة؛ لأن إيران على قناعة بأن النظام السوري هو نظام علوي – شيعي يواجه ثورة سنية.
ومن المسئول عن ولادة الحشد الشعبي،آخر ظواهر الطائفية الإيرانية في المشرق والعالم الإسلامي ؟!فقد تشكل الحشد بفتوى دينية من مرجع شيعي، وتشكل حصرياً من وحدات شيعية، وينحدر أغلب قياداته وكوادره من تنظيمات شيعية طائفية، مارست القتل والخطف على الهوية والتفجير خلال سنوات التدافع الطائفي السابقة في العراق ، ليلعب هذا الظهير الطائفي الجديد دور الجيش الوطني في دولة ولاية الفقيه الإيراني على العراق .
كل هذه الأفخاح الطائفية والألغام الشيعية المسئول عنها إيران وحليفتها الوثيقة أمريكا ، واللذان يسعيان سويا لتفجير المنطقة بموجة جديدة من الصراع الطائفي الذي يحيل المنطقة من المحيط إلى الخليج إلى بحر من النيران اللاهبة التي لا تبقي ولا تذر ، ولم يبق على إنفاذ هذا المشروع الشيطاني سوى جر السعودية لهذا المستنقع الطائفي من أجل تفجيرها وتفخيخها ، لو عدنا للواراء قليلا لوجدنا تصريحات من أعلى المسئوليين الإيرانيين تتحدث عن ذلك صراحة ، أجرأها التصريح العاصف للسياسي والبرلماني المخضرم " على رضا زكاني" في جلسة 5 نوفمبر 2014 والذي تحدث فيها عن قرب إنهيار المملكة السعودية ، وهيمنة إيران على العالم الإسلامي بعدها ، وأشار إلى سماه مرحلة “الجهاد الأكبر” لدى إيران. مشيرا إلى نية إيران لإعداد وتصدير مشروعها ونموذجها من الثورة الإسلامية للمنطقة الأكبر، من أجل تحقيق ما يُفهم على أنه استقلال وتحرر سياسي واجتماعي وديني في إطار ثوابت الإسلام .
وللتأكيد على هذه العلاقة الوثيقة والخطة المعدة سلفا بين أمريكا وإيران من أجل تفجير المنطقة بالصراعات الطائفية ، واستهداف السعودية تحديدا بهذه الحرب ، تبارت الصحف الأمريكية هذا الأسبوع في الهجوم على المملكة بعد إعدام "النمر" وقرار قطع العلاقات مع إيران ، حتى أن من فجاجة الهجوم الإعلامي الأمريكي على السعودية تشعر أن اللطمة السعودية قد وقعت على صدغ أمريكا وليس إيران.
صحيفة "نيويورك تايمز"، الأقرب إلى البيت الأبيض، نشرت افتتاحية وصفت فيها إعدام السعودية لمواطنيها بـ"العمل البربري"، ونشرت في صفحة مقالات الرأي -وهذه غالباً ما تكون الرأي الآخر المخالف لرأي الصحيفة- مقالة أخرى بعنوان: "لعبة السعودية الطائفية الخطيرة"، فيما قام مراسلها في البيت الأبيض، ديفيد سانجر، بتدبيج مقالة حمّل فيها السعودية مسؤولية التوتر في المنطقة واحتمال انفراط عقد المفاوضات السورية المقررة في جنيف ، حتى في صفحة "مساحة للنقاش"، نشرت الصحيفة 4 مقالات، بقلم الإيرانية هالة إسفندياري والمعارض السعودي علي الأحمد والفلسطيني الذي سبق طرده من الخليج إياد بغدادي،والمقالة الرابعة، وهي الأقل عداء للمملكة، جاءت بقلم مسؤول أوباما السابق للملف الإيراني دنيس روس.
وفي مراكز الأبحاث وبين الأكاديميين، تحرّك مناصرو إيران، وتصدّرهم عميد كلية الدراسات الدولية الإيراني "ولي نصر"، ابن آية الله رضا نصر. واتهم نصر في تغريداته السعودية بإثارة النعرات الطائفية. أما المفارقة، فتكمن في أن نصر هو صاحب كتاب "النهضة الشيعية" الذي يحضّ فيه واشنطن على استبدال حلفائها الحاليين السنّة في الشرق الأوسط بإيران .
بالجملة فإن الخلافات السنية الشيعية خلافات عقائدية وتاريخية قديمة، لكن ما يبعثها بين الحين والآخر ويؤجج نيرانها هي الأجندات السياسية المتصارعة في المنطقة، التي تجد في تلك الورقة الطائفية بابا واسعا لتحقيق أهدافها المحددة بعناية
لذلك حسنا ما فعلت السعودية عندما انتبهت للفخ الإيراني الأمريكي ، وأكدت على لسان وزير دفاعها أنها لن تتورط في حرب طائفية ضد إيران ،وأنها تتدرك طبيعة العلاقات الأمريكية الإيرانية ،وانحياز إدارة أوباما لمشروع إيران الطائفي ، ولكنها لن تقف كتوفة الأيدي أمام كل هذه المؤامرات ، لذلك يجب الحذر والانتباه بشدة في الأيام القادمة ، فالمملكة قد كشفت الغطاء ، وفضحت المؤامرة ، واللعب في الأيام المقبلة سيكون على المكشوف.
ولكن يبقى في النهاية تقرير الحقيقة التي لابد أن تعيها إيران وحلفاؤها من الأمريكان والروس؛أن الصراع مع السعودية بهذا المنطق الطائفي ،سوف يقود إلى جحيم لن تكون طهران أو حلفاؤها هم الطرف الرابح فيه بكل تأكيد؛ فالرياض لو أعلنت "نفير الجهاد" ضد الشيعة لن يكون بمقدور أي أحد الحديث عن وجود إيراني مستقر في المشرق الإسلامي، وتضيع مكتسبات عقود طويلة ماضية حاربت فيها طهران لتكريس مناطق نفوذها الحالية، خصوصًا في العراق وسوريا ولبنان. لذلك فهي لعبة خطرة يجب على الجميع الانتباه لها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق